مقالات

هل تُحقّق دول الخليج الاستقلالية في مجال الذكاء الاصطناعي؟

نشرت بتاريخ 20 مايو 2025

 

تستثمر دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها الإمارات، بشكل كبير في نماذج الذكاء الاصطناعي في مجالات الطاقة والرعاية الصحية والتعليم.

بقلم حكيم حسيد


حقوق الصورة: معهد الابتكار التكنولوجي بأبوظبي.


 

فجَّر الذكاء الاصطناعي ثورة أحدثت تحوُّلًا جذريًّا في السُبل التي يمكن بها للعالم الرقمي أن ينهض بدعم وتمكين الابتكار وخدمة البشرية وتسيير شؤون الحياة. فمع بزوغ فجر التعلُّم العميق، ثم ظهور نماذج الأساس (نوع من نماذج الذكاء الاصطناعي)، فتحتْ هذه التحولات آفاقًا واسعة للاستثمارات العالمية، باعتبارها فرصة فريدة لتحقيق الأتمتة الحقيقية وتعزيز الكفاءة في عالم الأعمال. وفيما تردَّدت أصداء تلك التحولات بين جنبات العالم، ظهر لاعبٌ غير متوقّع على الساحة: دول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ أظهرتْ منظومة الذكاء الاصطناعي الإقليمية بها -التي كانت تحرّكها بالأساس الرؤى الوطنية وإستراتيجيات التحول الرقمي- ديناميكية عالية وتحوّلًا سريعًا، تناغمًا مع رغبات الحكومات في اقتناص هذه الفرصة الذهبية.

وتعدّ الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في طليعة الدول التي تقود هذا التحول، عبر استثمارات ضخمة وذات مغزى في بحوث الذكاء الاصطناعي وتطويره وبنيته التحتية وإدخاله في الخدمات الحكومية والتعليم، وغيرها من المجالات التي تُسهم في دفع عجلة التطور. يدعم هذه الاستثمارات عددٌ من المبادرات الوطنية، مثل «إستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031» و«رؤية السعودية 2030» وتهدف إلى جعل الذكاء الاصطناعي البوصلة الرئيسة التي توجِّه تحقيق التنوّع الاقتصادي ورفع الكفاءة وتطوير المدن الذكية. تطمح تلك الإستراتيجيات إلى تعزيز الشراكات بين الشركات العالمية والمراكز البحثية، وفي الوقت ذاته احتضان المواهب والكفاءات المحلية والشركات الناشئة، لتطوير منظومات ذكاء اصطناعي مُصمَّمة لتلبّي احتياجات مجتمعاتها وتعكس أولوياتها.

تحدّيات جِسام

وللحق فإن الطموحات الكبيرة تأتي مصحوبة بتحديات جسيمة، ولكي تحقق دول مجلس التعاون الخليجي مآربها من الذكاء الاصطناعي وتبلغ غاياتها، لا بدَّ أن تتغلب على عدد من العراقيل مثل: 1) نُدرة المواهب والكفاءات المتخصصة. 2) الاعتماد على التقنيات المستوردة. 3) ندرة البيانات عالية الجودة المرتبطة بالسياق الثقافي المحلّي. وعن التحدي الأول، صحيح أن الوضع الحاليّ يشهد تحسُّنًا ملحوظًا، إلا أنه لا يزال هناك نقص في الكفاءات البحثية التي قد تقصد مجلس التعاون الخليجي، حتى مع ما يقدّمه من مزايا جذابة. ومن الصعوبة بمكان مضارعة العملاقين الأمريكي والصيني اللذين يقدّمان لموظفيهما حِصصًا من الأسهم، فضلًا عن فيض من الخطط المالية الجذابة لاستقطاب الكفاءات، وأما مجلس التعاون الخليجي الذي يعدّ لاعبًا ناشئًا في المجال، فالوقت كفيل بأن يبلور جاذبيته ويبرزها، غير أن الدول الأعضاء بالمجلس تتبنَّى مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات التدريبية، مدعومة ببرامج محكمة، تتيح لها إيفاد الباحثين الشباب الموهوبين إلى أبرز الجامعات العالمية لنيل درجات الماجستير والدكتوراه.

حكيم حسيد كبير الباحثين بمركز أبحاث الذكاء الاصطناعي والعلوم الرقمية، في معهد الابتكار التكنولوجي بأبوظبي.
حكيم حسيد كبير الباحثين بمركز أبحاث الذكاء الاصطناعي والعلوم الرقمية، في معهد الابتكار التكنولوجي بأبوظبي.

وأما التحدي الثاني المتمثل في الاعتماد على تقنيات واردة من الخارج، فيمثّل معضلة حقيقية؛ إذ إن غالبية الأجهزة وأنظمة البرمجيات تُصنع خارج دول مجلس التعاون الخليجي، مما يلقي بظلال من عدم اليقين على مستقبل المنطقة، لكن هذا الوضع في طريقه إلى التغيير، إذ تتجه دول مثل الإمارات والسعودية وقطر إلى ضخ استثمارات إستراتيجية في مؤسسات بحثية مرموقة، منها على سبيل المثال لا الحصر: معهد الابتكار التكنولوجي TII، وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي MBZUAI، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) KAUST، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) SADAIA، ومعهد قطر لبحوث الحوسبة QCRI. وعلى صعيد البرمجيات، تظهر على الساحة نماذج أساس تنافسية جديدة مطورة محليًّا بالكامل، مثل النموذج اللغوي الكبير «فالكون» Falcon الذي طوره معهد الابتكار التكنولوجي، ونموذج «جيس» Jais الذي أطلقته مجموعة «جي 42». وفيما يخص الأجهزة، فثمة استثمارات ضخمة مخصصة لإنشاء مراكز بيانات محلية ودولية، فعلى سبيل المثال، تعمل شركة تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الإماراتية «جي 42»، على إنشاء مراكز بيانات في الولايات المتحدة وفرنسا باستثمارات غير مسبوقة في المجال.

ويتمثّل التحدي الأخير في صعوبة الوصول إلى البيانات عالية الجودة اللازمة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي بالمنطقة، إذ تطرح هيمنة النماذج القائمة على اللغة الإنجليزية عقبات كؤودًا أمام دمج اللغة العربية وتطوير تطبيقات تراعي الخصوصية الثقافية. في حقيقة الأمر، يتَّخذ معظم العمل المتعلق بالذكاء الاصطناعي في العالم من اللغة الإنجليزية أساسًا له (إضافة إلى دمج بعض النماذج اللغوية من الصين). يلوِّح هذا بخطر اندثار اللغات والثقافات المحلية، ولا تزال البيانات مبعثرة بين مختلف الجهات في مختلف البلدان، والوصول إليها أمر بالغ التعقيد. كما أن ضوابط الخصوصية ما زالت قيد التطور، مما يخلق حالة من عدم اليقين بشأن مشاركة البيانات. وهكذا، كي تتبوأ المنطقة موقعًا رياديًّا في مجال الذكاء الاصطناعي عالميًّا، يتعيَّن عليها التصدي لهذه التحديات، عبر تنسيق أُطر السياسات وضخّ استثمارات مستدامة في الابتكار المحلّي.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المنطقة

على الرغم من هذه التحدّيات والمعوّقات، فإن دمج الذكاء الاصطناعي ونشره في المنطقة يسير بخطى متسارعة، كاشفًا عن بعض أكثر مشاريع التحوّل الرقمي طموحًا في العالم. وثمة قطاعان كبيران من أبرز المستفيدين من ثورة التحول الرقمي، هما: الرعاية الصحية والتعليم، وتسعى الإمارات، على وجه الخصوص، إلى استكشاف الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل التشخيص المبكر والتصوير الإشعاعي والطب عن بُعد. كذلك، أعلن البلد مؤخرًا دمج الذكاء الاصطناعي في مناهجه التعليمية، ما يعكس بوضوح عزمه الراسخ على إحداث ثورة في مجال التعليم.

ويعدّ قطاع الطاقة أيضًا من القطاعات الحيوية في المنطقة، وعليه يتزايد الاهتمام بتطوير إدارته وزيادة كفاءته وتقليص التكلفة الإنتاجية. من هذا المنطلق، تُسخِّر شركات مثل «أدنوك» في الإمارات، و«أرامكو» في السعودية، الذكاءَ الاصطناعي لتحسين عمليات إنتاج النفط والغاز، كاستخدامه في التنبؤ بمواعيد احتياج المعدات إلى صيانة، وتحليل البيانات الجيولوجية لتحديد أنسب مواقع الحفر، مما يسهم في تقليص فترات توقف المعدات ورفع كفاءتها التشغيلية.

وعلى صعيد الأمن السيبراني، نجحت المؤسسات المالية بالبحرين والإمارات في توظيف الذكاء الاصطناعي لرصد عمليات الاحتيال وإدارة المخاطر.  تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي في الأساس على تقنيات تعلم الآلة لرصد الأنماط المشبوهة، مما يعزّز الامتثال للضوابط واللوائح الرقابية.

وهكذا، سارعت دول الخليج بخطى حثيثة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي، محوِّلة التحدّيات إلى فرص، فالدور الإيجابي الذي تضطلع به مختلف الهيئات الحكومية في هذا السباق، سواء من خلال المشاركة في وضع الضوابط أو السعي نحو إقامة شراكات مفتوحة، إلى جانب النمو المتسارع والبيئات الرقابية الخصبة، يضع المنطقة في الطليعة بمضمار التحول الرقمي ويعِد بقلب الموازين: من مجرد مستورد للتكنولوجيا إلى مُصدِّر موثوق يُعتمد عليه.

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.66