أخبار

تخطيط مدن أذكى لعدالة أكبر في الجنوب العالمي

نشرت بتاريخ 11 ديسمبر 2025

في دول الجنوب العالمي، سيكون المعيار الأصدق لذكاء المدن هو انخفاض الوفيات الناجمة عن موجات الحر بها، وأمانها وترابط أنحائها. وسيحسم العِقد الحالي ما إذا كان التحوُل الرقمي سيعزز انعدام المساواة في هذه المدن أم يرسي عَقدًا اجتماعيًا جديدًا في تخطيط بِنيتها التحتية.

عصمت زيدان

Credit: Noushad Thekkayil/NurPhoto via Getty Images

Credit: Noushad Thekkayil/NurPhoto via Getty Images

فلوقت طويل، ظل المفهوم الرائج للمدن الذكية يختزلها في مجموعة من الأدوات التقنية. أما الجنوب العالمي، فقد أخذ يضع تعريفًا أكثر صلة بواقعه لهذه المدن، يتمثل في أن المدن الذكية هي تلك التي تطور إمكاناتها بما يفسح فرصًا لغير القادرين، وتخفض الانبعاثات، في الوقت الذي تكفل فيه أيضًا الراحة، وتخلق مؤسسات قادرة على الصمود ومواكبة صعود التقنيات واندثارها. 

ابتكارات تلائم السياق

في مجال تخطيط النقل الحضري، التحوُل الذي يعِد بتحقيق أكبر قدر من المكاسب هو الانتقال من المشروعات المرتكزة على تقنيات بعينها إلى تخطيط منظومة المدينة بناءً على أهداف محددة. وهذا التوجه القائم على حل المشكلات أعاد بالفعل تعريف مجال النقل.

على سبيل المثال، بدلًا من السعي وراء نشر المركبات ذاتية القيادة على نطاق واسع، شرعت مدن عديدة في تبني التحول الرقمي في عمليات تشغيل الحافلات، وفي الربط بين شبكات الحافلات غير النظامية، والدمج بين بيانات النقل الآنية وأنظمة الدفع المشتركة.   

أحد الأمثلة على ذلك مشروع «ديجيتال ماتاتوس» Digital Matatus في نيروبي، الذي نجح في رسم خريطة لخطوط الحافلات غير النظامية وتوحيد بياناتها، وتحويلها إلى بيانات مفتوحة تُستخدم لتحسين إدارة خيارات التنقّل اليومية في المدينة. وفي مدينة دكا، يعمل نظام التذاكر الموحد، وهو مشروع تجريبي تابع لهيئة النقل البري في بنجلاديش (BRTA)، على تحقيق التكامل بين خدمات مشغلي مركبات النقل المملوكة للقطاع الخاص تحت مظلة نظام رقمي موحد. أما في القاهرة ولاغوس، فتعكف سلطات المدينتين على التعاوُن مع شركات ناشئة محلية لجلب التحوُل الرقمي إلى خدمات النقل صغيرة النطاق، والاستعانة بأنظمة إدارة الأساطيل القائمة على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في تشغيل حافلات النقل الجماعي والشاحنات التي تعمل بنظام تشارك الركوب.

وفي أنحاء كثيرة من جنوب آسيا وبقاع من إفريقيا، صارت البنية التحتية الرقمية، بما يدخل فيها من أنظمة رقمية موحدة لتعريف الهوية والدفع وتشارُك البيانات، تشكل إطار تصميم الخدمات الحضرية. 

 وتكامل عمل قطاع النقل والمرافق وهيئات السجلات الصحية، يدفع عجلة الابتكار؛ فتُبتكر العدادات المحمولة باليد التي قد تحد من هدر الماء، وأنظمة استصدار التذاكر التي تسهل استقلال الحافلات، ومحطات الاستشارات الطبية عن بعد التي توفر الرعاية الصحية الأولية للمجتمعات التي تفتقر إليها. فمن الأهمية بمكان، أن هذه المنصات تحد من تكلفة المشروعات التجريبية المحلية، لتتيح للمدن الصغيرة، التي عادة ما تنمو بخطى أسرع، الابتكار من دون الحاجة إلى أنظمة مُواءمة ومكلفة.

استدامة في ظل موجات الحر والإجهاد المائي

بدأ التغير المناخي يعيد تشكيل خطط التصميم الحضري في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا والهند. فمخاطر موجات الحر تطال الجميع بلا استثناء، بيد أنها لا تعرف العدل.  

والاستثمارات الأنجح نحو بناء مدن ذكية في هذا السياق، تبدو ظاهريًا بسيطة. في الدوحة على سبيل المثال، ترتبط مواعيد جرد أشجار المدينة بمواعيد صيانة مرافقها للحد من التعرض للحر في ممرات المشاة. أما في مدينة أحمد أباد، فتعمل السلطات على وضع خريطة بالأسطح العازلة للحرارة بالمدينة وتصنيفها لتحسين تخصيص الدعم الموجه لتحديث الأسطح وتركيبها بموجب خطة عمل المدينة لمواجهة الحر. وفي مدينة كيب تاون، تُستخدم بيانات المناخ الأصغري للوقوف على المناطق التي يمكن فيها للمظلات والنافورات أو محطات نثر رذاذ الماء أن تنقذ الأرواح خلال موجات الحر.

 

وتشكل إدارة الكهرباء والماء المحور الثالث في تخطيط المدن الذكية.  في كيغالي، تعمل أنظمة لا مركزية لتوليد الطاقة الشمسية واختزانها كشبكات كهرباء مصغرة، تزود العيادات الصحية والمدارس بإمدادات من الطاقة يمكن التعويل عليها لتشغيل أجهزة التبريد والمعدات الطبية. وفي دبي، تُسهم شبكات واسعة النطاق لتبريد الأحياء وأنظمة لإدارة الطاقة آنيًا في المباني في خفض الطلب على الكهرباء في المناطق متعددة الاستخدامات ذات الكثافة السكانية المرتفعة. وفي الوقت ذاته، في تشيناي، تعمل برامج ذكية لمراقبة استهلاك الماء والطاقة على تحسين كفاءة عمل مباني البلديات وخفض الأحمال في ساعات الذروة التي تشهدها موجات الحر.

وعلى صعيد إدارة الماء، يُمكن لأنظمة إدارة ضغط الماء وكشف التسرب ومراقبة الصرف أن توفر ملايين اللترات من المياه يوميًا. وهذه التقنيات - جميعها - لا تمثل قفزات علمية كبرى، فهي ببساطة تقوم على الاستعانة دائمًا بأجهزة الاستشعار وبروتوكولات البيانات المفتوحة، وخطط الصيانة التي لا يتأثر تمويلها بنتائج الدورات الانتخابية.

العدالة مطلب أساسي

 إن كان للمدن الذكية أن تقلص الفوارق الاجتماعية، فيجب أن تُعد العدالة محورًا أساسيًا في المراحل المبكرة من التخطيط لهذه المدن. فالفوارق في القدرة على الوصول إلى الأجهزة الرقمية، وتكلفة البيانات والأمية واللغة، جميعها عوامل قد تعزز انعدام المساواة في المدن. وتحتاج المدن إلى تصميم يراعي جميع الأطياف، يتيح - دون اتصال بالإنترنت أو استهلاك فدر كبير من البيانات - الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما يعني إنشاء نقاط مشتركة تتيح للعديد من المستخدمين الوصول للخدمات الرقمية في الأماكن العامة، باللغة المحلية وبمساعدة بشرية. 

وفي حال الأحياء العشوائية، سوف يعد الوصول إلى الخدمات، لا الابتكارات أو التقنيات، مقياسًا لذكاء المدينة. ويعني هذا السماح للأفراد بامتلاك عناوين رقمية تُسهل إمدادهم بالخدمات، أو اشتراكهم في خدمات المرافق أو إدماجهم في خريطة البنية التحتية المجتمعية. 

كذلك يجب أن تكون النساء والفتيات اللاتي تتحملن أعباء أكبر في رعاية الأسرة، محل اهتمام في تصميم المدن، ويدخل في ذلك تطوير خوارزميات توجههن إلى أفضل المسارات من حيث الأمان وجودة الإضاءة، مع إعطاء الأولوية للطرق غير المزدحمة التي تتيح التوقف في عدة محطات.  

التحدي الأصعب: الحوكمة 

يمكن أن تقف مؤسسات الدولة عائقًا حقيقيًا أمام التقدم، إذ تعتمد اعتمادًا كثيفًا على أنظمة مغلقة؛ منفصلة عن بعضها البعض، يصعب تحقيق التكامل بينها أو استبدالها. وتحتاج المدن إلى أنظمة توريد خدمات وتقنيات تكافئ الأداء الجيد بناء على معايير تتسم بالشفافية وعقود مرنة تضمن إمكان التطوير بغض النظر عن المورد.  

وينبغي أن تتمثل أنظمة حماية الخصوصية والمراقبة في أطر واضحة، بوضع أسس قانونية فيما يخص جمع البيانات، وقيود تحد من تحصيل هذه البيانات لينحصر في تلبية الأغراض الضرورية فقط، ووضع مواعيد لحذف البيانات بعد استيفائها للغرض المطلوب منها وتعيين جهة مستقلة للإشراف على كل لك.  

كذلك ينبغي السماح للمواطنين بالوصول إلى بياناتهم بتزويدهم بالموارد الكافية لذلك حال تعطُل الأنظمة الرقمية. والأمن السيبراني ينبغي أن يكون من بين الأولويات، بما أن البِنى التحتية الأساسية مثل محطات المياه، وأنظمة المرور والمستشفيات تُعد أهدافًا للهجمات السيبرانية. وللاقتصاد السياسي المنظِم لعمليات الصيانة في المدن الذكية الأهمية نفسها.  

تحديات مشتركة وآفاق إقليمية مختلفة

في الوقت الذي تواجه فيه دول الجنوب العالمي التحديات نفسها، فهي تختلف في منطلقاتها. على سبيل المثال، يتسم الشرق الأوسط بارتفاع درجات الحرارة الشديد وشح المياه به. ومن ثم، تأتي كفاءة الطاقة في المباني وتبريد الأحياء والحد من هدر الماء على رأس أولوياته. 

أما في إفريقيا، حيث يزداد إنشاء ضواحي المدن ببنى تحتية غير رسمية، فيُمكن للخدمات المرتكزة على الأجهزة المحمولة الذكية وشبكات الطاقة الشمسية اللامركزية، وبناء الخرائط بالتعهيد الجماهيري تحقيق خطوات وثابة نحو تجاوز الأنظمة القديمة.  أما في الهند، فالبنية التحتية الرقمية يمكن توسعتها، لكن يبقى استيعاب الفئات والمناطق المهمشة تحديًا.  

لكن برغم هذه الاختلافات، يظل الطريق نحو التقدم قائمًا على المبادئ نفسها: على مدن الجنوب العالمي أن تضع لنفسها أهدافًا مجتمعية قابلة للقياس، وأن تعتمد على بنى تحتية رقمية مفتوحة، وتحمي الخصوصية وتضمن استيعاب شتى الأطياف، والاستثمار في المهارات المحلية والصيانة.

  هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور بتاريخ 11 ديسمبر 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.209