هل عقلك متعب؟ إليك أبحاث تسبر أسباب الإجهاد الذهني
31 December 2025
نشرت بتاريخ 31 ديسمبر 2025
يُمكن لتطوُر أساليب قياس الإجهاد الإدراكي أن تدل على علاجات لآثار «كوفيد الممتد» وغيره من الاضطرابات الموهِنة.
بالمقارنة بذكاء الآلة الذي يبقى ثابتًا عند مستواه إلى أن ينفد مصدر إمدادها بالطاقة، يُصاب الدماغ البشري بالإرهاق، ولا تحتاج إلى أن تكون حاملًا للقب أستاذ كبير في الشطرنج لفهم هذا الشعور. إذ يمكن لأي من كان بعد يوم طويل، من العمل أو الدراسة، أو التصدي لعدد لا حصر له من مهام معالجة قرارات الحياة اليومية، أن يشعر بالإرهاق والإنهاك. وهذا الإجهاد الذهني قد ينال من عزيمة المرء ويضعف تركيزه وقدرته على الحكم على الأمور. فضلًا عن أنه قد يعزز احتمالات الوقوع في أخطاء السهو غير المتعمدة. على سبيل المثال، قد يسهم الإجهاد الإدراكي في الوقوع في أخطاء طبية قاتلة وحوادث مرور مميتة، لا سيما إن امتزج بعدم كفاية النوم أو اضطراب الساعة البيولوجية للجسم.
وقد وجد ماتياس بيسيجليوني، اختصاصي علم الأعصاب الإدراكي والمدير المعني بالأبحاث في «معهد باريس لصحة الدماغ» بعض الإلهام لأبحاثه حول الإرهاق الذهني في تلك التعليقات التي وردت عن كاسباروف وهو متعب. فسعى إلى معرفة "السبب الذي يجعل نظامنا الإدراكي عُرضة للإرهاق".
يُذكر هنا أن الباحثين والأطباء الإكلينيكيين لطالما وجدوا صعوبة في الوقوف على طبيعة الإجهاد الإدراكي وفي قياسه وعلاجه؛ إذ اعتمدوا في الأغلب في هذه الجهود على الإفادات الشخصية للأفراد عن مدى شعورهم بالتعب. أما اليوم، فقد بدأ علماء من مجالات شتى في توظيف مقاربات تجريبية مبتكرة ومؤشرات بيولوجية لسبر تبعات هذه الحالة ومسبباتها في عملية الأيض.
وبحسب ما أفاد به فيكرام تشيب، اختصاصي هندسة الطب الحيوي من جامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، بدأت هذه الجهود تلقى مزيدًا من الدعم والاهتمام، ما يُعزى في جانب كبير منه إلى تأثير «كوفيد» الممتد، الذي يصيب 6 من كل مائة شخص بعد العدوى بالفيروس التاجي «سارس-كوف-2». فيقول في هذا السياق: "العرض الأبرز لـ«كوفيد» الممتد هو الإرهاق. وأعتقد أن هذا بعث برسالة تنبيه إلى الكثيرين في هذا الإطار".
ويأمل تشيب وباحثين آخرين في أن يسهم فهم جذور الإجهاد الإدراكي في مساعدة ملايين ممن يواجهونه من وقت لآخر وعشرات الملايين ممن تلازمهم صورة مزمنة وأشد منه. فإلى جانب كونه عرضًا شائعًا من أعراض «كوفيد الممتد»، يُعد الإجهاد المُوهِن، عرضًا لمتلازمة التعب المزمن، التي تُعرف أيضًا باسم التهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضلات (ME/CFS) ولاضطراب ما بعد الصدمة ولداء التصلب المتعدد والاكتئاب وداء «باركنسون». كذلك يمكن أن ينجم الإجهاد الذهني الشديد عن بعض علاجات السرطان أو عن إصابة في الرأس أو سكتة دماغية أو عن التعرُض لبعض المواد السامة.
وعنه، يقول تشيب: "الإجهاد مشكلة جسيمة حقًا. ومما لا شك فيه أننا نحتاج إلى الوقوف على الكيفية التي يمكننا بها دراسته وعلاجه".
ما هو الإجهاد الإدراكي؟
في بداية مباريات الشطرنج، قد يعتمد اللاعب المحترف في هذه اللعبة على خطوات مبدئية تدرب عليها جيدًا. فيضيف بيسيجليوني: "أول خمس أو ست أو سبع خطوات يمكن اتخاذها تلقائيًا دون تفكير أو دراسة". لكن عندما يواجه اللاعب موقفًا غير مألوف على لوح الشطرنج، تنفد حيله التي تدرب عليها والتي يلجأ إليها عادة. عندئذ، بتعبير بيسيجليوني، "يتحتم عليه دراسة الموقف". وينطبق هذا على السائق عند انعطافه لدخول شارع لم يألفه من قبل. ففي الطرق التي يسلكها السائق مئات المرات، يُحتمل أن يعتمد على نظام ملاحي ذهني تلقائي. أما إذا سلك طريقًا مجهولًا، حسبما يوضح بيسيجليوني، فحينئذ يحتاج إلى مجهود عقلي أكبر.
يُطلق العلماء على هذا المجهود الذي يُبذل في توجيه وتنظيم الأفكار "التحكم الإدراكي". ومع الوقت، حسبما تذهب إحدى أهم النظريات في هذا المبحث، يُصبح الحفاظ على هذه القدرة على تنظيم الأفكار مُكلفًا للدماغ، ويبدأ ظهور الكلل على المرء. والسبب غير معروف يقينًا للعلماء. فيرى بعضهم أن هذا الكلل مرتبط بالكيفية التي تتأقلم بها الخلايا مع استنفاد إمداداتها من الطاقة، في حين يلقي بعضهم الآخر اللوم على تراكم السُميات في الدماغ نتيجة لتزايد النشاط العصبي1. إلا أن الباحثين يُجمعون عادة على أن الشعور بالإرهاق هو آلية وقائية؛ تخدم كرسالة تحذيرية تنذر الدماغ باقترابه من تجاوُز عتبة فسيولوجية وتدل على أن الوقت قد حان لقسط من الراحة.
كذلك يرى علماء أنه من المحتمل أن عناصر جزيئية على امتداد مناطق عدة من الدماغ تلعب دورًا في الإجهاد. فوجد باحثون علاقة محتملة بين الإجهاد الإدراكي وتغير مستويات بعض نواتج الأيض مثل الجلوكوز واللاكتات، وبعض النواقل العصبية الكيميائية، مثل الجلوتامات والأدينوسين، ومستويات بروتين مرتبط بالتعلُم والذاكرة يُعرف باسم «عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ»2. وحتى الشظايا البروتينية المعروفة بـ«الأميلويد-بيتا» والتي ترتبط بالإصابة بداء أُلزهايمر، قد تسهم في اضطراب عمل المشابك العصبية، بالتداخل مع عملية إزالة الجلوتامات أو مفاقمة التهاب النسيج العصبي3. لكن حتى هذه اللحظة لا يمكن الفصل بشكل واضح بين ما يُعد مؤشرًا على الإرهاق وما يُعد سببًا له.
يُعد كلاي هولرويد اختصاصي علم الأعصاب الإدراكي من جامعة خنت في بلجيكا من الباحثين الذين يميلون إلى تأييد نظرية نشوء الإجهاد الإدراكي بسبب تراكُم سميات في الجسم. وقد اكتسبت هذه النظرية زخمًا وتأييدًا في الأعوام الخمسة الأخيرة تقريبًا، رغم عدم وضوح ماهية نواتج الأيض التي ينبغي التخلص منها في الجسم. ويشبِّه هولرويد الشعور بالإرهاق بالشعور بالألم، لأن كلا نوعي الشعور يلعب دورًا في حماية الجسم من التعرض لتلف متزايد.
لكن، بعكس الألم، إن تجاهل المرء الشعور بالإرهاق بداية، ثمة احتمال ضئيل في أغلب الحالات بأن تسبب نواتج الأيض تلك ضررًا حقيقيًا للجسم. وهو ما أوضحه قائلًا: "نتمتع بنظام أمان تلقائي ضد الأعطال. إذ يُمكنك أن تكدح في العمل لبعض الوقت، لكنك في نهاية المطاف ستحتاج إلى الخلود للنوم". والتوقف عن أداء المهام لقسط من الوقت قد يحقق شعورًا مؤقتًا بالراحة. أما النوم، فيلعب دورًا أكبر في تجديد طاقة الجسم. فالنوم، لا سيمًا ما يُعرف بـ«النوم بطيء الموجة» يخدم كنظام صيانة ليلي للدماغ. إذ يزيل المخلفات الأيضية ويعيد ضبط الدوائر العصبية والخلايا بحيث يمكنهما تحقيق أقصى استفادة من احتياطهما من الطاقة.
نحو سبل أفضل لقياس الإجهاد الإدراكي
جرت العادة بين الباحثين على قياس الإجهاد الإدراكي إما بتوجيه الأشخاص إلى الإفادة بمدى شعورهم بالإرهاق أو من خلال رصد التغيُر في أداء الأشخاص في اختبارات الذاكرة العاملة المؤقتة أو غيرها من المهام. ويرى علماء أن هذه السبل يشوبها قصور. فالانخفاض في مستوى الأداء قد يختبئ وراء عوامل أخرى مثل فتور العزم والملل والإحباط. كذلك يمكن أن يُعزى الخلل في الأداء إلى ما تدرب عليه المرء، على غرار ما قد يحدث مثلًا عندما يكون لاعب شطرنج قد درج على اتخاذ سلسلة خطوات معينة تلقائيًا في اللعب.
أما الإفادات الشخصية، فهي غير موضوعية ولا يُعوَّل عليها. فيقول دانيال فورجر، الباحث في مجال الطب الحوسبي من جامعة ميشيجن في مدينة آن آربور الأمريكية والذي يدرس الأساليب الجديدة لتقييم الإجهاد الإدراكي: "الأشخاص سيئون في تقييم شعورهم بالإرهاق.
وللوصول إلى فهم أفضل لطبيعة الإرهاق، يسعى بيسيجليوني وتشيب وباحثين آخرين إلى استكشاف العلاقة بين آلياته الكيميائية البيولوجية والكيفية التي يؤثر بها على عزيمة المرء4. والنظرية السائدة في الوقت الحالي هي أن الإجهاد الإدراكي ينجم عن تغيرات أيضية في أجزاء دماغية مسؤولة عن التحكم الإدراكي. وهذه التغيرات الأيضية، سواء كانت ناتجة عن استنفاد مخزون طاقة الجسم أو تراكم فضلات به، تغير الكيفية التي توازن بها الدوائر الدماغية بين فوائد ومضار المجهود الذهني، لتوجه القرارات نحو الخيارات السهلة التي تحقق شعورًا فوريًا بالمكافأة 1.
على سبيل المثال، في دراسة أجريت عام 2025 5، صنع بيسيجليوني وفريقه البحثي محاكاة تتضمن يومًا من المهام لمجموعة من المشاركين الأصحاء، بأن وجهوا هؤلاء المشاركين إلى قضاء عدة ساعات في تنفيذ صورة إما صعبة أو سهلة من المهام الإدراكية ذاتها. وفي إحدى هذه المهام، نظر المشاركون في التجربة إلى أحرف تظهر بصورة متتالية على شاشة، حيث كان عليهم أن يقرروا ما إذا كان كل حرف جديد يطابق آخر ظهر قبلها بعدة أحرف. مثلًا، كان تذكر ما إذا كان حرف على الشاشة يطابق الحرف الذي ظهر قبلها بثلاثة أحرف أصعب كثيرًا من تذكر ما إذا كان يطابق الحرف الذي سبقه مباشرة.
وبعد هذه المحاكاة، خُير المشاركون بين الحصول على مكافأة فورية صغيرة، وبين الحصول على مكافأة متأخرة كبيرة. فتبين أن من أنجزوا المهام الإدراكية الصعبة كانوا أميل إلى اختيار المكافأة الفورية. ويتسق هذا الميل إلى الحصول على مكافأة فورية مع حدوث تراكم أكبر للجلوتامات، وهي من نواتج الأيض التي يُشتبه في تراكمها في قشرة الفص الجبهي حال بذل مجهود إدراكي. وتلعب هذه المنطقة الدماغية دورًا في عدد من الوظائف المعتمدة على التحكم الإدراكي، مثل الذاكرة العاملة المؤقتة واتخاذ القرار. وثبت أن نشاطها يقل بعد يوم شاق من أداء المهام في المحاكاة 6.
وهنا يفيد ماثيو آبس، اختصاصي علم الإعصاب الإدراكي من جامعة برمنجهام في المملكة المتحدة بأن الدوبامين - الذي يتفاعل تفاعلًا وثيقًا مع الأدينوسين والجلوتامات وعناصر أيضية أخرى في الدماغ - قد تسهم دينامياته في تفسير العلاقة بين الإجهاد العصبي الأيضي والشعور بالإرهاق. فلأن الدوبامين يعزز الشعور بقيمة المكافأة، يقوي عادة الدافع لبذل مجهود. ويضيف آبس أن المجهود المتواصل قد يسبب انخفاض مستويات الدوبامين، ما يضعف عزم المرء على بذل طاقة من أجل الحصول على المكافأة نفسها.
وقد بدأ هذا المسار البحثي وعدد من الاتجاهات البحثية المماثلة في اكتشاف علاقة مستويات هذه الجزيئات ودرجة النشاط الذهني بالإرهاق.
باختصار، حسبما يفيد تشيب، "يطرأ تغير على كيمياء الدماغ"، يؤدي إلى اختلاف المعادلة التي تحسب بها ما إذا كان عليك أن تبذل مجهودًا إدراكيًا. ويضيف أن التركيب الكيميائي الدماغي الفطري يختلف من شخص لآخر. وهو ما أوضحه قائلًا: "أنا وأنت قد نملك تركيزين مختلفين للنواقل العصبية في أدمغتنا، وهذا الاختلاف الفطري قد يجعلني أميل للشعور بالتعب الشديد، في الوقت الذي يمكنك فيه أن تثابر".
ومثل هذه الاختلافات في كيمياء الدماغ قد تسهم في تفسير السبب وراء الإرهاق المزمن وما خلافه من أنواع الإرهاق الشديد. فبالنسبة لبعض المصابين بـ«كوفيد الممتد»، أو التهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضلات، قد تبدو المهام الذهنية البسيطة مخيفة كإجراء جراحة دماغية.
على سبيل المثال، تعاني آنا ليا تاماريز، وهي فنانة ومدربة صحة ولياقة بدنية في مدينة ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية من التهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضلات. من هنا، تجد مشقة كبيرة في مهام بسيطة كالاستماع إلى الموسيقى أو قراءة كتاب. فتقول: "أحيانًا ما أشعر بأنني لا أستطيع قراءة كلمة بعد. تخيل أن تخرج من تخدير جراحي مشوش العقل. وأن تلازمك هذه الحالة إلى الأبد".
وهي تجد صعوبة في الفصل بين الإجهاد الإدراكي والبدني. فتفيد بأن أي مهام إدراكية شاقة قد تتركها منهكة القوى بدنيًا. وأي مهام بدنية شاقة تستنزفها ذهنيًا. وتضيف أنها دائمًا ما تحسب مردود قيامها بالأشياء، قائلة: "أتساءل: هل الأمر يستحق العناء؟".
تدعم أبحاث الفكرة القائلة بأن الآليات التي تحفز الإصابة بالإرهاق مشتركة بين الإرهاق البدني والذهني، وأن كلا نوعي الإرهاق يتفاعلان معًا7. فيقول آبس: "إن ركضت لماراثون، ستشعر بالطبع بإرهاق بدني. لكن مما لا شك فيه أنك ستشعر أيضًا بكل أنواع الإجهاد الإدراكي بسبب المجهود والتركيز اللذين تحتاجهما للحفاظ على أدائك".
والعكس صحيح. ففي مسودة بحثية من العام الماضي، وجد فريق تشيب البحثي أن المشاركين الأصحاء بدنيًا في دراسته كانوا أقل ميلًا لبذل مجهود بدني بعد إجراء مهام ذهنية شاقة8.
وفي الوقت الحالي، يدرس باحثون آخرون دور الضغط النفسي والنوم والساعة البيولوجية للجسم والالتهابات في نشوء الإجهاد الإدراكي وتبعاته. وقد اتضح أن الدماغ عند حرمانه من النوم المجدِّد للطاقة، يُمكن أن تتوقف فيه مجموعات صغيرة من الخلايا العصبية عن العمل لفترة وجيزة. وقد يؤدي هذا التوقف الموضعي عن العمل الذي يستحث حالة شبيهة بالنوم إلى تدني مستويات الانتباه وتعثر الأداء لبرهة.
يشارك فورجر في مشروع بحثي تموله وزارة الدفاع الأمريكية من أجل دراسة الآليات التي تقف وراء نشأة وتفاقم الإجهاد الإدراكي في ظروف مثل الحرمان من النوم واضطراب الساعة البيولوجية للجسم، لتطوير نماذج توائم المستخدمين وأجهزة استشعار محمولة تتنبأ باللحظة التي يدب فيها الإرهاق. ويلفت فورجر لأهمية المشروع قائلًا: "هذا مهم لتحديد متى يجب سحب الأفراد من المهام أو متى قد يحتاجون لمساعدة الذكاء الاصطناعي".
وإن نجح العلماء في فك شفرة الآليات المعقدة التي تقف وراء نشأة الإجهاد وابتكار سبل لقياسه، سيُمكن - بحسب ما يفيد تشيب - "الوصول إلى تشخيص أفضل لهذه الحالة ومتابعة تطورها والوقوف على التدخلات العلاجية الممكنة لها".
كيف يمكن علاج الإجهاد الإدراكي؟
العلاج الأمثل للإجهاد الإدراكي العادي قد يوسم بأنه بديهي. ويوعز تشيب به قائلًا: "أنا أحظى بقيلولة"، مضيفًا: "هذا سهل بالنسبة لي، لأن لدي أريكة في مكتبي".
وتناوُل قدح من القهوة أثناء العمل نهارًا قد ينم عن مراعاة أكبر للأعراف الاجتماعية، مقارنة بالقيلولة. فالكافيين يُثبِّط مؤقتًا مستقبلات جزيء الأدينوسين المحفز للنعاس والمثبط للدوبامين. ويمكن لشرب القهوة كسب بعض الوقت حتى حلول الموعد التالي لشحذ طاقة الدماغ بالنوم. بيد أن القهوة حال تناولها في وقت متأخر من اليوم قد تعوق النوم.
كذلك يمكن لنزهة سير وجيزة في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس أن تعزز الشعور باليقظة وأن تكبح إفراز بقايا هرمون «الميلاتونين» الذي يبعث إشارات تحفز الدماغ على الدخول في النوم. وعندما ترتفع احتمالية وقوع مخاطر على المدى القصير من جراء الإجهاد الإدراكي، كما قد يحدث في حال الجراحين المناوبين أو طياري الرحلات الطويلة، تصبح الإستراتيجيات الفعالة على المدى القصير ضرورية.
من هنا، ابتكر فورجر وفريقه البحثي تطبيقًا شخصيًا للهواتف الذكية، يتابع الساعة البيولوجية للجسم ويقدم توصيات سلوكية مواءَمة للمستخدم مثل: "احظ بقيلولة"، أو "اذهب إلى مكان ذي إضاءة ساطعة". وهذه التوصيات قد تحفز فورًا بعض الشعور باليقظة، كما يمكنها من خلال ضبط الساعة البيولوجية للجسم والنوم أن تخفف على المدى الطويل الشعور بالإرهاق. على سبيل المثال، في دراسة، أدى استخدام التطبيق إلى تخفيف الشعور بالإرهاق المرتبط بالسرطان9. رغم ذلك، يرجح أن يتطلب علاج الإرهاق المزمن وغيره من أنواع الإرهاق الحاد تدخلات علاجية أخرى.
تذكر تاماريز كيف أن عددًا كبيرًا من الأطباء غضوا الطرف واحدًا تلو الآخر عن أعراض مرضها في البداية. فتقول: "كانوا يخبرونني بأن كل ما في الأمر هو أني حظيت بأسبوع شاق وبأني متعبة، وأحتاج فقط لقسط من الراحة". مع ذلك، كان التعب يلازمها حتى بعد الحصول على قسط من النوم. وحتى الأطباء الذين نظروا بعين الجد إلى شكواها فشلوا في تقديم الكثير من المساعدة لها. فتقول: "نظرًا لندرة الأبحاث التي تناولت هذا المرض، لم يكن أمام الأطباء إلا تجربة حلول شتى ليروا أيها قد يصيب الهدف".
يؤكد ذلك تريفور تشونج، اختصاصي علم الأعصاب الإكلينيكي وعلم الأعصاب الإدراكي من جامعة موناش في ملبورن بأستراليا، إذ يجد نقص الخيارات العلاجية التي يمكنه تقديمها لمرضاه باعثًا على الأسى. ورغم أن الحل الأمثل قد يكون علاج الاعتلالات الكامنة وراء الإرهاق، قد لا يسنح ذلك إلا حال وصول العلماء لفهم أفضل لأسباب هذه الحالة. وفي الوقت الحالي، تُعد المقاربة الأقرب للنجاح في حال من يعانون من الإرهاق المزمن أو غيره من أنواع الإرهاق الحاد، هي علاج الأعراض؛ بدعم أنظمة إمداد الجسم بالطاقة في الدماغ أو الحد من بذل المجهود.
وقد ظهرت أدلة تبرهن على أن العلاج السلوكي الإدراكي قد يساعد الأشخاص على النظر إلى المهام في إطار يقوي العزيمة على أدائها. كذلك أثبتت تدخلات علاجية أخرى أنها قد تكون ناجعة، بدءًا من العلاج بالضوء، إلى العلاج بالوخز بالإبر، وصولًا إلى التحفيز الدماغي غير الجراحي. أيضًا تنصح نانسي كليماس - اختصاصية طب المناعة الإكلينيكي ومديرة «معهد الطب العصبي المناعي» بجامعة نوفا الجنوبية الشرقية في مدينة فورت لودرديل بولاية فلوريدا الأمريكية - المرضى ممن يعانون إرهاقًا مزمنًا بدعم نظامهم الغذائي بمكملات من الإلكتروليتات، وفيتامين «بي 12»، وأسيتيل السيستئين المضاد للأكسدة، لتعزيز إمداد الجسم بالطاقة، والحد من تلف الخلايا ودعم سلامة وظائف النواقل العصبية.
وحاليًا، يستكشف باحثون العلاجات الدوائية المحتملة للإرهاق. على سبيل المثال، استنادًا إلى مؤشرات أولية واعدة، تجري كليماس وباحثون آخرون تجارب لاختبار تأثير الجرعات المنخفضة من «النالتريكسون» Naltrexone، وهو دواء يُستخدم بالدرجة الأولى لعلاج الكحول وإدمان الأفيون، لكنه قد يخفف من حدة التهاب النسيج العصبي، الذي يعد سببًا محتملًا لتراكم السميات في الدماغ. كما تجري دراسة عقاقير أخرى يُعتقد أنها تؤثر في وظائف الدوبامين.
في هذا السياق، يقول تشونج أنه من المستبعد أن يوجد حل واحد يناسب جميع المصابين بالإجهاد الموهِن، حتى إن تبين أن مسارات علاج الحالات المختلفة من الإرهاق تتقاطع. فيضيف تشونج: "العقاقير التي تعمل بكفاءة في حال داء باركنسون، مثلًا، قد لا تكون ناجعة مع داء الفصام أو متلازمة التعب المزمن أو الإرهاق المرتبط بالإصابة بالسرطان ". وجميع المقاربات العلاجية تواجه أيضًا تعقيدات ممثلة في قائمة طويلة من العوامل المربكة التي قد تقف وراء الإرهاق مثل الألم والضغط النفسي، وعدم كفاية النوم وسوء التغذية واضطرابات الميكروبيوم واضطرابات الساعة البيولوجية.
ودون فهم شامل للآليات المسببة للإرهاق، من المحتمل أن يرتد كبت الشعور بهذه الحالة على المريض بسبب تحمُل ضغوط أكثر مما يجب، الأمر الذي قد يؤدي لاحقًا إلى انهيار. ويشير بيسيجليوني إلى أن هذا قد يحدث في حال الاضطراب ثنائي القطب، حيث تتفاقم نوبات الهوس لدى المرضى بهذا الاضطراب إلى نوبات اكتئاب.
ختامًا، بتعبير آبس، رغم التقدم المُحرز في فهم الإجهاد الإدراكي، تبقى هناك أسئلة عالقة بلا جواب. فيضيف: "ما يتطلع كثير منا إلى معرفته هو متى علينا أن ننظر بعين الجد لشعورنا بالإرهاق، ومتى علينا أن نتجاهل هذا الشعور". والسؤال الأهم لآخرين هو: ما الذي يُمكن فعله عندما لا يُمكن تجاهُل هذا الشعور؟
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 19 ديسمبر عام 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2026.1
1. Pessiglione, M., Blain, B., Wiehler, A. & Naik, S. Trends Cogn. Sci. 29, 730–749 (2025).
2. ElGrawani, W. et al. Cell Rep. 43, 114500 (2024).
3. Aschenbrenner, A. J. et al. Psychol. Aging 38, 428–442 (2023).
4. Steward, G., Looi, V. & Chib, V. S. J. Neurosci. 45, e1612242025 (2025).
5. Wiehler, A., Branzoli, F., Adanyeguh, I., Mochel, F. & Pessiglione, M. Curr. Biol. 32, 3564–3575 (2022).
6. Blain, B., Hollard, G. & Pessiglione, M. Proc. Natl Acad. Sci. USA 113, 6967–6972 (2016).
7. Hogan, P. S., Chen, S. X., Teh, W. W. & Chib, V. S. Nature Commun. 11, 4026 (2020).
8. Dryzer, M. & Chib, V. S. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/2024.12.06.627274 (2024).
9. Mayer, C. et al. Cell Rep. Med. 6, 102001 (2025).
تواصل معنا: