مقالات

اجعلوا التعامل مع باحثي أوكرانيا نموذجًا يُحتذى مع سائر الباحثين الفارين من مناطق النزاع

نشرت بتاريخ 22 مايو 2025

هل يحظى باحثو غزة في بريطانيا بمثل ما يحظى به الباحثون الأوكرانيون؟.. بمناسبة مرور ثلاث سنوات على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، تحدثت Nature إلى عدد من الباحثين الذين نزحوا من مناطق النزاع إلى المملكة المتحدة، ليسردوا تجاربهم بالجامعات البريطانية.

بنجامين بلاكيت

تقول أماني أحمد، التي استقرت في مدينة إدنبرة البريطانية، إن أطفالها ما زالوا يُصابون بالهلع لدى سماع أصوات الألعاب النارية، لأنها تذكرهم بدويّ الانفجارات في وطنها: غزة.
تقول أماني أحمد، التي استقرت في مدينة إدنبرة البريطانية، إن أطفالها ما زالوا يُصابون بالهلع لدى سماع أصوات الألعاب النارية، لأنها تذكرهم بدويّ الانفجارات في وطنها: غزة.
حقوق الصورة: Salah Ahmed

منذ انطلاق الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير من العام 2022، وحتى مثول هذا المقال للنشر في العشرين من يناير 2025، أنفقت الحكومة البريطانية نحوًا من 13 مليون جنيه استرليني (ما يعادل 16 مليون دولار أمريكي) على الزمالات البحثية المقدَّمة لدعم حوالي 180 باحثًا أوكرانيًّا بجامعات المملكة المتحدة.

تنظَّم هذه الزمالات بالتنسيق مع «رابطة الدفاع عن الباحثين المهدَّدين»، التي يُشار إليها برابطة «كارا» CARA، وهي منظمة غير حكومية، مقرها لندن، تقدم الدعم إلى الأكاديميين المعرَّضين للتهديد أو الخطر، وكذلك مع الأكاديمية البريطانية، المعنية بالعلوم الاجتماعية والإنسانيات.

ساعدت هاتان الجهتان الباحثين — ومنهم متخصصون في الهندسة، والطب، والعلوم الطبيعية والتطبيقية، والعلوم الاجتماعية — على الالتحاق بوظائف بالمؤسسات الأكاديمية البريطانية.

على وقع الحروب التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط (في الأراضي الفلسطينية بين إسرائيل وحماس، وفي لبنان بين إسرائيل وحزب الله حتى إعلان وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، وفي السودان)، تلقَّت رابطة الدفاع عن الباحثين المهدَّدين (كارا) طلباتٍ من باحثي المنطقة تفوق عدد الطلبات التي تتلقاها من أوكرانيا.

في الأسبوع السابق على إعلان وقف إطلاق النار في غزة (في التاسع عشر من يناير 2025، قبل أن يُستأنف القتال في الثامن عشر من مارس)، كانت «كارا» تعمل على نحو 130 طلبًا من الأراضي الفلسطيني وحدها. "هذا الرقم يفوق عدد الطلبات الواردة من أية جنسية أخرى هذا العام"، حسب قول زيد البياتي، نائب رئيس الرابطة ومدير برنامج الزمالات بها.

وقد تبيَّن أن استقبال الباحثين النازحين من أوكرانيا يمثل تجربة مثمرة بحق، تعلَّمت منها الجامعات البريطانية ورابطة كارا كيف تكون أكثر استعدادًا لإيواء الأكاديميين الباحثين عن ملاذٍ آمن.

صدمة

عائلة أماني أحمد هي من بين العائلات التي تدعمها رابطة «كارا».

هي سيدة من غزّة، انتقلت إلى بريطانيا في عام 2022 لنيل رسالة الدكتوراه في دراسات الإدارة من جامعة إدنبرة، تاركةً خلفها زوجها وأبناءها الثلاثة.

عادت أماني إلى العاصمة الإسكتلندية من زيارة للعائلة قبل أيام من هجوم حماس في أكتوبر من العام 2023، وما تبعه من حربٍ شنّتها إسرائيل على قطاع غزة. وقد ساعدت رابطة «كارا» على لم شمل الأسرة في إدنبرة في أبريل من عام 2024.

تصف أحمد شهور الابتعاد عن أسرتها بأنها كانت تفوق الاحتمال. تقول: "فكرتُ في العودة إلى غزة لأبقى مع أبنائي، لكن الحدود كانت مغلقة. وكانت إشارة الإنترنت مفقودة في أغلب الأوقات، فلم تكن تمضي عليَّ ساعة من ساعات الليل إلا وأنظر في هاتفي أملًا في أن يصلني منهم شيء".

تمكَّن الزوج والأبناء، أخيرًا، من العبور إلى مصر، حيث التأم شمل الأسرة، قبل أن يرحلوا معًا إلى المملكة المتحدة. وفي الشهر التالي، وضعت أماني مولودها الرابع.

العَيش في مدينة يسودها الأمن والسلام نعمة كبرى حقًا، لكنَّ أسرة أماني لم تتعاف من تبعات الحرب.

تقول أماني: "لي ابنة كانت تحلم بدراسة الطب، وكانت دومًا متفوقة على أترابها. ولكن مع الانتقال إلى بلد جديد ومدرسة جديدة، لا تقدر ابنتي على بلوغ نفس المستوى. هذه صدمة أخرى من الصدمات التي أنتجتها الحرب". وأضافت: "ما زال أبنائي يُصابون بالهلع لدى سماع أصوات الألعاب النارية، التي وإن كانت تُطلَق لجلب البهجة، إلا أن أطفالي لا يستطيعون أن يُخرجوا من رؤوسهم أصوات الانفجارات والقصف في غزة".

يَشغل زيد البياتي منصب نائب الرئيس ومدير برنامج الزمالات برابطة الباحثين المهدَّدين (كارا)، التي تقدم المساعدة للأكاديميين المعرَّضين للتهديدات والأخطار.
يَشغل زيد البياتي منصب نائب الرئيس ومدير برنامج الزمالات برابطة الباحثين المهدَّدين (كارا)، التي تقدم المساعدة للأكاديميين المعرَّضين للتهديدات والأخطار.
حقوق الصورة: Zeid Al-Bayaty

مأوى

يقول البياتي إن الدروس المستفادة من تجربة تقديم الدعم للباحثين الأوكرانيين يمكن أن تساعد الرابطة على دعم باحثين مثل أماني أحمد، وعائلاتهم. غير أن ذلك يستلزم توفُّر الموارد اللازمة، وإيجاد آليات لاستقدام هؤلاء الباحثين إلى بريطانيا، وكذلك التأكد من أن الجامعات على دراية بأبعاد المسؤولية التي تضطلع بها في هذا الصدد.

عندما تُلحِق رابطة «كارا» باحثًا بجامعة ما، تحرص على أن تكون الجامعة على اطلاعٍ تام بمسؤولياتها الأكاديمية حيال الباحث. يقول البياتي: "نسلِّم [للجامعة] قائمة إرشادات تبيِّن مقتضيات استضافة الباحث، بحيث تكون ملمَّةً بالمتوقَّع منها. فإلى جانب المشرفين الأكاديميين، ينبغي توفير مشرف غير أكاديمي لتقديم الدعم النفسي وإسداء النصح في الشؤون الحياتية".

غالبًا ما يكون الجانب غير الأكاديمي، مثل العثور على مدرسة للأطفال أو وظيفة للزوج أو الزوجة، هو الجانب الأصعب والتحدي الأكبر الذي يواجه الوافدين الجُدُد. يقول فاليري خوخلوف: "أصعب تحدٍّ بالنسبة لي كان العثور على شقة للإيجار". وخوخلوف هو الباحث في مجال الأرصاد وعلوم المناخ الذي مُنح وظيفة في جامعة ستيرلنج بعدما فرَّ نازحًا أوديسا، تلك المدينة الأوكرانية التي تقع على ساحل البحر الأسود، في عام 2022. أقام خوخلوف في السكن الجامعي طوال الشهور الستة الأولى من عمله بالجامعة، وذلك لصعوبة العثور على سكن دائم.

وأوضح البياتي أن "الطلب على السكن مرتفع للغاية. وإذا كنتَ صاحب عقار، وجاءك اثنان يطلبان السكن، أحدهما يملك سجلًّا ائتمانيًا، والآخر قَدِم إلى البلاد قبل أسابيع قليلة، ومعيَّن في وظيفة مؤقتة، فليس من الصعب توقُّع على مَن سيقع اختيارك".

ولنذكر أن هذا العناء في العثور على مأوًى لشخص فرَّ لتوِّه من أتون حربٍ طاحنة، يأتي بعد رحلةٍ لعلها الأصعب والأشدُّ مشقةً في حياته. بالنسبة إلى تتيانا لونيوفا، باحثة العلوم الاجتماعية القادمة من مدينة بولتافا الأوكرانية التي لا تبعُد إلا ساعتين ونصف الساعة بالسيارة عن خط المواجهة مع الروس، كانت تلك الرحلة تتضمن التنقُّل بصحبة طفلها ابن العشر سنوات، والسفر غربًا مسافة تزيد على ألف كيلومتر، وصولًا إلى الحدود المجريّة. تتذكّر الباحثة قائلة: "كانت طويلةً بحق تلك الرحلة التي قطعتُها من غرب أوكرانيا، على متن قطار إخلاءٍ أولًا، ثم في حافلة أصغر حجمًا".

طوال الرحلة، كانت الهواجس والمخاوف تعصف برأس لونيوفا: من أن ينفد ما لديها من مياه الشرب، أو أن تفقد ابنها خلال الرحلة. حاولَتْ أن تحفِّظ ابنها رقم هاتفها، وأخبرته أنه لو تاه لسببٍ أو لآخر، ولم يستطع الوصول إليها، فعليه أن يسعى إلى التواصل مع أحد العاملين في الحقل الأكاديمي.

تقول: "لا أدَّعي أنني ذائعة الصيت في مجال تخصُّصي، لكن لي دراسات منشورة بالفعل. والذي دار برأسي حينها هو أن [ابني] سيتمكَّن من الوصول إليَّ بهذه الطريقة. حاولتُ أن أخبره بهذا كله دون أن أُشعره بالقلق أكثر من اللازم".

تتيانا لونيوفا، الباحثة التي اضُطرَّت إلى السفر مسافةً تزيد على ألف كيلومتر عبر أوكرانيا، قبل أن تواصل رحلتها إلى بريطانيا.
تتيانا لونيوفا، الباحثة التي اضُطرَّت إلى السفر مسافةً تزيد على ألف كيلومتر عبر أوكرانيا، قبل أن تواصل رحلتها إلى بريطانيا.
حقوق الصورة: Mykhailo Lunyov

حيرة

ينصح البياتي المؤسسات المعنية بإيواء الأكاديميين النازحين بأن تشرع في البحث عن مسكن مناسب حتى قبل وصولهم إلى البلاد. ويحثُّهم على التواصل بأصحاب العقارات المتاحة لمناقشة الأمر معهم، ومعرفة موقفهم من فكرة التأجير لشخص حطَّ لأول مرة في بريطانيا قبل فترة وجيزة، ولإخباره كذلك بأن المستأجر سيكون حاصلًا على منحة تعليمية، ومعيَّنًا في وظيفة، وله دخل.

تذكُر لونيوفا أنها تملَّكتها مشاعر الارتباك والحيرة لدى وصولها إلى بريطانيا في العام 2022. مُنحَتْ الباحثة وظيفة بإدارة التعليم بجامعة يورك بعدما طلبَتْ المساعدة من بول روبرتس (وهو متقاعد الآن، إلا أنه كان يشغل حينها منصب مدير مركز تعليم اللغة الإنجليزية بالجامعة)، وكان قد ربط بين لونيوفا وروبرتس تعاون بحثي قبل اندلاع الحرب.

تقول الباحثة: "أتينا [إلى بريطانيا] ولم يكن في حوزتنا شيء. سوى هاتفي، وبه شريحة لا تعمل هنا، وقليل من الملابس، لم أكن أملك شيئًا. لم يكن معي أية مدَّخرات".

وكان عسيرًا فتحُ حساب بنكي للونيوفا، لأنها لم تستطع تحميل تطبيقات البنوك البريطانية على هاتفها الذي يحمل شريحة أوكرانية. لذا، اصطحبها روبرتس إلى أحد البنوك لفتح حساب.

وتقول: "ساعدني كذلك على العثور على الشقة التي أستأجرها الآن، بل وأتى معي يوم ذهبتُ لأتفرج على الشقة". وساعدها زملاء أكاديميون آخرون على الاستفادة من المكتبة، والتنقُّل داخل الحرم الجامعي. تقول: "إنني محظوظة جدًّا أن تلقَّيتُ كل هذا الدعم والمساعدة على الاستقرار [في هذا المكان الجديد]".

تذكر لونيوفا أن الناس في بريطانيا تعلوهم الدهشة، ولا يعرفون بماذا يردُّون، عندما تحكي لهم تجربتها، والرحلة التي خاضتها لتصل إلى يورك. تقول: "تخلو وجوههم من أي تعبير، ويظهر جليًّا أنهم لم يستوعبوا ما أقصُّه عليهم". غير أنها تستدرك قائلةً إنها لا تقصد إلى لومهم، وإنما تبيّن الهوّة السحيقة والبَون الشاسع بين تجربة الفارّ لتوِّه من نزاع مسلح، وتجربة مَن يُؤويه.

ترحاب

من الأشياء التي يمكن لأفراد المجتمع المستضيف أن يقدِّمها للنازحين هو أن يدلّوهم على خدمات الدعم النفسي التي تقدمها جامعاتهم، ويتحققوا من إلمام النازحين بهذه الخدمات. يقول البياتي: "نحاول أن نوضح ذلك للجهة المستضيفة، لتكون على دراية بالمطلوب منها".

يمكن القول، إجمالًا، إن الجامعات البريطانية المستضيفة لباحثين أوكرانيين احتضنتهم ووفرت لهم دعمًا استثنائيًّا، حسب قول كاترينا دوجينا، الباحثة المتخصصة في تقنيات إنتاج الأغذية، والقادمة من خاركيف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية. يُذكر أن المركز الدولي لأبحاث النكهات، التابع لجامعة نوتنجهام، هو الجهة التي تستضيف دوجينا منذ عام 2022، بعد الرحيل عن أوكرانيا في أعقاب بدء الغزو الروسي.

تقول: "مدينة خاركيف هي الأخرى تقع غير بعيد من الحدود الروسية، ولم تمض أيام على بدء الغزو إلا وقد وقعت المدينة في أيدي الروس تقريبًا، لذا كان علينا أن نرحل على الفور. في البداية، توجَّهنا — أنا وزوجي وابنتي — إلى غرب أوكرانيا، في بلدة صغيرة تُدعى خوست في مقاطعة زاكارباتيا، حيث نزلنا عند صديق كان من الكرم بحيث خصص لنا غرفةً في منزله. رغم أننا وصلنا إلى وجهتنا بسلام، بدأنا نلمس تأثير الغارات المستمرة في سلوك ابنتي، التي بدت أكثر توترًا، وكانت تدخل في نوبات بكاء متكررة. عندها أدركت أننا بحاجة إلى الرحيل عن هذا البلد، حفاظًا على سلامة ابنتي. رُحتُ أبحث عن أقرب بلدٍ يتحدث الإنجليزية، لاعتقادي أن مستوى إجادتي للإنجليزي يؤهلني للظفر بوظيفة فيه".

حصلت دوجينا على عملٍ في مدينة نوتنجهام بمجرد تأمين تأشيرتين لها ولابنتها؛ أما زوجها فقد بقي في أوكرانيا، إذ لم يكن يُسمح بالرجال الأوكرانيين بمغادرة البلاد. تقول: "لم أتعرض لصدمة حضارية ذات بال، ربما لأنني جئتُ إلى المملكة المتحدة وأنا أنطوي على امتنان عميق لبريطانيا: المجتمع والحكومة، لتقديمها دعمًا لا يُقدَّر بثمن، واحتضانها لآلاف اللاجئين الأوكرانيين".

رحَّبت جامعة نوتنجهام بدوجينا ترحيبًا حارًّا. تقول الباحثة: "لم تدَّخر الجامعة وسعًا لتقديم كل صنوف الدعم لي بصفة شخصية. فقد تفضَّلت بالموافقة على منحة إضافية لتغطي جانبًا من نفقات السكن ورعاية ابنتي. كما تنظِّم الجامعة اجتماعات دورية للباحثين الأوكرانيين، وتتيح لهم دورات لتعلُّم الإنجليزية، إضافةً إلى الدعم النفسي، ومواد للتطوير المهني".

لعلَّ حزمة الدعم هذه تمثل الدرس الرئيس من استقبال بريطانيا للباحثين الأوكرانيين، وهو أنه لا شيء يحدث في الفراغ، على حد قول البياتي، الذي يضيف: "تجربة التعامل مع الحالة الأوكرانية تُظهر لنا ما يحدث عندما يجتمع التمويل، مع البيئات السياساتية الداعمة، مع الروح التعاونية".

ربما يصعُب الوصول إلى نفس المستوى من الموقف الحكومي الداعم والاستجابة الموحَّدة في حالة ضحايا النزاعات الأخرى. والحروب الدائرة في الشرق الأوسط تضعنا أمام تحديات جديدة؛ فإذا كان مما يقع في حدود الممكن إخراج الأوكرانيين من أوكرانيا، فإن إخراج الفلسطينيين من غزة يكاد أن يكون مستحيلًا، حسب وصف البياتي. ومع ذلك، فإن النموذج الأوكراني يمنحنا الأمل في إمكان بلوغ مستويات مماثلة من الدعم في حالات أخرى. العبرة هنا بتوفُّر الإرادة.

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 20 يناير 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.69