مَنْ سوى الأفارقة يروي قصة نشأة
البشر!
13 May 2025
مَنْ سوى الأفارقة يروي قصة نشأة البشر!
نشرت بتاريخ 13 مايو 2025
يرغب يوهانس هيلا-سيلاسي في تغيير مسار علم الحفريات البشرية القديمة في إثيوبيا الغنية بالأحافير، لينفصم هذا المسار عن الإرث الاستعماري الطويل لذلك العلم.
Credit: Yohannes Haile-Selassie/Woranso-Mille Project
صناع التغيير
يحتفي هذا الإصدار من سلسلة «أسئلة وأجوبة» في دورية Nature بمحاربي العنصرية في مجال العلوم ومؤيدي ومناصري استيعاب شتى الأطياف البشرية في هذا المجال. كما يسلط الضوء على المبادرات التي يمكن تطبيقها في مناطق عمل أخرى في المجال العلمي.
على شاشة برنامج «زووم» Zoom يظهر عالم الحفريات البشرية القديمة يوهانس هيلا-سيلاسي، أحد أبرز الباحثين عن أحافير أشباه البشر في العالم، من داخل منزله في أريزونا، وقد ارتدى قميصًا مريحًا؛ في حين تظهر في الخلفية صورة لعامل ميداني وقد انعكس ظله على خلفية من سماء زرقاء قاربت شمسها على الغروب وفي يده منخل كبير، يُعد من الأدوات التي لا غنى عنها في عملية التنقيب عن البقايا الأحفورية.
يقول هيلا-سيلاسي إنه يرى شيئًا مذهلًا في هذه الصورة. فمن نواحي عدة تستدعي الصورة ذكريات بداياته المتواضعة عندما كان يعمل في البحث عن الأحافير وموظفًا في فريق مهمته دعم العلماء الأجانب. يسرد هيلا-سيلاسي مشوار حياته منذ ذلك الحين، والأسباب التي دفعته إلى الوقوف في وجه التاريخ المروي في هذا المجال الذي طغت عليه آثار الاستعمار القوية، ما جعل الدول الغنية إلى اليوم تنقض على موارد الدول الفقيرة وتستغلها. وخلال هذا الحوار، يفضي هيلا-سيلاسي بمكنون قلبه ويصرِّح بآرائه فيما يخص هذه المسألة المهمة والشائكة.
يقول هيلا-سيلاسي: "أرى أن كثيرًا من الأدلة القادمة من القارة الأفريقية تُخبرنا عن أصول نشأة البشر". ويعبر عن استيائه من استبعاد الباحثين الأفارقة من كثير من الاكتشافات الأحفورية التي توصل إليها الباحثون في القارة السمراء. جدير بالذكر أنه وفقًا لدراسة تحليلية منشورة في دورية» ساينس « Science في عام 2024 تناولت نحو 30 ألف اكتشاف أحفوري، وُجد أن علم الحفريات لا يزال يخضع لتأثير ما يُعرف بالبحوث الاستعمارية الجديدة؛ ويشير هذا المصطلح إلى الممارسات البحثية التي يقوم بها علماء الغرب في دول أخرى دون إشراك الباحثين المحليين. إذ أكدت الدراسة أن كثيرًا من الأوراق البحثية التي تنضوي تحت لواء علم الحفريات والمنشورة في السنوات الأربعة والثلاثين السابقة لم يشارك في تأليفها أية باحثين ينتمون إلى الدول التي اكتُشفت فيها تلك الأحافير.
وُلد هيلا-سيلاسي وترعرع في مدينة أديجرات الإثيوبية ودرس التاريخ في جامعة أديس أبابا. ثم حصل لاحقًا على درجة الدكتوراه في البيولوجيا التكاملية من جامعة كاليفورنيا في بيركلي في عام 2001. ويشغل حاليًا منصب مدير معهد الأصول البشرية بجامعة ولاية أريزونا في تيمبي؛ ويحاول جاهدًا وضع حد للبحوث الاستعمارية في وطنه الأم؛ إذ يدعو العالِم إلى إنهاء الممارسات الاستعمارية في علم الحفريات البشرية القديمة وإلى إجراء تغيير جذري ومنهجي في هوية من يضطلعون بمهمة رواية القصة الحقيقية لأصول البشر وفي الكيفية التي تجري بها تلك العملية.
يشتهر هيلا-سيلاسي باكتشافاته العلمية التي قلبت رأسًا على عقب المعتقدات الراسخة حول التطور البشري. ومن بين تلك الاكتشافات، عثوره على جمجمة «إم آر دي» MRD، وهي جمجمة تبلغ من العمر 3.8 مليون عام، احتفظت بتكوينها إلى حد مثير للدهشة، ووُجدت في منطقة عفار الصحراوية بإثيوبيا في عام 12016. وتنتمي هذه العينة المكتشفة إلى نوع من أسلاف البشر يُعرف باسم Australopithecus anamensis، وهي الجمجمة الأكثر اكتمالًا لأحد أسلاف البشر الأوائل من بين ما عُثر عليه حتى الآن من تلك الحقبة الزمنية. أظهرت جهود هيلا-سيلاسي البحثية أنه على عكس الاعتقاد السائد بأن النوع Australopithecus anamensis كان "السلف" التطوري المباشر والخطي للنوع Australopithecus afarensis (وهو النوع الذي تنتمي إليه الأحفورة المعروفة باسم لوسي)، فعلى ما يبدو، تعايش كلا النوعين مع الآخر لفترة من الزمن.
قبل وقت قصير من سفره إلى إثيوبيا لإجراء بعض الأعمال الميدانية السنوية، تحدث هيلا-سيلاسي إلى دورية Nature عن الأسباب التي تقف وراء معركته نحو دمج الباحثين الأفارقة في هذا المجال والطرق والوسائل التي يتبعها في التخطيط لزيادة عدد علماء الحفريات البشرية القديمة من الأفارقة.
حدثنا عن الشغف الكبير الذي كان الدافع المحفز لك في طريق العلم؟
ساعد خروجي إلى العمل الميداني في أن يصبح لدي هذا الشغف الكبير. فعندما كنت أخفق في العثور سريعًا على أية حفرية، بينما ينجح شخص آخر في ذلك، كنت أصاب بما نسميه بـ"حمى البحث عن أشباه البشر". إذ إن من يعثرون على مثل هذه الأحافير، كما يُقال، يغيرون نظرتنا إلى التطور البشري.
كذلك مثَّل علم الحفريات البشرية القديمة فرصة سانحة لي لمواصلة دراستي. وبحكم عملي مؤرخًا لم أجد أن بقائي في وطني إثيوبيا في ذلك الوقت سيمنحني الفرصة للتقدم في هذا المجال. غير أن العمل مع علماء حفريات بشرية قديمة من دول أخرى جعلني أدرك أن بإمكاني مواصلة دراستي والإسهام في اكتشافات تصدر عن بلدي. وفي عام 2001، وقبيل حصولي على درجة الدكتوراه، نشرتُ ورقة بحثية في دورية Nature كنت مؤلفها الوحيد2، أطلقت فيها اسمًا على نوع جديد من أحد أقدم أسلاف البشر، وهو Ardipithicus ramidus kadabba. كانت تلك انطلاقة رائعة لمسيرتي المهنية؛ فقد أسهمت تلك الخطوة في صياغة رؤيتي الخاصة لما أريد أن أحققه: ألا وهو أن أصبح باحثًا مؤثرًا في علم الحفريات البشرية القديمة. لم أعد حينها مجرد موظف في فريق لدعم الباحثين الأجانب، بل شخصًا قادرًا على العثور على الأحافير وتحليلها ودراستها ووضع توصيفها ونشر أعماله على الساحة العالمية.
لم تعِد دمج باحثين من فئات مختلفة مهمًا؟
كثيرا ما يطرح عليّ زملائي من العلماء الإثيوبيين السؤال الآتي: "يعثر العلماء على كل هذه الأحافير في منطقة عفار في إثيوبيا، فماذا تفعل للمساعدة في تدريب السكان المحليين في مجال علم الحفريات البشرية القديمة؟" أستطيع أن أقول الآن، وبحكم منصبي في جامعة ولاية أريزونا، وبالنظر إلى الإرث الاستعماري الذي يلقي بظلاله على هذا المجال، إنني أريد أن أصنع فارقًا. وخلال احتفالنا العام الماضي بالذكرى الخمسين لاكتشاف الأحفورة لوسي، شعرتُ أن تلك المناسبة تمثل فرصة طيبة لتسليط الضوء على هذه المسائل. فقد كنا نحتفل بأحفورة عُثر عليها في أفريقيا؛ إلا أن ذلك الحدث كان يتطلب أن نذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الاحتفاء بمكتشف تلك الأحفورة دونالد جوهانسون، الباحث الأمريكي الأبيض الذي أسس المعهد الذي أعمل فيه. لعلك تعجب إذا علمت أن جامعة سامارا، وهي الجامعة الوحيدة في عفار، لا تقدم حتى برنامج ماجستير لدراسة علم الحفريات البشرية القديمة.
لهذا السبب، اصطحبتُ أنا وبعض زملائي من جامعة ولاية أريزونا مجموعة من العلماء والأصدقاء وأعضاء مجلس إدارة المعهد في رحلة إلى بلدي إثيوبيا، زرنا خلالها عديدًا من الأماكن المهمة، من بينها المتحف الوطني الإثيوبي في أديس أبابا، والموقع الذي اكتُشفت فيه الأحفورة لوسي، وحرم جامعة سامارا. حظي الوفد الزائر بالتكريم من جانب الجامعة، التي أطلقت اسم دونالد جوهانسون على مبنى كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية. وعند عودتنا إلى الولايات المتحدة، دارت بيني وبين إدارة جامعة ولاية أريزونا نقاشات عدة حول جامعة سامارا. والنتيجة؟ صار لدينا الآن مذكرة تفاهم بين الجامعتين لإنشاء برنامج ماجستير في علم الحفريات البشرية القديمة عبر الإنترنت لتدريب الباحثين المحليين وبناء القدرات البحثية في منطقة عفار.
متى أدركت أنك ترغب في التصدي لمسألة إنهاء الممارسات الاستعمارية في مجال العلوم؟
تزخر القارة الأفريقية بعدد كبير من المختبرات الطبيعية التي نجمع منها كثيرا من الأحافير اللازمة لفهم تاريخ البشر. ولكن في كثير من الأحيان، عندما ننظر إلى الأشخاص الذين يضطلعون بجمع هذه الأحافير ودراستها، ونظرائهم ممن يقدمون إسهامات في مجال العلوم ويسردون قصة الأصول البشرية وتطورها، لا نجد من بينهم أحدًا يحمل جنسية أفريقية. قد نجد أسماءً متفرقة لأشخاص أفارقة في صفحات الشكر والتقدير أو في قوائم المشاركين، إلا أن معظم هؤلاء إما عاملون في البحث عن الأحافير أو موظفون في فرق دعم الباحثين الأجانب، ويقتصر عملهم على المساعدة في غربلة العينات ميدانيًا. لكن لماذا لا نستطيع أن نُفرز مزيدًا من العلماء الأفارقة ممن هم أمثالي؟ يسافر الباحثون الغربيون إلى أفريقيا ويحصلون على جميع البيانات من مصادرها الأولية؛ ثم ينقلونها إلى أوروبا والولايات المتحدة لإجراء جميع الدراسات التحليلية ونشر أعمالهم البحثية، بيد أنهم لا يعدون جميع الأفارقة الذين يعاونونهم في هذا المجال جزءا من فريق العمل. ولا شك أن هذا يمثل ظلمًا وإجحافًا.
قد يقول لك البعض: "لا يفوتك أنه يوجد الآن باحثون أفارقة حاصلون على درجة الدكتوراه في علم الحفريات البشرية القديمة". أرى أن هذا إنجاز رائع؛ غير أن الأمر لا ينبغي أن يتوقف عند هذا الحد. إذا كانت لدينا مختبرات طبيعية خارج القارة السمراء، فلماذا لا نمتلك أيضًا مختبرات فعلية بها؟
كيف تعاملتِ مع العنصرية أو التمييز العنصري في حياتك الشخصية والمهنية؟
وُلدتُ ونشأتُ في إثيوبيا، وهي إحدى دولتين أفريقيتين لم تصل إليهما يد الاستعمار قط. لم يكن للتمييز العنصري أي وجود أو دور في نشأتي ولا في تفكيري. إلا أنني عندما انتقلتُ إلى الولايات المتحدة، لاحظت للمرة الأولى اختلافات في معاملة الناس بناءً على لون بشرتهم، وسرعان ما تعرضت لتجارب من تلك النوعية. ساعتها خطر ببالي أن "ذلك ما يتعرض له أصحاب البشرة الملونة"؛ ورأيتُ بعيني كيف يؤثر الفصل العنصري في الناس.
بصفتي عالمًا أنحدر من جذور أفريقية، قد ينظر إليّ البعض في سياق الحياة اليومية على أنني مجرد شخص أسود البشرة لا يشغل أي منصب مهم. لكن عندما أُقدم نفسي لهم وأعرفهم بوظيفتي كمدير لمعهد بحثي، تتغير معاملتهم لي تغيرًا جذريًا. لا شك أن ذلك يشير بوضوح إلى أن التمييز لا يزال موجودًا على أرض الواقع. لا أخفيك سرا أنني لا أقبل هذا النوع من المعاملة مطلقًا. كما أنه يتعين علينا جميعًا ألا نقبل تعميمه كمبدأ وقاعدة في نطاقي العلم والمجتمع.
ما أسوأ مفهوم خاطئ أو صورة نمطية عنصرية ترغب في التخلص منها والقضاء عليها؟
فكرة إنهاء الممارسات الاستعمارية في علم الحفريات البشرية القديمة تُخيف البعض. وبوسعي أن أقول إنها تعبر عن موقف قوي وتعهد صريح، لكنها في الوقت ذاته مسألة حاسمة لها آثار بالغة الأهمية. لا بد أن تكون هناك تغييرات منهجية في الكيفية التي يدار بها هذا المجال. لا نقول أنه يجب ألا يعمل أي شخص آخر في التنقيب عن الأحافير الأفريقية سوى الأفارقة. ما نقصده هو وجوب أن يكون هناك نظام يمكننا من خلاله التعاون وتحقيق تقدم ورواية قصة أصول البشرية معًا دون أن ينفرد بها طرف بعينه. وللأسف هذه القصة تُروى حاليًا بصورة حصرية تقريبًا على لسان علماء غير أفارقة.
ما أفضل نصيحة تُقدمها لباحث في العشرينيات من عمره في هذا المجال؟
عليك أولا أن تحدد الأسباب التي تقف وراء اهتمامك بعلم الحفريات البشرية القديمة؛ ثم اتبع شغفك. ضع لنفسك رؤية تقودك إلى ما هو أبعد من مجرد الحصول على درجة الدكتوراه؛ وليكن محور هذه الرؤية البحث عن سبل لتقديم الإسهامات الهادفة من خلال مشروعاتك. خُض غمار العمل الميداني وابحث عن الأحافير، واسع إلى البحث عن التفسيرات وبناء التحليلات بمفردك دون الاعتماد على الآخرين. عليك أيضًا أن تكون صاحب عزيمة وأن تقول لنفسك دائمًا: "أستطيع تحقيق النجاح". ولا يفوتك عندما تصبح ناجحًا أن تسهم في تدريب باحثين صغار آخرين من بلدك.
ما أهم ما قد تود تغييره في الكيفية التي تُجرى بها الأبحاث؟
لا بد من وضع نهاية للبحوث الاستعمارية. نحن بحاجة إلى منح الجميع الفرصة للتعلم والتجربة والبحث عن إجابات للأسئلة المتعلقة بأصول البشر؛ فقصة الإنسان هي قصة العالم أجمع، وهي مرتبطة بكل شخص على وجه الأرض. على سبيل المثال، الأحفورة لوسي تنتمي إلى العالم أجمع، وليس فقط إلى إثيوبيا، لأنها جزء من تاريخ البشر.
حدثنا عن مصطلح طريف في مجال عملك قد لا يعرفه الناس؟
ذكرتُ في سياق حديثي آنفا عبارة "حمى البحث عن أشباه البشر". نستخدم في مجالنا هذا المصطلح لوصف رد الفعل الذي ينتج عندما يعثر شخص ما على أحفورة، فيهرع الجميع لرؤيتها. ثم ما يلبث الجميع أن يتفرقوا ويمضي كل واحد منهم في طريقه للبحث عن أحفورة أخرى من اكتشافه.
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في مجلة Nature بتاريخ 24 من مارس عام 2025 .
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.59
1. Haile-Selassie, Y., Melillo, S. M., Vazzana, A., Benazzi, S. & Ryan, T. M. Nature 573, 214–219 (2019).
2. Haile-Selassie, Y. Nature 412, 178–181 (2001).
تواصل معنا: