التقنيات الحيوية وإعادة تشكيل القوة في القرن الحادي والعشرين
28 December 2025
نشرت بتاريخ 28 ديسمبر 2025
لم تعد التقنيات الحيوية شأناً طبياً أو زراعياً فقط، بل أصبحت أحد ميادين التنافس على النفوذ الاقتصادي والمعرفة والبيانات، متأثرة بعوامل تتجاوز البحث العلمي، مثل البيانات والبنية الرقمية والأطر التنظيمية وقدرة التصنيع والتوسع.
تكتسب التقنيات الحيوية في القرن الحادي والعشرين وزناً متزايداً، إذ تحولت من أداة لعلاج الأمراض وتحسين المحاصيل إلى ميدانٍ سباقٍ استراتيجيٍ تتقاطع فيه مصالح الأمن والاقتصاد والسياسة. ومع اندماج التقنيات الحيوية بالذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، برزت فرص تمتد من الطب الشخصي إلى التصنيع الحيوي، ومن الأمن الغذائي إلى مواجهة التغير المناخي. لذا، لم يعد السؤال الجوهري حول ما تقدمه التقنيات الحيوية، بل من يملك القدرة على تبنيها، وصياغة قواعد استخدامها، وحصد أثرها العلمي والاقتصادي.
يعكس هذا السباق حجم الاقتصاد المتنامي للقطاع؛ إذ قُدر حجم السوق العالمي للتقنيات الحيوية في عام 2023 بنحو 1.55 تريليون دولار، مع توقعات ببلوغه 3.88 تريليون دولار بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يصل إلى 14%. كما شهد عام 2024 زيادة ملحوظة في جذب رأس المال الجريء للشركات الناشئة في التقنيات الحيوية، ما يعكس اهتمام المستثمرين بمجال التقنيات الحيوية وابتكاراتها.
في المشهد الحالي، تمتلك الشركات الكبرى مفاتيح البنية السحابية وقدرات معالجة البيانات الهائلة وتنظيم وإدارة المعلومات بشكل غير مسبوق، كشركة ألفابت ( عبر كاليكو وفيرلي)، ومايكروسوفت، وأمازون. وفي المقابل، تدفع الشركات الناشئة عجلة الابتكار برهانات تقنية جريئة. ومع اتساع دور الذكاء الاصطناعي، أصبحت التقنيات الرقمية الحديثة جزءاً أساسياً في منظومة البحث والتطوير للتقنيات الحيوية.
بتسليط الضوء على "أمازون"، نجد أنها تدير قواعد بيانات جينومية ضخمة من خلال خدمات AWS السحابية. بينما أسهمت أدوات الذكاء الاصطناعي في فك ألغاز مفاهيم حيوية معقدة كطي البروتينات الذي عملت عليه "ديب مايند" التابعة لجوجل. وفي مجال التعديل الجيني والإنتاج الحيوي، تتصدر تقنيات التحرير الجيني بشكل متسارع شركات مثل "كريسبر ثيربيوتيك"، و"انتيليا ثيربيوتيك". حيث تعد التقنية بثورة في الطب العلاجي. ومع ذلك، يظل للدول دور في إدراك أن بناء القدرة والسيطرة على هذا المجال الحيوي بات جزءا من موازين القوى العالمية.
المشهد الدولي اليوم متعدد الأقطاب. تتوزع فيه مراكز الثقل بين تكتلات اقتصادية ومراكز بحثية وصناعية مختلفة. ولا يُحسم السباق بمن يبتكر أولاً فحسب، بل بمن ينجح في دمج الابتكار بالتوسع، وتحويله إلى منظومات قادرة على الصمود أمام الأزمات.
لا تزال الولايات المتحدة في الطليعة، مستندة إلى جامعات رائدة، ورأس مال مغامر، وشبكات بحثية واسعة. وتكمن قوتها في سرعة تحويل الأفكار إلى منتجات. إلا أن هذا التفوق ليس مطلقاً؛ إذ يمكن للانقسامات السياسية والبيروقراطية وتأثيرها على الجامعات والشركات أن تبطئ خطواتها، بينما يهدد صعود منافسين جدد بتآكل جزء من تفوقها التاريخي.
في المقابل، تبني الصين نموذجًا يقوم على التخطيط المركزي والاستثمار الحكومي الضخم. تستخدم قدرتها التصنيعية الهائلة وكثافتها السكانية لتصبح مركزًا عالمياً للجينوميات والتصنيع الحيوي. ولا تكتفي الصين بالاستهلاك المحلي، بل تسعى لتصدير منظومات حيوية متكاملة. وبينما تراهن الولايات المتحدة على جودة وسرعة الابتكار، تراهن الصين على الحجم والتوسع الصناعي، في سباق محتدم تتداخل فيه السياسة والاقتصاد لتشكيل قواعد المنافسة في السنوات المقبلة.
أما أوروبا، فتعتمد على قدرتها في صياغة المعايير الأخلاقية والتنظيمية، إذ وضعت قواعد صارمة لحماية البيانات الجينية وضمان سلامة العلاجات، ما منحها سمعة دولية كحارس "الأمان الحيوي". لكن هذه الصرامة تحولت إلى كابح؛ فطول الإجراءات وبطء الموافقات، أسفر عن خسارة سلسلة من الابتكارات لصالح الولايات المتحدة أو آسيا. لذا أطلقت المفوضية الأوروبية مبادرة جديدة لصياغة الأطر التنظيمية و التشريعية للتقنيات الحيوية، بهدف تعزيز الاستثمار، وتسريع إجراءات البيئات التنظيمية، وتحسين الإطار الزمني لدخول ابتكارات التقنيات الحيوية إلى الأسواق. وقد تنجح هذه المبادرة في حال استطاعت الموازنة بين الانفتاح على المخاطر وحماية المجتمع، وإلا قد تجد أوروبا نفسها مجرد مستورد للتقنيات الحيوية بدلًا من أن تكون منتجًا لها.
في المقابل، تسلك الهند مساراً مختلفاً. فهي تعد "مصنع العالم للأدوية المكافئة"، وتستخدم كفاءتها التصنيعية لقيادة إنتاج اللقاحات والأدوية منخفضة التكلفة. لكنها لا تكتفي بدور المزود منخفض التكلفة؛ بل تستثمر في البحث والتطوير، مستفيدة من قوة بشرية ضخمة قادرة على تقديم حلول مبتكرة للأسواق النامية. إذا نجحت في ترسيخ هذا الدور، قد تتحول إلى “الصين الثانية” في قطاع الأدوية، معززة موقعها كجسر حيوي بين الجنوب والشمال.
أما روسيا فتنظر إلى التقنيات الحيوية كملف أمن قومي أكثر من كونه سوقاً اقتصادية. تركز مشاريعها على الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الخارج، لكنها تصطدم بعزلة تفرضها العقوبات ونقص في التكامل مع سلاسل الإمداد العالمية. بالرغم من أن قوة روسيا في البحث العسكري والطبي الموجه للدولة، إلا أن ضعفها في جذب الاستثمار يحد من قدرتها على اللحاق بالسباق. مع ذلك، تًظل قادرة على موازنة المعادلة عبر شراكات مع آسيا وأفريقيا حيث لا تصل يد الغرب بسهولة.
و في العالم العربي، تبرز عدة مبادرات متسارعة تسعى إلى وضع التقنيات الحيوية كركيزة أساسية في اقتصاد المستقبل. منها، ما تشهده المملكة العربية السعودية من تحرك وطني، إذ أطلقت استراتيجية التقنيات الحيوية في مطلع 2024. حيث تستثمر السعودية في البنية التحتية البحثية والتصنيعية، وتعمل على تطوير الكفاءات البشرية، إضافة إلى ربط الأمن الصحي بالغذائي ضمن إطار «الصحة الواحدة». في الوقت ذاته، تتحرك دول عربية أخرى مثل قطر والإمارات في مسارات متقاربة، من بينها برامج الجينوم، وتطوير منصات للبحوث الطبية، ومحاولات التحول الصناعي الحيوي.
و لا يدور السباق البيولوجي في ميدان واحد، بل عبر ثلاث مسارات مترابطة: سرعة تحويل الاكتشافات إلى تطبيقات عملية، وتسخير البيانات والقدرات الرقمية لخلق ميزة تنافسية، وبناء منظومات مرنة تصمد أمام الأزمات عبر سلاسل إمداد مستقرة وكفاءات بشرية مؤهلة وبنية تحتية قابلة للتكيف. ولن يُحسم التفوق بتقدم مختبر أو مصنع، بل بقدرة الدول على ربط هذه الأعمدة في مشروع واحد متكامل، يجمع بين العلم والاقتصاد والسياسة، ويحوّل الابتكار والبيانات والتنظيم إلى قوة إنتاجية ملموسة.
لذا لن يُحسم المستقبل البيولوجي لصالح لاعب واحد، بل عبر توازنات دولية متعددة تتضمن منظومات متكاملة تجمع بين الابتكار والقدرة على التوسع، بين السياسة والتنفيذ، وبين الأخلاق والتنظيم. وفي هذا السباق، لا يكفي السبق السريع العابر، بل سيكون الفوز الحقيقي من نصيب من يملك القدرة على الاستمرار والبناء طويل المدىdoi:10.1038/nmiddleeast.2025.228
تواصل معنا: