تخطيط مدن أذكى لعدالة أكبر في الجنوب العالمي
11 December 2025
نشرت بتاريخ 11 ديسمبر 2025
نظرة على الدور المحوري الذي يلعبه التطور التقني والتكامل المنظومي والمشاركة المجتمعية في بناء مشاريع المدن الذكية في المنطقة.
وفقًا لنمذجة أجراها البنك الدولي، من المتوقع أن يسكن سبعة من كل عشرة أشخاص المدن بحلول عام 2050. ومع تمدد المدن، تنشأ الحاجة إلى حلول جديدة لاستيعاب النمو السكاني والزحف العمراني والتحديات البيئية. وتُعد المدن الذكية المترابطة (SCC) في مقدمة هذه الحلول.
تطور مفهوم هذه المدن عبر الأجيال. ففي البداية، ركَّز على تبني التقنيات الجديدة مثل إنترنت الأشياء (IoT)، والحوسبة السحابية، ومجموعات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. ثم اتسع المفهوم ليقتضي مشاركة صناع القرار القادرين على وضع سياسات لتبني هذه التقنيات من أجل تعزيز جودة الحياة. ومن ثم اتسع أكثر ليقتضي مشاركة المواطنين في وضع وتنفيذ الحلول للتحديات القائمة.
وقد ظهر مفهوم المدن الذكية المترابطة أول مرة في عام 2008، عندما أسهمت شركتا «آي بي إم» IBM و«سيسكو» Cisco في بناء مراكز متابعة في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية ومدينة سونجدو في كوريا الجنوبية، حيث أتاحت مسوح هذه المراكز رصد حركة المرور، واستهلاك الكهرباء، والوقوف على عمليات الصيانة المطلوبة آنيًا.
بعد ذلك، مر تطور مفهوم المدن الذكية المترابطة بثلاث مراحل. بدأت المرحلة الأولى منها عام 2011 وركزت على قياس استدامة المدن. أما الثانية، فأعقبتها في عامي 2015-2016، بهدف إرساء مؤشرات ومعايير لذكاء المدن. في حين جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة بعد عام 2016، لتستهدف وضع تقييم شامل للمدن وتحقيق المشاركة المجتمعية في بنائها.
وتحتضن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العشرات من مبادرات المدن الذكية المترابطة، يتركز معظمها في دول الخليج.
في هذا السياق، ترى ريتشيل جورج، وهي زميلة محاضرة في كلية سانفورد للسياسات العامة بجامعة ديوك أن المدن الذكية في المنطقة تبشر بالكثير على صعيد تبني الحلول الفعالة على نطاق واسع في مجالات الأمن والشرطة، وإنشاء بِنى تحتية آمنة، وتحقيق الاستدامة البيئية.
البنية التحتية
يشير رينوكابا سوريش، وهو محاضر أول في كلية العلوم والهندسة بجامعة وولفرهامبتون، إلى أن أهم ما يميز البنى التحتية في المدن الذكية هو التكامل المنظومي، بمعنى تكامل منظومة التقنيات الرقمية بشكل سلس مع المنظومة الحضرية لتعزيز كفاءة استخدام الموارد والاستدامة ورفع جودة الحياة. فينبغي للبنية التحتية الذكية أن تتيح اتخاذ قرار مرتكزة على البيانات في جميع القطاعات، لضمان فاعلية استخدام الموارد مع الحد من الأثر البيئي الناجم عن استهلاكها. وحسبما يشدد محمد سليمان، وهو زميل أول في معهد الشرق الأوسط الكائن في العاصمة الأمريكية واشنطن، لا تعود المدن الذكية بالفائدة المرجوة منها في المدن أو المناطق الحضرية السكنية القائمة إلا بسلاسة وكفاءة عملياتها. وفي الشرق الأوسط، يُحتمل أن تترجم فكرة هذه المدن إلى مشروعات متنافرة ومنفصلة عن بعضها البعض، عوضًا عن إزاحة الأعباء عن كاهل المدن الكبرى القائمة بالفعل.
وهو ما يوضحه سليمان قائلًا: "لن ينتقل الأفراد للعيش في هذه المدن لمجرد استخدامها للألواح الشمسية. فهم بحاجة إلى الوظائف والسكن بأسعار معقولة وإلى الإحساس بالانتماء لمجتمع. وهذا هو المعيار الأصدق لاستدامة المدن، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي".
وتُعد التقنيات الركيزة الأهم في بناء المدن الذكية والمدن الذكية المترابطة. على سبيل المثال، ينتج عن تبني التقنيات الذكية تعزيز السلامة، لأنها قادرة على خفض معدلات الجريمة عبر استحداث خرائط آنية لأماكن وقوعها ووضع سياسات تنبؤية بحدوثها من خلال تحليل أنماط البيانات والاستناد إلى الإحصاءات.
كما يمكن للتطبيقات الذكية مساعدة المصابين بالأمراض المزمنة بقراءة مؤشراتهم الحيوية ومشاركة هذه البيانات مع اختصاصيي الرعاية الصحية لتقييمها. ومن الأمثلة الأخرى لمزايا هذه التطبيقات في مجال تحسين الرعاية الصحية، خدمات الاستشارة الطبية عن بعد والتواصل الرقمي بين المرضى واختصاصيي الرعاية الصحية وتحسين الاستجابة للعمليات والحالات الطبية الطارئة.
كذلك يمكن لعدد من التقنيات المساعدة في فتح الطرق أمام سيارات الإسعاف، وتقليص الوقت المستغرق في التنقلات اليومية بنسبة تتراوح ما بين 15 إلى 20%، والحد من هدر الماء بنسبة 25% من خلال الاستعانة بالمستشعرات والتحليلات البيانية.
المدن الذكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تُعد مدينة مصدر في الإمارات العربية المتحدة، ومدينة نيوم في المملكة العربية السعودية ومدينة لوسيل في قطر من الأمثلة البارزة على مبادرات إنشاء المدن الذكية الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وترتكز مدينة نيوم NEOM على ثلاثة محاور هي المعارف والتجارة والابتكار، وتحتضن على أرضها ثلاثة مشروعات هي: مشروع «أوكساجون» Oxagon، الرامي إلى التحوُل إلى مركز للصناعة والابتكار، ومشروع «تروجينا» Trojena الذي يهدف إلى مواءمة المنطقة مع طبيعة مناخها، ومشروع «ذا لاين» The Line لتحسين النقل.
أما مدينة لوسيل القطرية، والتي رُصدت لها استثمارات تربو قيمتها على 45 مليون دولار أمريكي فمن المتوقع أن يقطنها 500 ألف شخص، وتهدف إلى تحسين جودة حياة قاطنيها عبر أربعة محاور: الجاهزية للمستقبل، والمشاركة المجتمعية والتجارة والتكامل المنظومي.
وهناك، من خلال مركز لوسيل للقيادة والتحكم (LCCC)، تجري مراقبة جميع المستشعرات والعدادات، ويتم تداول المعلومات وتناقلها عبر شبكة من الألياف البصرية تمتد بامتداد المدينة. كذلك يُدير المركز الاتصالات عن بعد وتوليد الكهرباء وجمع النفايات وتبريد الأحياء عبر عدادات ذكية قادرة على توفير البيانات آنيًا. وتتمتع جميع المنازل في لوسيل بأتمتة ذكية ويديرها نظام مركزي.
أما مدينة مصدر الإماراتية، فيُقال إنها المدينة الوحيدة التي نجحت في الوصول إلى الحياد الكربوني، بالسعي إلى تحقيق صافي انبعاثات صفري. فتسعون بالمائة من مباني المدينة شُيد باستخدام الإسمنت منخفض الكربون.
في هذا الصدد، يقر محمد البريكي المدير التنفيذي المعني بالتنمية المستدامة في مدينة مصدر بأن المدن الذكية هي التي تُصمم لتتمتع بالتنافسية الاقتصادية وبحس المسؤولية البيئي، ولتكون نابضة بالحياة على الصعيد الاجتماعي، وكلها سمات اجتمعت في تصميم مدينة مصدر.
فالمدينة تحتضن أكثر من 1700 شركة من أكثر من 90 بلدًا، وتضخ استثمارات في قطاعات مثل الطاقة وعلوم الحياة والتقنيات الزراعية والطاقة النظيفة.
ويوضح البريكي أنه على امتداد المدينة تعمل شبكات مستشعرات وأجهزة تحكم ذكية على إدارة الإضاءة والتبريد والري آنيًا، استجابة لنسب الإشغال والظروف المناخية بها من أجل تحقيق أقصى راحة وكفاءة.
ويضيف: "تحتاج المدن الذكية للعمل على أتم وجه إلى متطلبات أخرى بخلاف البنية التحتية المستدامة والقاعدة الاقتصادية القوية، فهي بحاجة إلى حوكمة تضمن الشفافية والمساءلة والإدارة الأخلاقية".
المشاركة المجتمعية
نظريًا، ينبغي لمجتمعات المدن الذكية المترابطة التعاوُن من أجل مواجهة التحديات مثل خفض استخدام الوقود الأحفوري وتوفير بدائل له. على سبيل المثال، في أوروبا، يسنح للأفراد الاستثمار في مزارع الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح ووحدات تخزين الطاقة وغيرها من الأصول المشتركة الخاصة بمنطقتهم، كما يسنح لهم إدارتها. كذلك يمكن لهم توظيف تقنيات لتعزيز سلامتهم وخصوصيتهم أو الحد من الهدر.
غير أن الوضع يختلف في دول منطقة الخليج حيث يُنظر إلى المدن الذكية المترابطة على أنها مشاريع عملاقة تقوم على خطة مركزية رئيسة وتصميم غربي. على سبيل المثال، انتقد باحثون مدينة مصدر على اعتبار أنها مشروع اقتصادي وليس مبادرة اجتماعية.
وبالمثل، يتوقع باحثون وجود تحديات في مدينة نيوم، من بينها سوق العمل السعودية التي تعتمد بكثافة على المغتربين. ورغم أن الحكومة السعودية رصدت 500 مليار دولار لمشروع المدينة، فهو يواجه مخاطر مالية في ضوء تكلفته الاستثمارية وأفقه الزمني.
من ثم، ينصح باحثون باستراتيجيات مثل جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والقروض منخفضة الفائدة وعقد الشراكات وبناء المشروعات المشتركة إلى جانب الدعم الحكومي. كما يوصون بالتحلي بالمرونة في تبني السياسات ووضع الأعراف الاجتماعية لاستيعاب مليون شخص تختلف ثقافاتهم وخلفياتهم الاقتصادية.
ويرى سوريش أن أغلب المدن الذكية المترابطة في المنطقة تتفاوت في مستوى تنميتها ولا تزال تعتمد على استراتيجيات جزئية تركز على الطاقة أو النقل أو أنظمة الحوكمة.
ولكي تعمل هذه المدن بأقصى كفاءة لها، يرى سوريش أنها تحتاج إلى بنية تحتية رقمية محكمة وأطر حوكمة متكاملة تدعمها ضوابط لحماية أمن البيانات والخصوصية، وسياسات تستوعب شتى الأطياف تضمن القدرة على الوصول إلى الخدمات وتوفرها، فضلًا عن تمويل مستدام واستثمارات طويلة الأجل ومشاركة مجتمعية؛ كي يلمس الأفراد فوائد هذه المدن في حياتهم اليومية.
ويضيف أن التوسع في تبني هذه الحلول لتأخذ في الحسبان شتى الأطياف مهم بالقدر ذاته لضمان تلبيتها لحاجات المجموعات السكانية على اختلافها بدلًا من خدمة مجموعات الأثرياء فقط. وعندما يجتمع في المدن الذكية التكامل المنظومي والاستدامة وتمثيل شتى عناصر المجتمع، لا يمكن اختزال البنية التحتية في مجموعة من التقنيات، إذ تصبح محركًا نحو المرونة في مواجهة التحديات والتنافسية والرفاه الاجتماعي. ورغم أن المدن الذكية المترابطة تهدف إلى تغيير الحياة إلى الأفضل، فيحتمل أن تكون لها مساوئ. فإنشاء البنية التحتية لهذه المدن وصيانتها يفرضان أعباء على التمويل العام، فضلًا عن اقتطاعات من ميزانية الدولة في مجالات أخرى. كما أن هذه المدن تعتمد اعتمادًا كثيفًا على التقنيات وجمع البيانات، ما تنشأ معه مخاوف تتعلق بالخصوصية وخطرالتعرض للهجمات السبرانية، وهي هجمات قادرة على هدم جميع عناصر الحياة في المدن الذكية، بما في ذلك خدمات المياه وإمداد الكهرباء والنقل.
هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور بتاريخ 11 ديسمبر 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.208
تواصل معنا: