أيهما أكثر ابتكارية: الأفكار وليدة الذكاء الاصطناعي أم وليدة البشر؟
01 December 2024
نشرت بتاريخ 18 مايو 2023
جهود جديدة لتعيين تسلسل الجينوم تُظهر روعة التنوع البشري.
شهد العالم لحظةً فاصلةً في تاريخ العلوم الطبية الحيوية، حين عيَّن الباحثون أول تسلسل كامل للجينوم البشري في عام 2003، فتح ذلك الاكتشاف الباب واسعًا لفهمٍ أفضل للصحة والمرض، ولتوفير علاجات أفضل للأمراض وتحسين سبل التعامل معها والوقاية منها، وكشف لنا عن عِظم تعقيد الكروموسومات الستة والأربعين التي تحمل الشفرة الوراثية لهذا النوع المعروف بالإنسان العاقل.
بيد أنَّ ذلك الجينوم البشري عبَّر عن الحمض النووي لعينة صغيرة للغاية؛ فقد أُخذ معظمه من فرد واحد فقط، ثم من كروموسوم واحد فقط من كل زوج كروموسومي، فيما يُعرف بالنمط الفرداني، ومع أنَّه مثَّل تسلسل الجينوم البشري الأكثر اكتمالًا في ذلك الوقت، فقد احتوى على فجواتٍ لا يُستهان بها.
أمَّا اليوم فقد نشر اتحاد دولي للباحثين -يضم باحثين تابعين لمستشفى الجليلة التخصصي للأطفال وجامعة محمد بن راشد للطب والعلوم الصحية في دبي- مسودة جينوم شامل تتألف من تسلسل كامل للجينوم البشري مأخوذ من 47 فردًا، ينحدر أكثر من نصفهم من أفريقيا، وثلثهم تقريبًا من الأمريكتين، و13% منهم من آسيا، و2% من أوروبا، ومنهم مَن لديه أسلافٌ من الأفارقة الكاريبيين أو الجامبيين أو البيروفيين أو البنجابيين أو الهان الصينيين أو اليوروبيين النيجيريين.
بدأ هذا المشروع منذ عقد من الزمان تقريبًا في صورة حوار حول كيفية بناء تسلسل مرجعي للجينوم البشري، يمثل التنوع البشري تمثيلًا أفضل، وذلك وفقًا لقول بنديكت باتن، مدير مختبر علم الجينوم الحاسوبي التابع لجامعة كاليفورنيا في سانتا كروز والباحث الرئيسي المشارك في هذه الدراسة.
ويوضح باتن قائلًا: "يُستخدم المرجع باعتباره عدسةً يُنظر من خلالها إلى علم الجينوم كله تقريبًا، فإذا نظرت إلى كل شيء من خلال مجموعة واحدة من التسلسلات التي لا تعبر بالضرورة عن العينات التي تدرسها أو الأشخاص الذين تحاول تعيين تسلسل الجينوم الخاص بهم، فأنت توقع نفسك في فخ الانحياز".
لكن الأمر تطلَّبَ تطوراتٍ تقنيةً عديدةً لتعيين هذه التسلسلات المتعددة وتجميعها، بغية تحقيق المنجَز الأول للمشروع، والمتمثل في نشر تسلسلات الجينوم لأول 47 فردًا من أصل 350.
هذا المنجَز الأول يصفه إريك جاريسون -الباحث في علم الوراثة الحاسوبي بمركز علوم الصحة بجامعة تينيسي، والمشارك في الدراسة- بأنه "ثورة هائلة في مجال التكنولوجيا النانوية"، تُمكِّن العلماء من النظر إلى جزيئات مفردة من الحمض النووي، ويضيف جاريسون: "إن حقيقة أنَّه أصبح باستطاعتنا الحصول على جزيء واحد، تعني أنَّ بإمكاننا أخذ قراءة جينومية واحدة طويلة، بل بالغة الطول".
يُذكر أنَّ تقنية تعيين التسلسل التي كانت موجودةً إبَّان مشروع الجينوم البشري الأول أتاحت قراءة تسلسلات بطول 100 إلى 150 زوجًا قاعديًّا، وهي جزيئات الحمض النووي المزدوجة التي تمثل الوحدات الأساسية للحمض النووي، إلا أنَّ التطور التقني الحاصل الآن يجعل من الممكن تعيين تسلسل شرائط الحمض النووي البالغ طولها عشرات الألوف، بل مئات الألوف من الأزواج القاعدية.
يقول باتن: "كنَّا سابقًا نركّب أحجية معقدة ذات قطع متناهية الصغر، وبالتالي كان من المستحيل حلها لأنَّ القطع متشابهة جدًّا، وفجأةً وبدلًا من ذلك، أصبحت القطع التي نحاول ضم بعضها إلى بعض أكبر حجمًا وأقل عددًا بكثير".
أمَّا التطور التقني الآخر، فيتمثل في مجال علم الجينوم الحاسوبي، الذي مكّن الباحثين من تركيب قطع الأحجية الجينية بدقة أكبر بكثير، يقول باتن: "إنَّنا نفكر في وسائل لجعل بيولوجيا علم الجينوم الحاسوبي ممكنة، وذلك من حيث كيفية تجميع الجينومات، وكيفية العثور على المتغيرات في بيانات التسلسل، وكيفية فهم الاختلافات التي حدثت بين الجينومات".
تعيَّن على الباحثين أيضًا تطوير طريقة جديدة لعرض هذه الثروة من البيانات الجينومية وإبراز التبايُن الجيني الذي لوحظ بين العديد من الجينومات، وقد حققوا ذلك من خلال تمثيلٍ بياني للجينوم، تُعرض فيه المتغيرات الموجودة في تسلسل معين، ويُفصَّل كلٌّ منها على حدة في تمثيلات بيانية فرعية "فقاعية".
يقول تينج وانج، الباحث المشارك في الدراسة وعالِم الوراثة وعلم الأحياء الحاسوبي في معهد ماكدونيل للجينوم، التابع لجامعة واشنطن في سانت لويس: "هذا التمثيل البياني للجينوم هو ما نعتقد في هذه المرحلة أنَّه أحدثُ ما توصل إليه العلم بهذا الصدد، لكن من الوارد ألا يكون هو الشكل النهائي؛ فالكثير من الباحثين يحاولون معرفة ما إذا كان ثمة طرق أخرى لتمثيل هذه البيانات"، وهذا يعني أيضًا أنَّه يجب تطوير أدوات تمكِّن الباحثين في مجال الطب الحيوي من تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذه الثروة المتنامية من البيانات الجينية، على حد قول وانج.
أمَّا أليوفونمليو ألوبادي، أخصائية الأورام وعالِمة الوراثة السرطانية في مركز علم الوراثة السرطانية والصحة العالمية التابع لجامعة شيكاجو، فترى أن الجينوم الشامل "مغيِّر لقواعد اللعبة" في عملها الذي يتناول التبايُن في جينات سرطان الثدي لدى النساء السود وتفاعُلاتها مع العوامل البيئية.
تقول ألوبادي التي لم تشارك في الدراسة: "أشعر بسعادة غامرة لأنَّه أصبح لدينا هذا الجينوم المرجعي الذي يشتمل على عدد كبير من الجينومات المتنوعة، إنَّ هذه الورقة البحثية تمنحنا المزيد لنفكر فيه عند تصميم التجارب التي تبحث في مدى تبايُن الأمراض".
جديرٌ بالذكر أن مشروع الجينوم الشامل يعمل حاليًّا على تعيين تسلسلات مزيد من الجينومات، ضمن سعي الباحثين إلى تحقيق هدفهم المتمثل في تعيين 350 تسلسلًا كاملًا يضم جميع الأزواج الكروموسومية.
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.59
Liao, W. et al. A draft human pangenome reference. Nature https://doi.org/10.1038/s41586-023-05896-x (2023).
تواصل معنا: