أفضل صور العلوم لعام 2025
29 December 2025
نشرت بتاريخ 28 ديسمبر 2025
قادت ميكانيكا الكم الثورة الرقمية عبر الترانزستور. واليوم يفتح التحكم في التراكب والتشابك الباب لثورة ثانية: حوسبة واتصالات كمومية واستشعار فائق الدقة وتحكم عميق في المادة. .
يحتفل العالم هذا العام بمرور مائة عام على نشوء علم ميكانيكا الكم، بعد أن خصصت منظمة الأمم المتحدة هذا العام للاحتفاء والتذكير بهذه الثورة العلمية التي غيرت وجه العلم وشكّلت معالم كثير من التقنيات الحديثة. تعكس المؤتمرات التي نُظمت حول العالم - من بينها مؤتمر افتراضي نظمناه في المنتدى العربي العلمي (ساف)- اهتمامًا بالغ بميكانيكا الكم (1)، وهو ما قد يثير التساؤل: لماذا تتجه الأنظار إلى ميكانيكا الكم، أليست مجرد نظرية أخرى ضمن نظريات الفيزياء الحديثة؟
بدأت القصة في مطلع القرن العشرين، حين تبيّن للعلماء أن فهم العالم المجهري لا يمكن أن يقوم على التصورات الكلاسيكية وحدها. فقد ظهرت ظواهر غريبة في الضوء والإلكترونات لا تفسرها فيزياء نيوتن أو ماكسويل، ما استدعى البحث عن وصف جديد. أثناء ذلك، تبين أن الجسيمات المجهرية — وكذلك الضوء — لا يمكن حصرها في صورة واحدة؛ إذ تتصرف أحيانًا كجسيمات وأحيانًا كموجات، ولا يمكن فهم سلوكها إلا من خلال جمع الصورتين الجسيمية والموجية معًا(2).
بسبب هذا الوصف الموجي، تصبح الكميات التي نرغب في قياسها، مثل الموضع أو الطاقة، غير محددة قبل القياس، لأن عملية القياس نفسها تتداخل مع الجسيم، ولا يمكن عزلها عنه تمامًا. لذا، يُمثَّل الجسيم قبل القياس بتركيب موجي يضم عدة حالات ممكنة في وقت واحد، وهو ما يُسمَّى التراكب، وهو شبيه من حيث الفكرة العامة بتراكب الموجات الضوئية التي تُنتج مناطق متفاوتة الشدة. أما إذا وُجد جسيمان أُعدّا معًا وفق ظروف تسمح بامتداد هذا التركيب الموجي عليهما، فقد يمتدّ التركيب ليشمل الجسيمين معًا بحيث لو تباعدا ظلّ لكلٍّ منهما تأثير على حالة الآخر؛ وهي ظاهرة تُعرَف بالتشابك، ولا تكفي المفاهيم الكلاسيكية المألوفة لشرحها (3).
لم تصبح هذه المبادئ كلامًا فلسفيًا مجردًا، بل تحولت إلى أدوات لفهم المادة. فقد استطاع العلماء من خلالها تفسير بنية الذرات، وسلوك الإلكترونات في الفلزات والعوازل، وظاهرة الموصلية الفائقة (4). ويكفي مثال واحد لإظهار أثرها العلمي: الترانزستور. في المواد الصلبة، تتحرك الإلكترونات في نطاقات للطاقة تُسمّى «حُزَمًا»، ولا تنتقل من حزمة إلى أخرى إلا بقدر محدد من الطاقة (3)، وهو تصور نشأ عن النماذج الكمومية. مع هذا الفهم، أصبح بالإمكان تصنيع «أشباه الموصلات»، وتعديل عدد الإلكترونات فيها بدقة، فتغدو قادرة على فتح مسار للتيار أو إغلاقه. هذه القدرة على «الفتح والإغلاق» هي ما سمح باختراع الترانزستور؛ المكوّن الأساسي لكل الحواسيب والهواتف والشاشات الحديثة. بعبارة أخرى، تقوم حياتنا الرقمية بأكملها على مبادئ كمومية تعمل معظمها في الظل داخل المادة بعيدًا عن عين المستخدم.
غير أن لهذا الوضع حدودًا واضحة. فالتقنيات التي ولّدتها الثورة الأولى ظلت محصورة داخل المادة الصلبة، أي أنها تستفيد من القوانين الكمومية بما تسمح به بنية المادة. كان العلماء يدركون وجود التراكب والتشابك، وأن الطبيعة تعمل بهما، لكن الأدوات اللازمة لبناء أنظمة كمومية مستقلة عن البنى المادية المعقدة لم تتوفر بعد. ومع نهاية القرن العشرين تغيّر هذا الواقع شيئًا فشيئًا، وبدأ عصر «الثورة الكمومية الثانية» (5).
الحوسبة والاتصالات الكمومية
يعتمد الحاسوب التقليدي على وحدات معلوماتية تُسمّى «بتات»، لكل منها قيمة محددة: صفر أو واحد. وتقوم المعالجة فيه على إعادة ترتيب هذه البتات خطوة بعد خطوة. وبالرغم من التطور في السرعة والحجم، لا يزال أداء الحواسيب التقليدية محدودًا. أما في العالم الكمومي، فبوسع الوحدة المعلوماتية نفسها — بفضل التراكب — أن تكون صفرًا وأن تكون واحدًا في آن واحد. وهكذا يظهر ما يُسمّى «البت الكمومي أو الكيوبت»(6)، الذي يستطيع حمل عدة حالات معًا قبل أن نقرأ نتيجته. لتبسيط الفارق، بينما يبحث الحاسوب التقليدي في الاحتمالات واحدًا تلو الآخر، يستطيع الكيوبت تمثيل مجموعات واسعة منها في اللحظة نفسها، لا لأن الجهاز أسرع، بل لأن طريقة تمثيل المعلومات نفسها أصبحت مختلفة.
هنا بدأت تتشكل الملامح الأولية للحوسبة الكمومية، غير أن الأجهزة المتوفرة اليوم ليست حواسيب كاملة، بل نماذج تجريبية تُظهر سلوكًا كموميًا يمكن التحكم به لوقت قصير. كما أنها شديدة الحساسية لأي اضطراب؛ إذ يمكن لتشويش طفيف أن يجعل حالاتها الموجية تتلاشى بسرعة، ما يعني عمليًا ضياع المعلومات وعدم القدرة على تخزينها أو معالجتها بصورة موثوقة. لذلك يصفها الباحثون بأنها مرحلة انتقالية للوصول إلى الحاسوب الكمومي الحقيقي: فهي قادرة على تنفيذ عمليات كمومية محدودة، لكنها لا تتمتع بعد بالاستقرار أو القدرة على التنفيذ الواسع الذي تحتاجه الحوسبة واسعة النطاق.
وتحتاج هذه المنصّات إلى سنوات من التطوير قبل أن تصل إلى مستوى يمكن فيه إجراء حسابات كبيرة وموثوقة. وتتنوع هذه المنصّات تبعًا للطابع الموجي للجسيمات المستخدمة فيها؛ فهناك المنصّات الضوئية التي تستند إلى طبيعة الفوتونات (7)، وأخرى تعتمد على الموجات الكهرومغناطيسية المحصورة في الدوائر فائقة التوصيل (8)، وثالثة تستخدم الذرات أو الأنظمة الشبيهة بها مثل النقاط الكمومية.
مع تقدم الحوسبة الكمومية، ظهر سؤال آخر: كيف نؤمّن الاتصالات في زمن يمكن فيه للحوسبة الكمومية كسر كثير من طرق التشفير التقليدية؟ لفهم المشكلة يجب أن نعود إلى المبدأ الأساسي للاتصالات: وهو نقل رسالة من مُرسِل إلى مُستقبِل دون أن يعترضها طرف ثالث. تعتمد الأنظمة التقليدية على «مفاتيح» رقمية وإجراءات رياضية يصعب حلها، لكنها ليست مستحيلة. فإذا وجد جهاز قادر على معالجة الأعداد بسرعة هائلة، كما يُتوقع في الحوسبة الكمومية، قد يُصبح بالإمكان كسر تلك المفاتيح.
هنا تعرض فيزياء الكم حلًا جذريًا: استخدام ظاهرة التشابك. فإذا أُرسلت رسالة مشفّرة باستخدام جسيمات متشابكة، فإن أي محاولة لمراقبة تلك الجسيمات ستفسد التشابك فورًا، لأن القياس نفسه يغير الحالة الكمومية. هنا تتولد فكرة «الاتصال الكمومي» (18)، ليس بوصفه سحرًا، بل نتيجة مباشرة لحقيقة أن القياس في العالم الكمومي يتدخل بشكل لا يمكن إخفاؤه.
اتساع التقنيات الكمومية
لم يقتصر الاهتمام بهذه المجالات على الحوسبة والاتصالات. فقد أدرك العلماء أن القدرة على التحكم الدقيق في الأنظمة الكمومية تمثل «منصة» يمكن أن تتفرع عنها تطبيقات مختلفة في الغاية. مثلًا، إذا اقترن هذا التحكم بما تتميز به الحالات الموجية من حساسية عالية للتغيّرات الفيزيائية الصغيرة في البيئة، أمكن تحويل هذه الأنظمة إلى أدوات قياس دقيقة للغاية، وهو ما يقوم عليه «الاستشعار الكمومي»(3)، القادر على التقاط فروق طفيفة في الزمن أو المجال المغناطيسي أو الجاذبية. أما إذا اقترن التحكم بإمكانية استخدام اللبنات الأساسية للمواد —كالذرات والأيونات والإلكترونات— ضمن منصّات يمكن ضبطها بدقة، أمكن إعداد أنظمة كمومية تمثّل سلوك مواد أعقد منها، وهو ما عُرف بـ«المحاكاة الكمومية» (10)، التي تساعد في فهم خصائص المادة حين تعجز الحواسيب التقليدية عن تمثيلها.
كذلك لا يقتصر التحكم بالحالات الكمومية على الأنظمة الفردية، بل يمكن أن يمتد إلى المادة نفسها بوصفها تجمعًا كبيرًا من تلك الحالات. ومن هذا المنطلق برزت «المواد الكمومية» بوصفها مجالًا يدرس مواد تُظهر خصائص لا يمكن تفسيرها إلا بميكانيكا الكم(11) .وقد بدأ الاهتمام بها منذ بدايات القرن العشرين لفهم الفلزات والعوازل والموصلية الفائقة، ثم اكتسبت اليوم أهمية أكبر ، حين أصبح بالإمكان تعديل بنيتها وإعداد حالاتها الموجية لخدمة أهداف عملية. وفي هذا السياق، ظهرت مواد جديدة ذات أطوار طوبولوجية أو خصائص مغناطيسية دقيقة، بل وأخرى تُستخدم منصّات تُبنى عليها وحدات الحوسبة الكمومية أو أدوات الاستشعار الدقيقة. وهكذا أصبحت المواد الكمومية جسرًا يصل بين الثورة الأولى —حيث كانت ميكانيكا الكم مفتاحًا لفهم المادة— والثانية، حيث صارت أداةً لصناعتها وتشكيلها وفق احتياجات التطبيقات الحديثة.
وتبدو الفروع الخمسة لهذه الثورة — من الحوسبة والاتصالات إلى الاستشعار والمحاكاة والمواد الكمومية — مختلفة في غاياتها المباشرة، لكنها تشترك جميعًا في مبدأ واحد: القدرة على إعداد الحالات الكمومية والتحكم فيها على نحو لم يكن ممكنًا من قبل. يركز كل فرع على حل مشكلة محددة في الحساب أو الاتصال أو القياس أو في فهم المواد والتحكم في خصائصها، لكنها تجتمع في أنها طرق متعددة لاستثمار البنية الموجية للعالم المجهري، وجعلها أداة عملية لصناعة مستقبل التقنيات الحديثة.
التتويج بجائزة نوبل
وقد تجلّت ثمار هذه المسارات مجتمعة في الاعتراف العالمي الذي نالته الثورة الكمومية الثانية، حين مُنحت جائزة نوبل للفيزياء لعام ٢٠٢٥ لثلاثة من روّاد التحكم في الدوائر فائقة التوصيل، وهي المرة الأولى التي تُمنح فيها الجائزة لإنجازٍ ينتمي صراحةً إلى هذه الثورة الجديدة. فقد أثبت جون كلارك وميشيل ديفوريه وجون مارتينيس، أن الدوائر الكهربائية المصمَّمة بعناية يمكن إعدادها في حالات موجية محكمة، وأن هذه الحالات قادرة على تنفيذ عمليات كمومية أو تشكيل كيوبتات مستقرة، الأمر الذي فتح الباب لانتقال ميكانيكا الكم من إطار نظري إلى هندسة عملية قابلة للتطوير.
ومع اتساع هذا الزخم عالميًا، بدأت تتشكل في العالم العربي مبادرات بحثية تسعى إلى دخول هذا المضمار. من بينها على سبيل المثال، مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا بمصر، ومركز قطر للحوسبة الكمية، ومركز بحوث الكوانتوم بالإمارات، وكذلك جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بالسعودية. وتشير هذه الخطوات إلى إدراك متنامٍ بأن امتلاك أدوات التقنيات الكمومية في هذه المرحلة المبكرة قد يحدد موقع المنطقة في خرائط الصناعة والاتصالات والطاقة والأمن خلال العقود القادمة.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.229
1. quantum2025.org
2. Leon Rosenfeld. Foundations of Quantum Theory and Complementarity. Nature 190, 384–388 (1961)
3. Lars Jaeger, The second quantum revolution, Springer (2018)
4. von Delft, D. & Kes, P. The physics of superconductors: a historical review. Phys. Today 63, 38–43 (2011).
5. Dowling Jonathan P. and Milburn Gerard J., Quantum technology: the second quantum revolution, Phil. Trans. R. Soc. A.361,1655–1674 (2003)
6. موقع ويكيبيديا
https://ar.wikipedia.org/wiki/بت_كمومي
بالإضافة إلى أي من مقدمات علم الحوسبة الكمومية مثل
E. Rieffel, and W. Polak. An introduction to quantum computing for non-physicists. ACM Computing Surveys (CSUR), 32(3), 300-335 (2000).
7. Knill, E., Laflamme, R. & Milburn, G. J. A scheme for efficient quantum computation with linear optics. Nature 409, 46–52 (2001).
8. P. Krantz, M. Kjaergaard, F. Yan, T. P. Orlando, S. Gustavsson, W. D. Oliver; A quantum engineer's guide to superconducting qubits. Appl. Phys. Rev. 6 (2): 021318 (2019).
9. https://www.technologyreview.com/2019/02/14/103409/what-is-quantum-communications/
10. موقع ويكيبيديا
https://ar.wikipedia.org/wiki/محاكاة_كمية
11. Keimer, B., Moore, J. The physics of quantum materials. Nature Phys 13, 1045–1055 (2017)
تواصل معنا: