كيف غيَّرت "مهمة إدارية مملة" مسار رحلتي لنيل درجة الدكتوراه
19 May 2025
نشرت بتاريخ 19 مايو 2025
الأفكار الجيدة — والأدوات المؤثرة — لا تأتي فقط من الدول الغربية الغنية، وفقًا لألكساندرا لازيتش، اختصاصية العلوم الاجتماعية في صربيا.
حقوق الصورة: ماتي هيكورينن.
كنت في بداية مسيرتي المهنية لنيل درجة الدكتوراه عندما كلّفتني مشرفتي بأول مهمة لي. أرادت مني جمع وتنظيم استبيانات في مجال العلوم الاجتماعية، هي "أدوات" – كما يُشار إليها - يستخدمها مختبرنا في جمع البيانات. بدا الأمر وكأنه ضرب من المهام الإدارية الرتيبة التي ما كان أحد ليرغب في الاضطلاع بها، لكنني فطنت إلى مغزاها وأهميتها.
فكما هو متوقع في أوساط الفرق البحثية في علم النفس، يعتمد مختبرنا في جامعة بلجراد اعتمادًا كبيرًا على الاستبيانات. ولدى أعضاء فريقنا اهتمامات وخلفيات بحثية متنوعة، وتُستخدم الاستبيانات لقياس كل شيء بدءًا من سمات الشخصية والإيمان بنظريات المؤامرة، وانتهاءً إلى التحيزات المعرفية وأعراض الصدمات النفسية.
ومع أن بعض هذه الأدوات صممه زملاء لي في المختبر أو باحثين محليين، إلا أن معظمها جاء من دول غربية وكان لا بد من ترجمته وتطويعه ثقافيًّا لاستخدامه في صربيا.
لم نكن أول مَن يجمع مثل هذه الأدوات، ولم يكن من الهين على الإطلاق أن تتكبَّد عناء ترجمة 100 سؤال بعناية لتكتشف أن شخصًا آخر سبقك إلى ذلك — صدقوني، لقد عشت التجربة. ولكن معظم الجهود الأخرى كانت قد ركزت على إنتاج محتوى باللغة الإنجليزية، ومتاحة باشتراك مدفوع أو تقتصر على فرع معين من فروع علم النفس. ولذا كان من المرتقب أن تكون مجموعتنا موردًا ثمينًا وقيمًا للباحثين في بلدي، وأن تمد الجسور لسد فجوة الوصول إلى الأدوات المتاحة بسهولة في الغرب.
الفكر البحثي في صربيا يتغير لكن الإصلاحات قد تأتي على حساب مئات الوظائف
نُشر نتاج فريقنا البحثي في مارس عام 2020، ليخرج إلى النور «مستودع أدوات علم النفس الرقمية باللغة الصربية» The Repository of Psychological Instruments in Serbian، ويُعرف اختصارًا بمشروع (REPOPSI)، وهو مستودع بيانات مركزي مفتوح الوصول حيث يجري تخزين بيانات الاستبيانات ومشاركتها وتنظيمها، لا سيَّما تلك المُترجمة إلى اللغة الصربية أو التي أنشأها علماء صربيون. ويوفر المستودع نقطة انطلاق جيدة لأي مشروع بحثي في علم النفس داخل البلاد أو خارجها. كما يُبرز بشكل أقوى الإسهامات العلمية المقدمة من منطقة لا تحظى غالبًا بالتمثيل اللائق في هذا المجال. وقد أحدث هذا المشروع تحولًا هائلًا في مسيرتي نحو نيل درجة الدكتوراه.
على مدار السنوات الخمس التالية، زاد حجم المستودع الرقمي من حوالي 100 استبيان إلى أكثر من 250 استبيانًا (العديد منها متوفر باللغتَين الصربية والإنجليزية)، كما حصل على منحة قدرها 50 ألف يورو (55 ألف دولار أمريكي) من مشروع «مستقبل السحابة الأوروبية للعلوم المفتوحة» European Open Science Cloud Future ومنظمة «ريسيرتش داتا ألاينس» Research Data Alliance — المشار إليها اختصارًا بـ RDA — وهي منظمة بحثية عالمية تقودها الأهداف المجتمعية، كما حاز على إشادة «جمعية تطوير العلوم النفسية» Society for the Improvement of Psychological Science. وقد قدَّمت شخصيًّا محاضرات وورش عمل حول هذا المستودع الرقمي، وحصلتُ في عام 2024 على جائزة سارة جونز من منظمة «ريسيرتش داتا ألاينس» والتي تُمنح نظير "الإسهامات الاستثنائية في تعزيز التعاون في العلوم المفتوحة"، تقديرًا في المقام الأول لجهودي في هذا المشروع.
أسوق إليكم فيما يلي بعض الدروس العملية المستفادة خلال السنوات الخمس الماضية:
لا بأس بعدم الكمال
إذا أُجريت أبحاث الوصول المفتوح إلى العلوم بشفافية فلا يشترط أن تكون ممارستها مثالية لا تشوبها شائبة. في مقدورك دائمًا التحسين والتنقيح باستمرار.
عند إطلاق «مستودع أدوات علم النفس الرقمية باللغة الصربية» في عام 2020، لم أكن أدرك كل القيود التي تحيط به أو أوجه القصور المحتمَلة. ولكن بمجرد أن أصبح المشروع متاحًا للجمهور، بدأتُ أنا وزملائي نتلقى ملاحظات من المستخدمين والخبراء حول الجوانب الفنية وتجربة المستخدمين، وطبقنا هذه الملاحظات سعيًا وراء تحسين الخدمة. ولأننا حرصنا منذ البداية على توثيق كل شيءٍ بدقة، استطعنا البناء على ما أنجزناه في المشروع بمجرد حصولنا على التمويل.
يتجلى هذا بوضوح في تعاملنا مع تنسيقات الملفات. في البداية، كان تخزين الاستبيانات في صورة ملفات بتنسيق «مايكروسوفت وورد» Microsoft Word، ولكن بعد ثلاثة أشهر جرى تحويل التنسيقات إلى صيغة «أدوبي بي دي إف» Adobe PDF و«أوبِن أوفيس» Open Office. هذه التنسيقات "المفتوحة" متاحة للجميع دون الحاجة إلى برامج مسجلة بحقوق ملكية. وبعد ثلاث سنوات، حوَّلنا بيانات تعريف الاستبيانات (البيانات الوصفية الأساسية) إلى تنسيق «إكس إم إل» XML. ونتيجةً لذلك، أصبح موردنا متاحًا للاستخدام على نطاق أوسع أمام الباحثين والأجهزة على حد سواء.
الانفتاح هو سبيلك الأرشد
لم نُنشئ مستودع أدوات علم النفس الرقمية من الصفر؛ إذ اعتمدنا على أدوات مجانية موجودة مسبقًا ومفتوحة المصدر غالبًا. فنحن نخزِّن البيانات على منصة «أوبن ساينس فريمورك» Open Science Framework. ونستعين في إدارة المشروع بخدمة مشاركة التعليمات البرمجية «جيت-هَب» GitHub وبمستودع البيانات «زِنودو» Zenodo. طوَّرنا تطبيق البحث في المستودع بحيث يستخدم لغة «آر» R البرمجية، ونستعين بقائمة «داتاسايت ميتاداتا سكيما» DataCite Metadata Schema ولغة «بايثون» Python البرمجية لجعل البيانات الوصفية مقروءةً للآلات. كما حرصنا على إدراج المستودع الرقمي في عدة سجلات خدمية مثل re3data.org وFAIRsharing وOpenDOAR لزيادة معدلات ظهوره في محركات البحث.
مما تنبغي مراعاته عند تقييم البنية التحتية "المفتوحة" لمشروعك مدى تلبية هذه البنية لاحتياجات مجتمعك. لذا، تعرف جيدًا على ملفات توثيق المشروع وانظر إلى أي مدى تتحقق في هذه البنية التحتية مجموعة من المبادئ، تتمثل في إمكان البحث في البنية التحتية وسهولة الوصول إليها وقابلية التشغيل البيني لها وقابلية إعادة استخدامها. فعلى سبيل المثال، إلى جانب ضمان أمان البيانات في المستودع وإمكان تخزينها لأمد طويل، تتميز منصة «أوبن ساينس فريمورك» بأنها مألوفة لمستخدمينا وتوفر خدمات مثل معرف الوثيقة الرقمي (DOI) مجانًا. ولكن قدرتها على التعامل مع المدخلات من البيانات الوصفية محدودة، مما يضطرنا إلى إضافة معلومات مثل تفاصيل الترخيص بشكل منفصل.
اجعل المثابرة شريعتك ومنهاجك
إذا كان مشروعك صغيرًا أو غير ممول أو يخدم جمهورًا في دولة منخفضة إلى متوسطة الدخل، فستضطر على الأرجح إلى بذل مجهود مضاعف للحصول على الاعتراف والظهور الذي يستحقه مشروعك. لكن لا تيأس؛ ففي بعض الأحيان منشور واحد على وسائل التواصل الاجتماعي أو اتصال واحد أو عرض تقديمي في أحد المؤتمرات ربما يكون كفيلًا بإحداث الفارق ويكون له أبلغ الأثر.
بدأ فريقي بالترويج للمستودع الرقمي عبر القوائم البريدية ووسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تلقينا لدعوات لإلقاء محاضرات وتنظيم ورش عمل عنه. ومع ازدياد شهرة المشروع واتساع قاعدة العارفين به، أصبح العثور على فرصة التمويل المناسبة أسهل. وتواصلنا مع مجتمعات محلية، بما في ذلك المجتمعات التي يمثلها مؤتمر «تطبيق البرمجيات الحرة والأجهزة المفتوحة» Application of Free Software and Open Hardware في بلجراد، و«مجتمع العلوم المفتوحة في صربيا» Open Science Community Serbia، لتوسيع قاعدة مستخدمي المستودع الرقمي وتدريبهم. كما عملنا مع منظمات دولية مثل «ريسيرتش داتا ألاينس» لتوسيع نطاق تأثيرنا.
ابدأ بالبحث عن شبكة تتيح التحقق من صحة نتائج الأبحاث أو مجتمع للوصول المفتوح إلى العلوم في بلدك. أو انضم إلى أحد المجتمعات الدولية المتنوعة التي تفتح أبوابها أمام المستخدمين مثل ABRIR (الأحرف الأولى من Advancing Big-team Reproducible science through Increased Representation) وFORRT (الأحرف الأولى من Framework for Open and Reproducible Research Training).
افعل ما تؤمن به
نادرًا ما يلعب تطوير أدوات الوصول المفتوح إلى العلوم وتعزيزها دورًا في التوظيف أو الترقية؛ فلا بد أن يكون اضطلاعك بهذه المهام نابعٌ من إيمانك بقيمتها وتأثيرها.
عندما بدأتُ العمل على «مستودع أدوات علم النفس الرقمية باللغة الصربية»، كنت مدفوعة بإيماني في النفع الذي سيعود به على الباحثين والطلاب على المدى الطويل. لكنه أثبت جدواه أسرع مما توقعت، لا سيَّما بعد أن أدت جائحة «كوفيد-19» إلى زيادة الدراسات النفسية في دول متعددة وعلى نطاقات واسعة. كما أصبح المستودع موردًا نفيسًا لا غنى عنه للدورات المعنية بنظرية القياس النفسي وأساليبه في جامعتنا.
اكتسبت من المشروع أيضًا مهارات مهنية مهمة؛ فقد تعلمتُ من واقع عملي على هذا المشروع كيفية التعامل مع بيانات البحث، وحصلتُ على فرص لاكتساب خبرة في التفاعل مع الجمهور والتدريب وإدارة المشروعات. والأهم من ذلك أنني سبرتُ أغوار نفسي ووجدت موطن شغفي الحقيقي.
لا يتحقق التقدم على طريق الوصول المفتوح إلى العلوم عندما تتاح هذه العلوم فقط لمن يمتلكون موارد وفيرة؛ بل تتقدم عندما يجري الأبحاث عدد كبير من الأشخاص، في بيئات متعددة، وبطرق جديدة ومبتكرة. لقد كان مشروع مستودع أدوات علم النفس الرقمية ثمرة جهد جماعي حقيقي، ولم يكن ليرى النور لولا دعم مشرفينا في جامعة بلجراد — ليليانا لازاريفيتش ودانكا بوريتش وإيريس جيزيل — ناهيك عن عدد كبير من المتطوعين الذين أسهموا في إعداد الاستبيانات وتوثيقها. شكرًا لكم جميعًا!
ألكساندرا لازيتش باحثة دكتوراه في علم النفس في كلية الفلسفة بجامعة بلجراد ومختبر ليرا (LIRA Lab) في صربيا.
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 14 أبريل 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.63
تواصل معنا: