مقالات

المنطق الكلاسيكي والشبكات العصبية العميقة: مزيج يحقق الذكاء البشري في الآلة

نشرت بتاريخ 21 ديسمبر 2025

يُعد المزج بين أنظمة التفكير المنطقي "الكلاسيكية" والشبكات العصبية العميقة التي تغذي النماذج اللغوية الكبيرة من أحدث الصيحات في ابتكار أنظمة الذكاء الاصطناعي.

رسم توضيحي: نظام حيازة بيانات (DAQ)

رسم توضيحي: نظام حيازة بيانات (DAQ)

هل سيأتي يوم تضاهي فيه الحواسيب البشر ذكاءً أو تتفوق عليهم؟ إن صح ذلك، كيف؟ في وقت سابق من هذا العام، عندما توجهت «جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي» Association for the Advancement of Artificial Intelligence، ومقرها العاصمة الأمريكية واشنطن، بسؤال لأعضائها عما إذا كانت الشبكات العصبية، التي يسطع نجمها في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية وحدها كافية لبلوغ هذا المستوى من الذكاء، رفضت الغالبية العظمى من أعضاء الجمعية هذا الطرح. وفي المقابل، أفادت غالبيتهم بأن جرعات مكثفة من نمط قديم من الذكاء الاصطناعي؛ يشار إليه باسم "الذكاء الاصطناعي الترميزي" ستكون ضرورية لتحقيق هذا الهدف.

يقوم الذكاء الاصطناعي الترميزي، والذي يُشار إليه أحيانًا بـ"الذكاء الاصطناعي الكلاسيكي العتيق"، على قواعد واضحة، وعلى ترميز العلاقات المنطقية بين المفاهيم1. على سبيل المثال، يُستند علم الرياضيات إلى الترميز، شأنه في ذلك شأن القضايا المنطقية الشرطية، ولغات الترميز الحاسوبية مثل لغة «بايثون» Paython، والمخططات البيانية الانسيابية، ومخططات فِن، التي تضع خريطة مثلًا لشكل العلاقة بين مفهوم القطط والثدييات والحيوانات.   ويشار إلى أنه، قبل عدة عقود، في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي، كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الترميزي المرشح الأبرز للريادة.  لكن، في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، تفوقت عليها الشبكات العصبية المرنة بفارق كبير. فنماذج تعلُم الآلة تلك تفوقت في التعلم من كم شاسع من البيانات، وهي نفسها النماذج التي ارتكزت عليها النماذج اللغوية الكبيرة، وروبوتات الدردشة، مثل «تشات جي بي تي» ChatGPT.

واليوم، يسعى مجتمع علماء الحاسوب جاهدًا لتحقيق مزج أفضل وأكثر جرأة بين كلا التقنيتين، القديمة والحديثة.  وأصبح "الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية" المصطلح الأكثر رواجًا في ساحة البحث العلمي. فقد تتبع براندون كلوليلوه، اختصاصي علم الحاسوب من جامعة ميريلاند في مدينة كوليدج بارك الأمريكية انتشار هذا المفهوم الذي تناقلته بسرعة صاروخية الأوراق البحثية الأكاديمية (انظر الشكل "انتشار بسرعة صاروخية")، ليكشف أن هذا التزايد المفاجئ للاهتمام بالذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية بدأ في وقت مقارب لعام 2021، ولا يبدو أنه يفتر2.

ويستبشر كثير من الباحثين بهذا الاتجاه، على اعتبار أنه يفتح الباب أمام الهروب مما يعدونه هيمنة ضارة للشبكات العصبية على أبحاث الذكاء الاصطناعي، ويتوقعون أن يسفر هذا التوجه عن أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً وموثوقية.

وتحقيق مزج أفضل بين هاتين التقنيتين قد يفضي إلى الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام (اختصارًا AGI): أي ذكاء اصطناعي قادر على التفكير المنطقي والوصول إلى استنتاجات أعم بنفس كفاءة البشر. وهذا الذكاء الاصطناعي قد يحمل فوائد في عدد من التطبيقات عالية الخطورة، مثل صناعة القرار العسكرية أو الطبية، حسبما يوضح كوليلوه. وبالنظر إلى أن الذكاء الاصطناعي الترميزي يتسم بشفافيته ويسهل على البشر فهمه، فهو لا يشوبه "الغموض" الذي يضفي صعوبة على الوثوق بالشبكات العصبية، والذي يجعلها شبيهة بـ"صندوق أسود".

وقد ظهرت أمثلة جيدة بالفعل على الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية، منها نظام «ألفاجيومتري» AlphaGeometry الذي ابتكرته شركة «ديب مايند» التابعة لشركة «جوجل». وهو نظام أُعلن عنه العام الماضي، يُمكنه أن يحل بموثوقية مسائل أولمبياد الرياضيات الصعبة 3 التي تُوجه إلى طلاب المرحلة الثانوية النابغين. غير أن الوصول إلى أفضل السبل للمزج بين التقنيتين في نظام واحد متعدد الأغراض ثبت أنه تحد جسيم.

ففي هذا الإطار، يقول ويليام ريجلي اختصاصي علوم الحاسوب من جامعة ميريلاند: "المسألة تشبه حقيقة تصميم وحش برأسين".

جدل مستعر

في عام 2019، نشر اختصاصي علوم الحاسوب ريتشارد ساتون مقالًا قصيرًا على مدونته بعنوان "درس مرير" (انظر go.nature.com/4paxykf). وفيه، حاجج بأن البشر منذ عام 1950 افترضوا مرارًا وتكرارًا أن الطريقة المثلى لابتكار الحواسيب الذكية هي تغذيتها بجميع المعلومات التي وصلت إليها معارفهم عن قوانين العالم، في المجالات على اختلافها، من الفيزياء إلى علم السلوك الاجتماعي. غير أن الدرس المرير الذي تعلموه، حسبما كتب، هو أن الأنظمة الترميزية هُزمت مرارًا وتكرارًا أمام الأنظمة التي تستخدم قدرًا هائلًا من البيانات الخام وتعتمد على قدر أكبر من الإمكانات الحوسبية للاستفادة من "عملية البحث والتعلُم". على سبيل المثال، هُزمت أولى الحواسيب المتخصصة في لعب الشطرنج والتي دُربت على استراتيجيات وضعها البشر أمام الحواسيب التي لُقمت بكم كبير من بيانات مباريات الشطرنج

وهذا الدرس المرير كثيرًا ما استشهد به مؤيدو الشبكات العصبية في دفاعهم عن فكرة إنتاج أنظمة أكبر تستخدم هذه الشبكات باعتبارها الطريق الأمثل للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام. غير أن العديد من الباحثين يرون أن المقال يغالي في مزاعمه ويقلل من شأن الدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي الترميزي، ومن الدور الذي يلعبه هذا الذكاء بالفعل في مجال الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يمزج أفضل البرامج للعب الشطرنج اليوم، ويُطلق عليه اسم «ستوكفيش» Stockfish، بين تقنية الشبكات العصبية وبين استخدام شجرة ترميزية ترمز إلى الخطوات الممكنة في اللعب.

ولكل من الشبكات العصبية والخوارزميات الترميزية مزاياه وعيوبه. فمن ناحية، تتألف الشبكات العصبية من مستويات من العقد (هي بمنزلة خلايا عصبية) تترابط معًا بروابط ذات قيم معينة تحدد قوة الإشارة المتنقلة بينها وتُعدل هذه القيم خلال التدريب لتمكين الشبكات من التعرُف على الأنماط في البيانات والتعلُم منها. وهذه الشبكات تتسم بالسرعة، وبقدرتها على الابتكار، لكنها تقع حتمًا في خطأ اختلاق افتراضات لا أساس لها من الصحة ولا يمكنها الإجابة على نحو موثوق عن الأسئلة التي تخرج عن نطاق البيانات التي تدربت عليها.

أما الأنظمة الترميزية، فتواجه صعوبة جمة في استيعاب المفاهيم "المربكة" مثل اللغة البشرية، والتي يتطلب فهمها قواعد بيانات شاسعة يصعب بناءها ويستغرق البحث فيها وقتًا طويلًا. غير أن آليات عملها لا لبس فيها أو غموض، وهي تجيد التفكير المنطقي، أي استخدام المنطق لتطبيق ما تكتسبه من معارف عامة على المواقف الجديدة.

على الجانب الآخر، تميل الشبكات العصبية التي تفتقر إلى المعرفة المستقاة من ترميز العلاقات بين الأشياء، عند استخدامها على أرض الواقع، إلى ارتكاب أخطاء كلاسيكية. على سبيل المثال، يُمكن لأنظمة استحداث الصور القائمة على هذه الشبكات أن ترسم صورًا لأشخاص بستة أصابع لأنها لم تتعلم مفهومًا عامًا وهو أن اليد تحتوي عادة على خمسة أصابع. بالمثل، تواجه أنظمة إنتاج المقاطع المرئية القائمة على هذه الشبكات صعوبة في إنتاج مشهد لكرة تقفز، لأنها لم تتعلم أن الأشياء تنجذب إلى أسفل بتأثير الجاذبية. وبعض الباحثين يعزو الوقوع في أخطاء كتلك إلى نقص البيانات أو ضعف القدرة الحوسبية، في حين يرى البعض الآخر أن هذه الأخطاء تكشف قصورًا جوهريًا في الشبكات العصبية يمنعها من التفكير المنطقي والوصول إلى استنتاجات عامة سليمة.

ويرى عديد من الباحثين أن إضافة الترميز إلى الشبكات العصبية قد يكون الوسيلة الأمثل - إن لم تكن الوحيدة - لإكساب الذكاء الاصطناعي القدرة على التفكير المنطقي. على سبيل المثال، تؤيد شركة التقنيات العالمية «آي بي إم» IBM استخدام الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية كوسيلة للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام. لكن البعض تساوره شكوك في جدوى هذا النهج. على سبيل المثال، يان ليكون، وهو أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي الحديث وكبير العلماء في مجال الذكاء الاصطناعي بعملاقة التكنولوجيا شركة «ميتا» Meta يرى أن المقاربات التي تدمج بين الذكاء الاصطناعي الترميزي والشبكات العصبية "غير موائمة" لطبيعة التعلُم في الشبكات العصبية.

أما ساتون، الذي يعمل في جامعة ألبرتا بمدينة إدمونتون الكندية، والحائز على جائزة تورينج لعام 2024 (نظيرة جائزة نوبل في مجال علوم الحاسوب)، فيتشبث بحجته الأساسية في هذا الإطار، ألا وهي: أن "الدرس المرير يبقى ساريًا على الذكاء الاصطناعي الحديث"، حسبما أفاد لدورية Nature. ويعني هذا، حسبما يقول، أن "إضافة عنصر قائم على الترميز، يعتمد بدرجة أكبر على القواعد التي يصممها البشر، سيكون على الأرجح خطأ".

أما عن جاري ماركوس، وهو رائد أعمال في مجال الذكاء الاصطناعي، وكاتب ومتخصص في دراسات الإدراك من مدينة فانكوفر الكندية، يُعد من أبرز مؤيدي الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية، فيميل إلى اعتبار هذا الخلاف في الرأي معركة فلسفية، تُحسم في الوقت الحالي لصالحه.

في حين أن آخرين، مثل ليزلي كيلبلينج اختصاصية علم الروبوتات من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية، يرون أن الجدل حول أي الرأين صحيح، يصرف الانتباه عن ما هو مهم، وأنه ينبغي المضي في الاتجاه الذي يعود بالنفع، أيًا كان. فتقول كيلبلينج: "أنا منفتحة على شتى الحلول. وسأقدم على أي ما يجعل روبوتاتي أفضل"

التوفيق بين التقنيتين

يهدف الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية إلى المزج بين فوائد الشبكات العصبية والذكاء الاصطناعي الترميزي، غير أن تعريفه مبهم. فيقول ماركوس: "يدخل في بناء الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية عالم شاسع، لم نستكشف إلا جانبًا بسيطًا منه".

وثمة العديد من المقاربات العامة لبلوغ هذا الذكاء والتي حاول البعض تصنيفها بعدة طرق. وإحدى الطرق التي سلط الكثيرون الضوء عليها تتمثل في استخدام تقنيات الترميز لتحسين أداء الشبكات العصبية4. ويمكن القول إن نظام «ألفاجيومتري»  يُعد من أكثر نماذج هذه الإستراتيجية تطورًا ؛ فهو يدرب الشبكات العصبية على مجموعات بيانات مُخلقة تتألف من مسائل رياضية منتجة باستخدام لغة حاسوبية ترميزية، ما يجعل التحقق من الحلول أسهل ويضمن الحد من الأخطاء. وهو ما يصفه كوليلوه بأنه دمج أنيق بين التقنيتين. وفي نموذج آخر لتحسين أداء الشبكات العصبية، تخدم "شبكات الموتر المنطقية" (وهي شبكات تستخدم مصفوفات متعددة الأبعاد تعرف بـ"الموترات") كوسيلة لترميز القواعد المنطقية للشبكات العصبية؛ حيث يمكن تعيين قيمة حقيقة ترجيحية لكل قضية منطقية5، تكون رقمًا يتراوح ما بين 1 (ويرمز إلى صحة القضية المنطقية)، والرقم 0 (الذي يرمز إلى خطأ القضية المنطقية). وهذا النهج يصنع إطارًا من القواعد لمساعدة النظام على التفكير المنطقي.

وثمة نهج عام آخر، يسلك مقاربة قد يصفها البعض بأنها النقيض، فهي تعتمد على الشبكات العصبية لتحسين أداء الخوارزميات الترميزية. غير أن قواعد البيانات المعتمدة على الترميز المنطقي يعيبها، من جملة مواطن قصور أخرى، حجمها الهائل عادة، والذي يجعل البحث فيها يستغرق وقتًا طويلًا. على سبيل المثال، تضم "شجرة" جميع الخطوات المُحتملة في لعبة «جو» للشطرنج حوالي 10170 موقعًا محتملًا، وهو عدد هائل إلى حد أنه من غير المجد عمليًا الموازنة بين هذه الاحتمالات. بالمقارنة، يمكن تدريب الشبكات العصبية على التنبؤ بمجموعة الخطوات الأرجح نجاحها، ما يجعل النظام يقلص الجزء الذي يحتاج إلى البحث فيه عن خطوات محتملة من "الشجرة"، ويقلص بالتالي الوقت المستغرق لحسم الخطوة الأفضل. وهذا هو ما فعله نظام «ألفا جو» التابع لشركة «جوجل» في معركته الشهيرة التي تفوق فيها على لاعب بلقب "أستاذ كبير" في لعبة «جو» للشطرنج.

وتتمثل مقاربة بديلة في إدخال استخدام قواعد المنطق الترميزية في سير عمل النماذج اللغوية الكبيرة، ليخدم ذلك على النحو نفسه الذي يساعد به الرجوع إلى آلة حاسبة شخصًا على حل أحد ألغاز الرياضيات. ويرى كثيرون أن الاعتماد على الأنظمة القائمة على القواعد المنطقية في خطوات التفكير المنطقي الحاسمة قد يجنب النماذج اللغوية الكبيرة الوقوع في الأخطاء. على سبيل المثال، بعض المشروعات، كمشروع نموذج Program Aided Language، يستخدم نموذج لغوي كبير لتحويل المهام المكتوبة باللغات الطبيعية إلى كود برمجي بلغة «بايثون» البرمجية، ليستخدم بعد ذلك هذا الكود الترميزي لحل المشكلات، ثم ترجمة الحل إلى لغة طبيعية باستخدام نموذج لغوي كبير6.

جيايوان ماو - وهي باحثة في مجال الذكاء الاصطناعي، أتمت مؤخرًا دراساتها لنيل درجة الدكتوراة لدى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع كيلبلينج، ويُزمع أن تلتحق بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا - لاقت نجاحًا في استخدام الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالشبكات العصبية لتعزيز كفاءة تدريب روبوتاتها. وتعتمد إستراتيجيتها على استخدام شبكة عصبية للتعرف على الأشياء (مثلًا، كرة مطاطية حمراء، أو مكعب زجاجي أخضر في مجال رؤية ما)، ثم الاستعانة بخوارزمية ترميز للوصول إلى حلول من خلال طرح أسئلة تبحث العلاقة بين هذه الأشياء (كالتساؤل هل الشيء المطاطي خلف الشيء الأخضر؟). وحسبما تفيد ماو، يُتوقع أن تحتاج الشبكة العصبية الخالصة 700 ألف مثال في بياناتها التدريبية للوصول إلى دقة نسبتها 99% في هذه المهمة. غير أنه بإضافة تقنيات الترميز، لا تحتاج ماو إلا لـ 10% من عدد هذه الأمثلة7.  وتضيف: "حتى إن استخدمت 1% فقط من هذه الأمثلة، يمكنك أن تحرز دقة نسبتها 92%، وهو ما يعد مذهلًا للغاية". وقد تفوق نظام ابتكرته ماو ويستخدم الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بالذكاء الاصطناعي تفوقًا كاسحًا على نظام آخر يستخدم شبكة عصبية في توجيه روبوت يصادف أشياء غير مألوفة أثناء غسل الأطباق أو إعداد الشاي8.

فجوة بين العالمين

أحد أكبر التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي الترميزي هي صعوبة ترميز المعارف البشرية المربكة أحيانًا وصوغها في لغة قائمة على المنطق والقواعد. يأتي مشروع «سايك» Cyc كأحد أولى المحاولات في هذا الإطار. وهو مشروع أسسه اختصاصي علم الحاسوب دوج لينات في عام 1984، لتشرف عليه لاحقًا شركة أخرى للينات، هي شركة «سايكورب» Cycorp للذكاء الاصطناعي، ومقرها مدينة أوستن في ولاية تكساس الأمريكية.  هدِف المشروع إلى التعبير بصورة واضحة عن الحقائق البديهية والقواعد الحدسية، مثل: "الابنة هي طفلة"، والبشر يحبون أطفالهم"، و"رؤية شخص تحبه تجعلك تبتسم". ولغة المشروع، المعروفة باسم «سايكل» CycL، تستخدم الرموز (التي ترمز إلى روابط منطقية مثل IF (إذا)، وAND (بالإضافة إلى)، وOR (أو)، وNOT (ليس)) للتعبير عن العلاقات المنطقية، كي يمكن بعد ذلك لمحرك استنتاج أن يخلص إلى استنتاجات منها، مثل: "رؤية طفلك تجعلك تبتسم".

ومشروع «سايك»، الذي يضم حاليًا أكثر من 25 مليون مُسلَّمة منطقية، استًخدم في العديد من جهود تطوير الذكاء الاصطناعي، وقد ألهم مشروعات أخرى مثل مشروع «نوليدج جراف» Knowledge Graph التابع لشركة «جوجل»، والذي يضم أكثر من 500 مليار حقيقة عن عالمنا. وفي الوقت الحالي، يستخدم "مهندسو تعلم" في المجال إستراتيجية مماثلة لجمع الحقائق التي وضعها البشر والعلاقات بين هذه الحقائق من أجل تصميم قواعد بيانات متخصصة تُدمج في الذكاء الاصطناعي.

وعندئذ، يمكن لقواعد بيانات الذكاء الاصطناعي الترميزي تلك أن تساعد الذكاء الاصطناعي على الوصول إلى استنتاجات صحيحة أعم من خلال موقف واحد وتطبيق هذه الاستنتاجات في موقف آخر، حسبما تفيد كيلبلينج، وهو ما يُعد وسيلة مذهلة لتعزيز كفاءة التفكير المنطقي. لكن هذا يأتي على حساب الدقة، عند التصدي لقضايا منطقية تتعدد فيها الاستثناءات للقواعد. على سبيل المثال، لا يحب جميع البشر أطفالهم، ورؤية شيء تحبه لا تجعلك دائمًا تبتسم. لذا، حسبما توضح كيلبلينج، ينبغي عدم استخدام الترميز المنطقي إلا في الحالات التي يعود فيها بنفع. فتضيف: "سعى مشروع «سايك» إلى تحويل الحدس السليم إلى قواعد رياضية. ويمكن القول أن هذه بلا شك فكرة سيئة".

في عام 2023، نشر ماركوس مع لينات ورقة بحثية9 حددت ما يمكن للنماذج اللغوية الكبيرة تعلمه من مشروع «سايك». وفي هذه الورقة، وجه الباحثان سؤالًا لنموذج «جي بي تي-3» GPT-3، وهو أحد أوائل النماذج اللغوية الكبيرة التي قام عليها نموذج «تشات جي بي تي»، وطلبا منه كتابة قضايا منطقية بلغة «سايكل» ترمِّز العلاقات المنطقية في الجملة التالية: "هل لمست شيئًا أزرق في عاصمة فرنسا في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 2022"؟ والجواب: "أذهل في البداية فريق مشروع «سايك»، بحسب ما أفاد الباحثان، لأنه أنتج ما بدا أنه القضايا المنطقية الصحيحة في هذا الموقف بلغة بدت صحيحة. لكن بحسب ما كتب الباحثان، بالتعمق في دراسة النتائج، تبين أن «جي بي تي- 3» وقع في الكثير من الأخطاء الجوهرية، مثل استنتاج أن "ما يلمس الشيء الأزرق هو التاريخ المذكور".

تعقيبًا على ذلك، يقول كوليلوه، "قد يبدو أنها إستراتيجية جيدة، يُتوقع لها أن تفلح ، لكن مما لا شك فيه أنها عديمة الجدوى". فعلى حد قوله، هذا يبرهن على أنه لا فائدة من مزج محرك بحث ترميزي مع شبكة عصبية على نحو غير مدروس. فعندها، بتعبيره: "ربما يكون من الأفضل لك ألا تصمم نظامًا كهذا من الأساس".

ويرى كوليلوه، أن المطلوب هو مزيد من الأبحاث حول "وعي الذكاء الاصطناعي بإدراكه"، أي الأبحاث حول ملاحظة الذكاء الاصطناعي لآليات تفكيره وإدارته لها. فهذا يسمح لـ"نظام التحكم" في الذكاء الاصطناعي بالإشراف على دمج أكثر تطورًا بين نموذجي العمل، بدلًا من المناوبة بين استخدام محركين مختلفين. ويضيف كوليلوه أن نظام «ألفاجيومتري» يحقق هذا بكفاءة، لكن في سياق محدود. ويختتم كلامه قائلًا أنه إذا أمكن تصميم نظام تحكم مرن يصلح لأي مجال معرفي، فهذا - في رأيه - "يصنع ذكاءً عامًا اصطناعيًا".

وثمة الكثير مما يجب القيام به بعد. فقد تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي الترميزي المعزز بشبكة عصبية إلى مكونات مادية ورقائق حوسبية ذات تصميم جديد لإدارتها بكفاءة10. ومع الوقت، قد تظهر أنواع ذكاء اصطناعي أخرى أكثر جاذبية - تعتمد إما على الشبكات العصبية أو على الذكاء الاصطناعي الترميزي أو كليهما أو لا أي منهما- مثل الذكاء الاصطناعي الكمي وهو حقل ناشئ يسعى إلى الاستفادة من خصائص العالم الكمي لتحسين الذكاء الاصطناعي.

وترى ماو أن غاية الغايات في هذا السياق هي الاستفادة بالقدرات التي تظهرها الشبكات العصبية على التعلم للخروج بقواعد وتصنيفات ومسارات تفكير منطقي لم يفطن إليها البشر بعد. فتقول: "يؤمل أن نحصل في نهاية المطاف على أنظمة ذكاء اصطناعي تبتكر أيضًا قواعد ترميزية تعبر عن العلاقات بين المفاهيم وخوارزميات ترميزية تتيح لها أن تتجاوز حدود المعرفة البشرية. وهذا يشبه اكتشاف الحواسيب لمبدأ رياضي أو فيزيائي غير معروف لنا إلى الوقت الحالي، على نحو يناظر اكتشاف مفهوم باي π، أو خصائص الكتلة، ليرمِّز الحاسوب بعد ذلك هذا المفهوم الجديد كي يسهم في توسعة آفاق معارفنا. وختامًا تقول ماو: "نحتاج إلى أن ندرس كيف يمكن للحواسيب أن تعلم البشر، لا كيف يمكن للبشر تدريب الآلة".

هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 25 نوفمبر عام 2025.

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.214


  1. Nawaz, U., Anees-ur-Rahaman, M. & Saeed, Z. Intell. Syst. Appl. 26, 200541 (2025).
  1. Colelough, B. C. & Regli, W. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2501.05435 (2025).

  2. Trinh, T. H., Wu, Y., Le, Q. V., He, H. & Luong, T. Nature 625, 476–482 (2024).
  1. Yang, X.-W. et al. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2508.13678 (2025).

  2. Badreddine, S., D’Avila Garcez, A., Serafini, L. & Spranger, M. Artif. Intell. 303, 103649 (2022).
  1. Gao, L. et al. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2211.10435 (2022).

  2. Mao, J., Tenenbaum, J. B. & Wu, J. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2505.06191 (2025).

  3. Liu, W., Nie, N., Zhang, R., Mao, J. & Wu, J. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2505.21981 (2024).

  4. Lenat, D. & Marcus, G. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2308.04445 (2023).

  5. Wan, Z. et al. Preprint at arXiv https://doi.org/10.48550/arXiv.2409.13153 (2024).