أخبار

الأثر فوق الجيني للصدمة النفسية قد يمتد لأجيال

نشرت بتاريخ 24 يونيو 2025

رنا الدجاني

في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم، ارتكب النظام السوري مجزرة في مدينة حماة، أودت بحياة عشرات الألاف من السوريين. وقد شاركت إحدى الناجيات من المجزرة (إلى اليسار) مع ابنتها وحفيدتها في دراسة تبرهن على أن الصدمة النفسية الناجمة عن مثل هذه الوقائع تترك بصمات على الجينوم، وهذه البصمات قابلة للتوريث من جيل إلى جيل.

في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم، ارتكب النظام السوري مجزرة في مدينة حماة، أودت بحياة عشرات الألاف من السوريين. وقد شاركت إحدى الناجيات من المجزرة (إلى اليسار) مع ابنتها وحفيدتها في دراسة تبرهن على أن الصدمة النفسية الناجمة عن مثل هذه الوقائع تترك بصمات على الجينوم، وهذه البصمات قابلة للتوريث من جيل إلى جيل.
حقوق الصورة: أمين العلواني

أنا ابنة لاجئ فلسطيني، تعرَّض للتهجير قسرًا في عام 1948 على يد الميليشيات المسلحة التي شكَّلت نواة الجيش الإسرائيلي. وأمي من مدينة حماة السورية. لذا، أستطيع القول إن الصدمات النفسية تسري في عروق عائلتي، أو بالأحرى في حمضي النووي. أنا أيضًا عالِمة متخصصة في دراسة الجينات والتغيرات فوق الجينية لدى المجموعات العِرقية التي تعرَّضت للعنف والصدمات.

غالبًا ما تُصور الصدمة على أنها حدث مفرد، أما بالنسبة لي، فهي تجربة مستمرة على مدى 75 عامًا. كما أن الصورة النمطية عن الأشخاص الذين يتعرضون للصدمات تُقدهم باعتبارهم بحاجة إلى إنقاذ. بينما الواقع أن البشر على مدار تاريخهم التطوري لم يكونوا بمنأى عن الصدمات، ومع ذلك استطاعوا القيام منها، وتجاوزها، والمواصلة بعدها. إذن، ربما آن الأوان لإعادة النظر في الطريقة التي نفهم بها تأثير الصدمات، وقد دفعتني هذه القناعة إلى مراجعة الافتراضات السائدة واختبارها علميًا.

وعلم الوراثة فوق الجينية (epigenetics) هو فرع جديد من فروع علم الوراثة يُعنى بدراسة أثر البيئة على جيناتنا. صحيح أن الجينوم البشري يبقى ثابتًا طوال حياته، ولا يطرأ عليه أي تغيُّر، إلا أن بعض التجارب التي نمر بها ربما تُغير طريقة تعبير الجينات عن نفسها، وهو ما قد يساعدنا على التكيُّف في البيئات المختلفة.

ومن هنا سعيتُ إلى فهم تأثير الصدمة على جيناتنا؛ لا على الشخص نفسه الذي يتعرَّض للصدمة فحسب، بل أيضًا التحقق إن كانت تنتقل عبر الأجيال. وقد ركزت على التغيرات فوق الجينية، التي وإن كانت لا تُعدل التسلسل الجيني للحمض النووي بحد ذاته، ِّلكنها تؤثر في كيفية تعبير الجينات عن نفسها.  

عادةً ما يُجرى هذا النوع من الأبحاث على نماذج حيوانية نظرًا لصعوبة تتبّع أثر الصدمات عبر الأجيال لدى البشر. لكن في دراستنا، استندنا إلى شهادات وتجارب حقيقية لمجتمعات سورية عانت من الصدمات جراء تاريخها مع الديكتاتورية، وهو ما أتاح لنا ظروفًا ملائمة للبحث فيما إن كانت البصمة فوق الجينية للصدمة تُتوارث في الإنسان.

رنا الدجاني، أستاذة علم الجينات والبيولوجيا الجزيئية بالجامعة الهاشمية في الأردن
رنا الدجاني، أستاذة علم الجينات والبيولوجيا الجزيئية بالجامعة الهاشمية في الأردن

وبحكم معرفتي بالتاريخ السوري، سعينا إلى دراسة أثر التعرُّض للصدمات على التعبير الجيني خلال مراحل عمرية متفاوتة. عقدنا مقارنة بين ثلاث فئات من العائلات: الأولى تعرَّضت فيها الجدّة للصدمة أثناء حملها بالتزامن مع مجزرة عام 1982؛ والثانية تعرضت فيها الأم للصدمة أثناء حملها تزامنًا مع الانتفاضة الشعبية التي وقعت عام 2011؛ والثالثة مجموعة ضابطة من العائلات التي هاجرت إلى الأردن قبل مجزرة عام 1982، ومن ثم لم تتعرض نساؤها لصدمة مباشرة أثناء الحمل.

يمكن القول إن هذه الدراسة تُعد نموذجًا لتكامل البحث العلمي مع التعاون المجتمعي. لم يكن من السهل العثور على عائلات تنطبق عليها المعايير الدقيقة للدراسة من جهة، وتوافق على الانضمام ومشاركة بياناتها من جهة أخرى. تعاونتُ مع الباحثة السورية ديما حمضمض، التي تجمعني بها علاقة عمل تربو على عشر سنوات، عملنا خلالها سويًّا على تمكين المجتمعات السورية، وبناء الثقة وتعزيز شعورهم بالتمكين والانخراط الفعّال. ومع تفهم العائلات لأهداف الدراسة حتى سارعت إلى الموافقة على المشاركة، لاسيما مع معرفتهم أن الفريق البحثي بقيادة علماء من نفس الخلفية المجتمعية، ولهم تجارب مشابهة، وبالتالي هم أقدر على فهم أثر الصدمات عليهم وعلى ذريتهم.

بدأنا في جمع البيانات من العائلات، بما في ذلك عيناتٍ بيولوجية أُخذت من الخد. أدركتُ أنني بحاجة إلى باحثٍ ذي خبرة في التعرُّف على الصدمة النفسية وغيرها من التأثيرات البيئية. فتواصلتُ مع كاثرين بانتر-بريك، أستاذة الأنثروبولوجيا الطبية بجامعة ييل، والمتخصصة في التعامل مع اللاجئين.  أشرفَتْ بانتر-بريك على عملية التعرُّف على أنماط التعرُّض للصدمة وغيرها من التأثيرات البيئية، كما قامت بتمويل هذه المرحلة من البحث.

ولأنني أستاذة في الجامعة الهاشمية في الأردن، وهي بلدٍ نامٍ بموارد محدودة، فلم يكن لدي الأموال أو الموارد المخبرية اللازمة لإجراء التحليل فوق الجيني. لذا،دعوت كوني موليجان، أستاذة علم الجينات بجامعة فلوريدا، للمشاركة في الدراسة، وتولي أعمال التحليل فوق الجيني وتوفير التمويل اللازم له. تولت موليجان بمشاركة فريقها إلى جانب ألكسندرا بايندر، الباحثة بجامعة هاواي، أعمال التحليل الإحصائي المعقدة. وهكذا، كانت النتائج التي توصلنا إليها ثمرة حقيقية لتعاون متعدد التخصصات، لم نكن لنصل إليه لولا مساهمة كل طرف من الشركاء.

قمنا بتحليل 850 ألف موقع في الجينوم، وهي المواقع الجينومية التي تحدث عندها عملية إضافة مجموعة كيميائية تعرف باسم "الميثايل" إلى الحمض النووي، ومسؤولة عن تنظيم تفعيل الجينات أو إبطال مفعولها. وبالرغم من أن هذه العملية لا تُغيّر تسلسل الحمض النووي نفسه، إلا أنها قد تؤثر بشكل كبير في أداء الجينات لوظائفها.

استطعنا تحديد 21 موقعًا جينوميًّا ترتبط فيها عمليات المَثْيَلة بالأشخاص الذين تعرضوا لعنف مباشر، إلى جانب 14 موقعًا آخر يرتبط بصدمات موروثة من أجيال سابقة. تُعد هذه أول دراسة توثق وجود بصمات فوق جينية تنتقل عبر الأجيال وتظهر لدى أفراد من الجيل الثالث، دون أن يكونوا قد تعرّضوا للعنف بشكل مباشر. وعادةً ما تُمحى هذه العلامات الفوق جينية قبل الولادة، ضمن عملية تُعرف باسم إعادة البرمجة الفوق جينية، والتي تُعيد ضبط التعبير الجيني استعدادًا للجيل التالي. لكن نتائجنا تشير إلى أن بعض هذه العلامات قد تفلت من عملية إعادة البرمجة، وتستمر بالظهور في الأجيال اللاحقة.

تشير هذه النتائج إلى أن بعض التغيرات في التعبير الجيني، الناتجة عن التعرض للصدمة، يمكن أن تنتقل من جيل إلى آخر. وتقترح دراستنا أن هذه التغيرات الفوق جينية الموروثة قد تساعد الأجيال القادمة في التكيّف مع البيئات الصعبة، بما في ذلك التعرّض للعنف والضغوط النفسية والاجتماعية.

كذلك استطعنا لأول مرة أن إثبات أن التعرُّض للعنف أثناء الحمل يمكن أن يزيد فُرص الشيخوخة فوق الجينية، وهو ما يُبرز الحمل كمرحلة بالغة الأهمية في مسار النمو البيولوجي، خصوصًا في ظل ما تواجهه العديد من النساء الحوامل في غزة اليوم من ظروف حرب ضروس، وصفها كل من اللجنة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية وغيرها من الجهات الدولية بأنها إبادة جماعية مستمرة.

تُسهم هذه النتائج في إعادة تشكيل فهمنا للتطور، وتُظهر كيف يمكن للتجارب الصادمة أن تنتقل عبر الأجيال من خلال آليات وراثية فوق جينية. ورغم أن دراستنا ركزت على اللاجئين، إلا أن نتائجها تنطبق على جميع الفئات السكانية، وتشمل أنواع العنف كافة، بمختلف أشكاله وسياقاته.

ما يميز دراستنا أيضًا أنها تتقاطع فيها التخصصات البحثية، بدأت بمبادرة من عالِمة من الشرق الأوسط، في دولة من دول الجنوب العالمي، لأبوين كانا في عداد اللاجئين. وهكذا فإنها دراسة تتحدى التصوُّر النمطي: الذي يأتي فيه الباحث الغربي بالفكرة أولًا، ومن ثم يبحث عن شريك من الجنوب العالمي، ليساعد في جمع البيانات. في حالتنا، كان المسار معكوسًا وتشاركيًا، وهو ما أراه ضروريًا لفهم تعقيد الطبيعة البشرية والآليات البيولوجية الكامنة وراءها، تمهيدًا لبناء عالم أفضل للأجيال القادمة.

 

تقدّم نتائج دراستنا رؤية بديلة لمفهوم الصدمة النفسية، تتجاوز المنظور الغربي التقليدي الذي يُركّز على دور الضحية. فالبصمات فوق الجينية الناتجة عن الصدمة قد لا تكون مجرد أثر سلبي، بل قد تؤدي وظائف تنظيمية عليا تُتيح للأجيال القادمة مجموعة واسعة من استراتيجيات التكيّف مع البيئات المتقلّبة وغير المتوقعة، على نحو يشبه ما نراه في بعض الكائنات الذكية والاجتماعية، كالأخطبوط مثلًا.

هذا ما يحلو لي أن أطلق عليه: "حكمة الجَدّة". فإذا استوعبنا المرونة النفسية التي تمنحنا إياها هذه التغيرات، فمن شأن ذلك أن يعدِّل الكيفية التي تُرسم بها السياسات وتوضع الإجراءات، ويغيّر مسلكنا في التعاطي مع البحث العلمي عمومًا: إنه تحوُّل من الهشاشة ودور الضحية، إلى الفاعلية الشخصية والقدرة على التكيُّف. هذا المنظور يحتفي بالتنوع، ويدعو إلى الثقة في قدرة المجتمعات على بناء مستقبلها بسواعد أبنائها، ويثور على النهج الاستعماري في التعاطي مع العلم؛ إنه منظور يخدم البشرية عن طريق تعزيز الفهم، والمرونة، والإنصاف.

لقد زرت عائلة سورية عقب نشر الدراسة لإطلاعها على النتائج التي توصلنا إليها (وهي العائلة نفسها التي زرتها قبل عشر سنوات، عندما بدأنا في جمع العينات)، فإذا بأفراد العائلة يستطيعون — أخيرًا — التحدث بحرية عما جرى لهم، وقد امتلأوا أملًا بأن تُسهم هذه الدراسة، بما تحمله من دلالات في توثيق ما تعرضوا له، وسببًا في تحميل نظام الأسد الساقط مسؤولية ما حاق بهم. وإذا بي أجد أن الحفيدة، التي كانت في عمر العامين حين زرتُ العائلة في عام 2015، قد ناهزت الثانية عشرة، وتحلم أن تصبح طبيبة.

هذه ليست نهاية القصة، فنحن نعتزم مواصلة البحث للتعرُّف على وظائف المناطق الجينومية التي أزحنا عنها الستار، لنرى إن كانت متصلةً بسماتٍ صحية أو سلوكية بعينها؛ ولوضع أيدينا على آلية هذا الانتقال العابر للأجيال؛ وللنظر فيما إن كان في الإمكان التحقُّق من نتائج الدراسة بتكرارها. ونخطط كذلك لدراسة البصمات فوق الجينية للصدمة النفسية عبر أربعة أجيال من العائلات الفلسطينية.

بقي أن أذكر أن لي — أنا أيضًا — حفيدة، وأن التجربة غيّرتني؛ إذ جعلتني أدرك حجم المسؤولية الملقاة على عواتقنا لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

 

* يمكنك الاطلاع على الدراسة الأصلية، المنشورة بدورية «ساينتيفيك ريبورتس» Scientific Reports، هنا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.91