ترامب يطلق مهمة «جينيسيس»: هل هي ثورة علمية أم رهان محفوف بالمخاطر؟
30 December 2025
نشرت بتاريخ 30 ديسمبر 2025
في إطار مشروع منصة ذكاء اصطناعي تابعة للحكومة الفيدرالية الأمريكية، صدرت للمختبرات الوطنية في الولايات المتحدة تعليمات بتوسعة نطاق الوصول إلى مجموعات بياناتها لإسراع خطى البحث العلمي في البلد. لكن من المستفيد حقًا من ذلك؟
طرحت إدارة البيت الأبيض خطة تستهدف دفع عجلة البحث العلمي في الولايات المتحدة وتسخير الإمكانات الحوسبية الهائلة التي تتمتع بها المختبرات الوطنية الأمريكية (وعددها 17 مختبرًا)، من خلال بناء نماذج ذكاء اصطناعي تعتمد على مجموعات البيانات العلمية الثرية التي تحتفظ بها هذه المختبرات.
ففي الرابع والعشرين من نوفمبر الماضي، صدر إلى وزارة الطاقة الأمريكية (DoE) أمر تنفيذي ببناء منصة يمكن من خلالها للباحثين الأكاديميين وشركات الذكاء الاصطناعي ابتكار نماذج ذكاء اصطناعي عالية الكفاءة بالاستعانة بالبيانات العلمية الحكومية. ووصفت إدارة البيت الأبيض الأمر التنفيذي على أنه يأتي في إطار سباق عالمي للوصول إلى الهيمنة التقنية، وأوردت فيه خطط تعاوُن مع شركات تقنيات مثل شركة «مايكروسوفت» Microsoft، و«آي بي إم» IBM و«أوبن إيه آي» OpenAI و«جوجل» و«آنثروبيك» Anthropic، فضلًا عن شركات حوسبة كمية مثل شركة «كوانتينوم» Quantinuum. وهذه الشراكة الضخمة بين القطاعين العام والخاص، قد تتيح للشركات وصولًا غير مسبوق إلى مجموعات البيانات العلمية التي تملكها الهيئات الفيدرالية لتحليلها بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي.
ويهدف هذا المشروع، الذي أُطلق عليه مهمة «جينيسيس»، إلى"مضاعفة إنتاجية وتأثير الأبحاث والابتكارات الأمريكية في غضون عقد"، في طيف من المجالات، بدءًا من توليد الطاقة بالتفاعلات الاندماجية النووية، وصولًا إلى الطب. وعنه، يقول مايكل كراتسيوس الاستشاري العلمي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنه يطمح إلى "تفجير ثورة في كل من الطب وصناعة الطاقة وعلم المواد، ومجالات أخرى". كما يهدف إلى بناء نماذج ذكاء اصطناعي وكيل، أي نماذج متعددة الاستخدامات قادرة على تسخير عدد من الأدوات التي تتيح استحداث الفرضيات وأتمتة سير عمل الأبحاث، مثل البرمجيات المتخصصة وأنظمة البرمجة.
وقد أخذت مختبرات حول العالم بالفعل في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على بيانات علمية، لتعزيز قدراتها في ميادين العلوم وللاستعانة بهذه النماذج في تحقيق اكتشافات. رغم ذلك، إلى اليوم، يشكك بعض الباحثين في قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي متعددة الاستخدامات على الخروج باكتشافات مبتكرة حقًا، ويحذرون من أن العيوب المتأصلة في هذه النماذج تضفي غموضًا على نوع الفوائد التي يمكن تحقيقها من النماذج الوكيلة.
جدير بالذكر أن هذه المبادرة الأمريكية الجديدة تنظّم وتوسع إطار عمل جهود تبذلها حاليًا إدارة الرئيس دونالد ترامب في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي. وعنها، يقول لين باركر، اختصاصي هندسة الروبوتات من جامعة تينينسي في مدينة نوكسفيل الأمريكية، الذي رأس مبادرات لسياسات الذكاء الاصطناعي في إدارة كل من الرئيس ترامب والرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، لكن لم يشارك في «جينيسيس»: "التأثير المرجو هنا هو أن تتيح المبادرة لمزيد من العلماء والباحثين الاستفادة من كافة موارد البنية التحتية التي يحتاجونها للبحث عن إجابة الأسئلة العلمية المهمة الشاغلة لبلدنا. وهذا ما لم يسنح من قبل".
ويشار إلى أن إدارة ترامب سعت إلى ضخ تمويلات وتسليط الضوء على مشروعات الذكاء الاصطناعي في الوقت الذي قلصت فيه بوجه عام ميزانية الإنفاق البحثي في الولايات المختلفة. وتتمتع إدارة البيت الأبيض بسلطة رسم التوجهات البحثية في شبكة المختبرات الوطنية التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية. وحتى اللحظة، لم تحدد الإدارة التكلفة التقديرية لمبادرة الذكاء الاصطناعي تلك، ويتعين الحصول على موافقة الكونجرس الأمريكي لاعتماد أية تمويلات أخرى قد تتطلبها المبادرة إلى جانب الميزانية المعتادة للمختبرات.
وفي هذا التحقيق الإخباري، تتقصى دورية Nature التأثير المحتمل لهذا المشروع على الباحثين وشركات الذكاء الاصطناعي، وتلقي الضوء على الفرص والمخاطر المرتبطة به.
ما الدور المطلوب من علماء الجهات الممولة حكوميًا؟
تتسم خطة المشروع بطموحها، سواء على صعيد النطاق الذي تستهدفه أو الجدول الزمني المحدد لها. ففي غضون 60 يومًا، من المزمع أن تضع وزارة الطاقة الأمريكية قائمة بـ20 من التحديات العلمية والتقنية التي قد يتصدى لها المشروع في المجالات ذات الأولوية الوطنية، مثل توليد الطاقة بتفاعلات الاندماج النووي وأبحاث المعلومات الكمية والمواد الأساسية. كما يُتوقع أن تُجري الوزارة أولًا جردًا شاملًا للموارد الفيدرالية الحوسبية المتاحة، وأن تقف على أصولها الأولية من البيانات المراد استخدامها، لتتوصل إلى نهج آمن لاستيعاب مجموعات البيانات الخارجية. وتتوقع إدارة ترامب أن يمكن البرهنة على قدرة منصة المشروع على التصدي لأحد التحديات البحثية سالفة الذكر في غضون تسعة شهور.
ويرجح أن تعوِّل هذه الخطوات المبدئية على مشروعات جارية بالفعل في المختبرات الوطنية. على سبيل المثال، يعمل «مختبر أوك ريدج الوطني» Oak Ridge National Laboratory في ولاية تينيسي الأمريكية على النهوض بأبحاث الذكاء الاصطناعي باستخدام نهج هجين يجمع بين الحوسبة الكمية والكلاسيكية. أما «مختبر لورانس بيركلي الوطني» Lawrence Berkeley National Laboratory في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، فيستخدم الذكاء الاصطناعي لرفع سرعة حركة مرور البيانات على الشبكات الحاسوبية.
في هذا الإطار، يقول مايكل نورمان، عالم الفيزياء الفلكية من جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييجو الأمريكية، والذي شغل سابقًا منصب مدير «مركز سان دييجو للحواسيب الفائقة»: "دافعت وزارة الطاقة الأمريكية عن أبحاث الذكاء الاصطناعي لأكثر من سبع سنوات، وهذا الأمر التنفيذي بمنزلة إشارة البدء للمضي في هذا المبحث، الذي يُعد بلا شك اتجاهًا مشوقًا".
ما الدور المطلوب من شركات التقنيات المعنية؟
رشح المشروع أكثر من 50 شركة للتعاون معها، من بينها شركات تعمل بالفعل على تطوير أنظمة "الذكاء الاصطناعي العالِم". على سبيل المثال، في وقت سابق من هذا الشهر، أطلقت شركة «فيوتشر هاوس» FutureHouse الناشئة، ومقرها مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، منصة بحثية مدارة بالذكاء الاصطناعي ومتاحة للاستخدام التجاري.
وحتى اليوم، لم يمكن الوقوف بدقة على طبيعة دور هذه الشركات الخاصة في مشروع «جينيسيس»، وإن كان الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب قد نص على أن المشروع قد يتضمن "تعاونًا مع جهات شراكة تملك أنظمة ذكاء اصطناعي أو بيانات أو قدرات حوسبية متطورة أو خبرة علمية متقدمة في المجال". وقد تتضمن هذه الشراكات اتفاقات بحثية للتعاوُن في تطوير تقنيات بعينها أو للسماح للباحثين التابعين لجهات غير حكومية باستخدام المرافق البحثية الحكومية. ونقلًا عن تقرير أوردته صحيفة «ذا نيويورك تايمز» The New York Times في هذا السياق، فقد أفادت بعض الشركات العاملة في مجال تطوير الحواسيب والرقائق الحوسبية، مثل شركة «إنفيديا» NVIDI، و«أدفانسد مايكرو ديفايسيز» Advanced Micro Devices، و«مؤسسة هيوليت باكارد» Hewlett Packard Enterprise بموافقتها على بناء مرافق بحثية في المختبرات الوطنية.
وقد انطلق بعض هذه الشراكات بالفعل. على سبيل المثال، في أكتوبر الماضي، أعلن «مختبر آرجون الوطني» في ولاية إيلينوي الأمريكية دخوله في شراكة مع شركة «إنفيديا» وشركة التقنيات «أوراكل» Oracle بهدف تصميم اثنين من أنظمة الحواسيب الفائقة المتطورة المُدارة بالذكاء الاصطناعي. وعقد مختبرين وطنيين بالفعل ترتيبات مع شركة «أوبن إيه آي» OpenAI الكائنة في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية لتكليفها باستضافة نماذج ذكاء اصطناعي محلية قادرة على معالجة البيانات السرية على الحواسيب بمرافقهما. وفي فبراير الماضي، عقدت «أوبن إيه آي» "ورشة تعاون مشترك في مجال الذكاء الاصطناعي" مع باحثين، من تسعة مختبرات وطنية، حيث سمحت لهؤلاء العلماء بتجربة استخدام نماذج التفكير المنطقي التي أنتجتها في مجالات تخصصهم.
الفرص
وفقًا للأمر التنفيذي سالف الذكر، تهدف مهمة «جينيسيس» الجديدة إلى "إتاحة الوصول لمجموعات بيانات ضرورية، منها مجموعات البيانات العلمية المفتوحة مسجلة الملكية التي توفرها الهيئات الفيدرالية، والبيانات المُخلَّقة التي تستحدثها الموارد الحوسبية لوزارة الطاقة الأمريكية". وإنشاء منصة وطنية تستند إلى مجموعات البيانات الثرية التي تحتفظ بها عادة المختبرات الوطنية قد يكون بمنزلة كنز للباحثين. ورغم أن نماذج الذكاء الاصطناعي محددة المهام، مثل نموذج «ألفافولد» للتنبؤ بطيات البِنى البروتينية صُممت بالاستعانة بمجموعات بيانات علمية مفتوحة، صممت النماذج متعددة الاستخدامات مثل نموذج «جي بي تي 5» GPT-5 لشركة « أوبن إيه آي » إلى حد كبير بالاستعانة ببيانات مجمعة من الإنترنت.
وحتى الآن، لم يتضح نوع مجموعات البيانات التي سيتطلبها المشروع، لكن من الأمثلة الواعدة لها مجموعات البيانات التي تجمعها مرافق مثل منشأة مصدر التشظي النيوتروني في مختبر «أوك ريدج الوطني». فبحسب ما تفيد جورجيا توراسي المديرة المشاركة المعنية بالحوسبة والعلوم الحوسبية لهذا المختبر، في تلك المنشأة، تُجمع بيانات التشتت النيوتروني، لتوضح سلوك المواد على المستوى الذري. وتضيف توراسي: "مجموعات البيانات هذه، بدءًا من تلك المتعلقة بالقياسات الذرية، وصولًا إلى تلك المتعلقة بعمليات المحاكاة واسعة النطاق، يمكن أن تسرع فورًا وتيرة تطوير نماذج ذكاء اصطناعي مناسبة للتطبيقات العلمية ويمكن التعويل عليها".
كذلك يتيح الانتفاع بالقدرات الحوسبية التي تتمتع بها مرافق وزارة الطاقة الأمريكية إسراع وتيرة البحث العلمي. كمثال، يستخدم حاسوب «أورورا» Aurora الفائق لدى «مختبر آرجون الوطني» وحدات معالجة رسومية (GPS) تجعله ملائمًا بدرجة كبيرة للاستخدام بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي التي تتطلب قدرات معالجة مكافئة.
التحديات والمخاطر أمام المشروع
بادئ ذي بدء، قد لا يرصد الكونجرس الأمريكي تمويلات كافية لوزارة الطاقة الأمريكية من أجل تحقيق خطة المشروع الطموحة، التي رأت إدارة الرئيس ترامب أنها "مكافئة من حيث الأهمية والطموح" لمشروع مانهاتن، مشروع حكومة الولايات المتحدة السري الذي بلغت قيمته عدة مليارات دولار والذي أفرز أول ما شهده العالم من أسلحة نووية ويُذكر أن ترامب كان قد اقترح خفض ميزانية البحث العلمي لوزارة الطاقة الأمريكية بنسبة 14% في العام المالي 2026، وتمويل أبحاث الذكاء الاصطناعي قد يستتبع جذب تمويلات من مصادر أخرى.
ويُعد أمن البيانات من الإشكاليات المهمة أيضًا. فقد قضى الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بمعالجة جميع البيانات على الدوام بالأخذ في الحسبان القانون وتصنيف البيانات واعتبارات الخصوصية وحماية حقوق الملكية الفكرية. عليه، تتوقع توراسي أن تتسق إتاحة جميع البيانات للمشروع "مع سياسات مشاركة البيانات التي حددتها المرافق البحثية والبرامج الراعية لهذه المرافق".
ثم أن هناك الإشكالية المتمثلة في إدارة جميع مجموعات البيانات المتفرقة في المشروع والتوفيق بينها تحت منصة واحدة سهلة الاستخدام. ففي هذا السياق، كتب داريو جِل النائب المعني بشؤون العلوم لوزارة الطاقة الأمريكية، المقرر أن يرأس المشروع، وكاثرين مولر عالمة الفيزياء من جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، في افتتاحية بدورية «ساينس» Science الأمريكية: "إن تحويل مجموعات بيانات منفصلة إلى محرك بحث موحد للخروج باكتشافات" يشكل تحديًا جسيمًا. ولفتا إلى أن بعضًا من كبرى المشاريع العلمية التي لاقت نجاحًا في السنوات الأخيرة - مثل مستودع «بنك البيانات البروتينية» Protein Data Bank ومسرِّع الجسيمات المعروف بـ«مصادم الهدرونات الكبير» في «المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية» (مختبر أوروبا لفيزياء الجسيمات، الواقع بالقرب من مدينة جنيف السويسرية) - يُعزى نجاحها إلى كونها مفتوحة المصدر وتعتمد على بيانات منظمة، وهو ما لا يتحقق دائمًا في حال مجموعات البيانات الكبيرة.
وهنا، تفيد باركر أنها كانت تحبذ أن تجد في خطط مهمة «جينيسيس» المزيد حول السبل التي يمكن بها إشراك مزيد من علماء الولايات المتحدة في هذه الأبحاث. ففي الوقت الراهن، تذهب أغلب مزايا المشروع إلى الباحثين المسموح لهم باستخدام المنصات البحثية التي تمولها وزارة الطاقة الأمريكية.
كما أخذت خطة المشروع تمضي قدمًا دون أية تشريعات فيدرالية شاملة لتنظيم إدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي التي ستستخدمها. ففي يناير الماضي، ألغى ترامب أمرًا تنفيذيًا وضعه الرئيس السابق بايدن وهدف إلى ضمان أمان أنظمة الذكاء الاصطناعي. ونصبَّت إدارة ترامب نفسها مناصرة للمجال، ونادت بحجب أي تمويلات فيدرالية لأنظمة الذكاء الاصطناعي في جميع الولايات التي تتبنى "ضوابط مقيدة" لاستخدام هذه الأنظمة.
ويرى عديد من الباحثين أن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في الأبحاث قد يعود بالنفع على البشرية. بيد أنهم يرون أن الشركات الساعية للوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي واسعة الإمكانات، تتفوق على البشر، دون ضوابط أمان صارمة أو حدود لصلاحياتها تجلب جملة من المخاطر.
فختامًا، يقول أندريا ميوتي، مؤسسة منظمة «كونترول إيه آي» ControlAI الكائنة في لندن والرامية إلى الحد من مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي على البشرية: "ستكلل مهمة «جينيسيس» بالنجاح إن سمحت لأفضل علماء الولايات المتحدة بالانتفاع بأنظمة الذكاء الاصطناعي المتخصصة في إجراء الأبحاث، وستُمنى بالفشل إن صارت مجرد أداة داعمة للشركات الخاصة الساعية إلى بناء أنظمة ذكاء اصطناعي خارقة الذكاء تهدد الأمن الوطني والعالمي".
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 26 نوفمبر من عام 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.237
تواصل معنا: