مقالات

فهم الشيخوخة: من الشفرة الوراثية إلى العدالة الاجتماعية

نشرت بتاريخ 29 أبريل 2025

يزداد الاهتمام عالميًّا بدراسة الشيخوخة، وهو المجال الذي يجمع بين التعقيد والإثارة، ومع ذلك يعاني العديد من البلدان ضعفَ التمثيل في هذه الدراسات، ما يترتب عليه وجود فجوات معرفية واضحة.

محمد سلامة، الأستاذ بمعهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

حفل إطلاق دراسة الصحة في مصر. حقوق الصورة: الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

حفل إطلاق دراسة الصحة في مصر. حقوق الصورة: الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
Photo credits: AUC.

يشكل الشرق الأوسط بيئة خصبة لبحوث الشيخوخة؛ حيث تتقاطع التحولات الديموجرافية مع العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الفريدة، مثل ارتفاع وتيرة زواج الأقارب، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والانقسامات الجندرية.

ومع إطلاق دراستين كبيرتين مؤخرًا؛ هما: «الدراسة الطولية للشيخوخة الصحية في مصر» AL-SEHA، و«صحة كبارنا» في لبنان LSAHA، تدخل بحوث الشيخوخة في منطقة الشرق الأوسط حقبة جديدة، لا تَعد فقط بسد الفجوة المعرفية في المنطقة، وإنما أيضًا بإثراء البحوث العالمية، حتى نتمكن من فهم أسباب الشيخوخة، وتحديدًا الزمن الذي تبدأ عنده، وكيف يمكننا إبطاء مسارها أو حتى عكس تأثيرها.

أحجية شديدة التعقيد

في الواقع، تتأثر الشيخوخة بعدد من العوامل المتشابكة؛ حيث تتداخل الجوانب البيولوجية، والبيئية، والاجتماعية على نحو معقد. ورغم هذا التشابك والتعقيد، اعتاد الباحثون العملَ في معزل بعضهم عن بعض، حيث ركز كل مجال بحثي على جانب منفصل. فقد مالت البحوث البيولوجية إلى التركيز على الجانب الوراثي والتغيرات فوق الجينية، واستهدفت البحوث البيئية التلوث؛ أما الدراسات الاجتماعية فقد سعت إلى فهم تأثير التفاوت في الحصول على الرعاية الصحية على صحة كبار السن.

ولا شك أن الأبحاث البيولوجية قد شكلت فهمنا لآليات الشيخوخة، والعوامل ذات الصلة التي تسهم في حدوثها، وقدمت مقترحات لإبطائها، مع محاولات طموحة لعكس تأثيرها. ومع ذلك، تظل هناك بعض الفجوات في هذا المسار؛ فمثلًا التجارب التي تُجرى على الحيوانات، يصعب تطبيقها على البشر. لذا، رغم أهمية الدراسات البيولوجية، فإنها تظل مجرد جزء من صورة الشيخوخة متعددة الأبعاد.

ثم هناك البيئة، التي تمثل قطعة مهمة أخرى في أحجية الشيخوخة، حيث تلعب دورًا في التأثير على عملية التقدم في العمر. ولسنوات، ركزت الأبحاث على محاولة ربط الشيخوخة وما يقترن بها من أمراض بعامل بيئي واحد فقط، إلا أن هذا النهج محدود نظرًا لتعدد ما يتعرض له الإنسان طوال حياته من مؤثرات بيئية متداخلة متشابكة.

محمد سلامة، الأستاذ بمعهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
محمد سلامة، الأستاذ بمعهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

لذا، من الضروري الأخذ في الاعتبار كل ما يتعرض له الإنسان من مؤثرات بيئية على المدى الطويل، بما في ذلك المؤثرات البدنية والنفسية والاقتصادية، سواء الحالية أو الماضية، حتى نتمكن من فهم التأثير الممتد للبيئة على الصحة في مراحل الشيخوخة.

نهج متعدد التخصصات

أدى التوسّع في فهم المؤثرات البيئية المرتبطة بالشيخوخة إلى تطوير استبيانات اجتماعية واقتصادية في إطار دراسات الشيخوخة، بهدف رصد المؤثرات التي يتعرض لها الأفراد طوال حياتهم، من منظور يُراعي العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال هذه الأدوات، أصبح بالإمكان تحليل بنية المجتمعات وتأثيرها المباشر وغير المباشر على مسار التقدم في العمر.

وقد أثبتت أدوات جمع البيانات الشاملة والطولية فعّاليتها في الكشف عن شبكة المؤثرات المعقدة التي تتحكم في عملية الشيخوخة. فالدراسات الطولية مثلًا تعتمد على تتبّع مجموعة من المشاركين الأصحاء ممن لم يدخلوا بعد في مرحلة الشيخوخة، أي في عمر الخامسة والأربعين أو الخمسين، مع متابعتهم على مدى عقد أو عقدين من الزمن. وبالرغم من أن النموذج المثالي لهذه الدراسات يبدأ عند الولادة، بل ربما قبلها، فإن تطبيق هذا المنهج يظل تحديًا كبيرًا على أرض الواقع.

تتميّز الدراسات الطولية بقدرتها على دمج أبعاد متعددة تشمل المؤشرات البيولوجية، والوراثية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وغيرها. كما تسهم أدوات جمع البيانات المتنوعة — من الاستبيانات المفصلة، والفحوصات الطبية الشاملة، إلى العينات البيولوجية واختبارات الإدراك المعرفي — في بناء صورة أوضح للتعقيد المحيط بعملية الشيخوخة.

شراكات دولية

بالرغم من أن الدراسات الطولية تقدّم نهجًا شاملًا ومتعدد التخصصات لفهم الشيخوخة، يكمن التحدي الأكبر في تحقيق التناغم والتكامل بين دراسات الدول المختلفة. فلكل مجتمع خصائصه الفريدة، ما يجعل من الضروري دراسة الشعوب المتنوعة ومقارنتها باستخدام الأدوات القياسية الموحدة التي تُراعي الفروق الثقافية دون الإخلال بقدرتنا على المقارنة والتحليل.

وتُعد «دراسة الصحة والتقاعد العالمية» HRS-ATW، نموذجًا ناجحًا لهذا النوع من التنسيق والتناغم العالمي؛ إذ تتألف من شبكة واسعة من الدراسات الطولية للشيخوخة حول العالم، مستوحاة من تجربة "الصحة والتقاعد" التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية. تعتمد هذه الشبكة على استبيانات قياسية موحدة، لكنها في الوقت ذاته مرنة بما يكفي لتتأقلم مع الثقافات المحلية في كل بلد، سواء على مستوى الثقافة أو التركيبات السكانية. هذا التوحيد يمكّن الباحثين من مقارنة النتائج بدقة، وفهم التأثيرات التي تشكّل أنماط الشيخوخة في مختلف المجتمعات حول العالم.

ضعف تمثيل الشرق الأوسط

من أكبر التحديات التي تعيق فهمنا الشامل لظاهرة الشيخوخة ضعفُ تمثيل بعض البلدان والمجتمعات في الدراسات العالمية، على الأخص دول الشرق الأوسط، التي تعاني فجوةً معرفية كبيرة ونقصًا حادًّا في البيانات، ما ينعكس على تهميش شعوب وثقافات مختلفة في دول المنطقة. إلى أن ظهرت مؤخرًا دراستان؛ هما: «الدراسة الطولية للشيخوخة الصحية في مصر»، و«صحة كبارنا» في لبنان، لتسهما في سد هذه الفجوة.

تحاكي الدراسة الأولى في مصر كلًا من «دراسة الصحة والتقاعد الأمريكية»، و«الدراسة المسحية للصحة والشيخوخة والتقاعد في أوروبا» SHARE. تمثّل هذه الدراسة إضافة نوعية للشبكة الدولية للدراسات الموحدة عن الشيخوخة، خاصة أن مصر تحتل موقعًا جغرافيًا محوريًا، وتضمّ تركيبة سكانية متنوعة تعكس تداخل المؤثرات العربية، والمتوسطية، والأفريقية.

من المخطط أن تشمل الدراسة نحو 20 ألف مشارك في مصر ممن تجاوزوا الخمسين من العمر، لتكوين قاعدة بيانات مرجعية تُقاس عليها بقية مراحل الدراسة. تتضمن الدراسة عمليات متابعة لجمع معلومات شاملة عن الأحياء السكنية، وبيانات جغرافية وبيئية دقيقة. كما ستستخدم الدراسة أداة قياس معتمَدة، أُثبتت فاعليتها محليًا، لرصد معدلات انتشار الخرف والتدهور الإدراكي في مصر، وفقًا لمبادئ بروتوكول التقييم الإدراكي الموحد (HCAP).

وبالانتقال إلى لبنان، نجد أن دراسة «صحة كبارنا» هي دراسة مسحية لعينة تعبّر عن سكان البلد، قوامها 3 آلاف مشارك في عمر الستين فما فوق. تعتمد الدراسة على استبيان موجَّه للمشاركين، يتضمن أسئلة حول جوانب متعددة من حياتهم تشمل خلفيتهم الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، وأسئلةً عن صحتهم الإدراكية والبدنية والعقلية، فضلًا عن تجاربهم الحياتية الماضية والحاضرة.

والهدف من هاتين المبادرتين الجديدتين في مصر ولبنان، هو استكشاف القضايا المتعلقة بالمساواة والنوع والمناخ في سياق جديد لم تشهده من قبل استبيانات دراسات الصحة والتقاعد المعروفة عالميًا. كما ستوفر الدراستان بيانات غنية عن الشرق الأوسط، وقد تقدمان نموذجًا يُحتذى به في المزيد من الدراسات المتعلقة بالشيخوخة. وبينما تتبلور ملامح هذه الجهود البحثية، نأمل أن تشكل نواةً لدراسة الشيخوخة بشكل معمق على مستوى العالم العربي في القريب العاجل.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.49