أخبار

علم الجينوم القديم… كيف تعيد الجينات كتابة تاريخ الإنسان؟

نشرت بتاريخ 28 ديسمبر 2025

التقدّم الهائل في تحليل الحمض النووي القديم منح العلماء القدرة على كشف أصول البشر وهجراتهم وأمراضهم، وإعادة رسم التاريخ استنادًا إلى أدلة جينية مستقلة عن السرديات التاريخية.

قاسم زكي, أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين.

Credit: Barry Iverson/ Alamy Stock Photo
Credit: Barry Iverson/ Alamy Stock Photo

لم تعد الحفريات والنقوش واللقى الأثرية وحدها هي التي تخبرنا عمّن عاش قبل آلاف السنين. فاليوم يشاركها صوت جديد مُدهش الدقة: صوت الجينات. لقد أحدث تحليل الحمض النووي القديم (Ancient DNA – aDNA)  انقلابًا هادئًا في فهمنا للتاريخ البشري، بعدما أصبح ممكنًا استخراج شظايا وراثية من عظام وأسنان تعود لآلاف السنين، وإعادة بناء جينومات أشخاص رحلوا منذ زمن بعيد.

 

كان الوصول إلى الحمض النووي القديم حلمًا طويلًا، لأن الحمض النووي يتحلل بفعل الزمن والحرارة والرطوبة. إلا أن التطور الكبير في طرق الاستخلاص والتسلسل الجيني والحوسبة الحيوية، جعل من الممكن قراءة الشفرة الوراثية لأشخاص عاشوا قبل 20 و30 ألف عام. ومع كل جينوم محفوظ، أصبحنا نقترب خطوة إضافية من ماضٍ لم نكن نتخيل إمكانية الوصول إليه بهذه الدقة.

ثورة معرفية تغيّر قواعد التاريخ

تكمن قوة الحمض النووي القديم في أنه يقدّم حقائق مباشرة لا تعتمد على التأويل أو التخمين. فالجمجمة قد تُفسّر بطرق عدة، لكن الجينوم يوفر دليلًا مباشرًا يقلل مساحة التأويل.

أسهم هذا العلم في اكتشافات عدة، من بينها إعادة رسم خريطة الهجرات البشرية. فقد ساعد تحليل رفات الإنسان القديم في تتبع حركة البشر من أفريقيا إلى أوراسيا، وكشف عن حدوث تزاوج بين الإنسان العاقل والنياندرتال والدينيسوفان. يحمل معظم سكان أوراسيا اليوم ما بين 1–3% من جينات النياندرتال، وهي حقيقة غيّرت نظرتنا لتطور الإنسان . 

كما قدمت دراسات حديثة عن المومياوات المصرية صورة أكثر وضوحًا للتركيبة السكانية للمصريين القدماء، وأكدت وجود تواصل سكاني مستمر بين وادي النيل وشمال شرق أفريقيا والشرق الأدنى، دون حدوث "انقطاع سكاني" كما زعمت بعض الأطروحات غير العلمية . 

وأظهر الحمض النووي لحبوب شعير قديم كيف انتقلت الزراعة من الهلال الخصيب إلى مصر ثم أوروبا، وأضاف أدلة جديدة عن دور المصريين القدماء في تدجين بعض النباتات المحلية. كما مكّنت دراسة الحمض النووي لبكتيريا الطاعون من إعادة بناء تاريخ تطور السلالات التي اجتاحت العالم في العصور الوسطى، وهو ما ساعد على فهم كيفية تغيّر مسببات الأمراض عبر آلاف السنين.

رحلة معقّدة لقراءة جيناتٍ شديدة القدم

تحليل الـحمض النووي القديم عملية حساسة للغاية، فأي خلية بشرية حديثة قد تُفسد العينة. لهذا تُجرى عمليات الاستخلاص داخل غرف معقمة ذات ضغط هواء سالب، مع ارتداء ملابس شبيهة بملابس غرف العمليات . 

تكمن التحديات الأساسية لعملية التحليل في عدة عوامل من بينها التلوث الحديث، وتفتت الجزيئات القديمة لأجزاء صغيرة جدًا (40-100 زوج قاعدي) ، وتحلل القواعد الكيميائية، وندرة الأعضاء التي تحفظ الجينوم جيدًا مثل الأسنان والعظام الكثيفة..

ومع ذلك نجحت تقنيات الجيل الجديد للتسلسل في تحويل هذه الشظايا الصغيرة إلى جينومات قابلة للتحليل، باستخدام "مكتبات جزيئية" تقرأ كل جزء مئات المرات لضمان الدقة . 

أسفرت هذه التقنيات عن نماذج ناجحة، مثل طفل لوديا - سيبيريا الذي عاش قبل 24 ألف سنة، وأظهرت جيناته صلة قوية بأصل الأمريكيين الأصليين، مما دعم نموذج الهجرة عبر مضيق بيرنج .

كذلك كشفت جينومات العصر الحجري الحديث أن المزارعين الأوائل جاؤوا من الأناضول، وحملوا معهم مزيجًا جينيًا مختلفًا عن صيادي أوروبا. وتشير الدراسات إلى قدر كبير من الاستقرار الوراثي بين المصريين القدماء والمعاصرين، مع وجود تغيرات محدودة لاحقة، ما يضع حدًا للأسطورة القائلة بوجود "انقطاع عرقي" عبر الزمن .

نحو تاريخ جيني كامل للحضارات 

يتسع مجال الحمض النووي القديم اليوم ليشمل عدة تطبيقات منها: تحليل الحمض النووي للبيئة من الرواسب القديمة لتحديد النباتات والحيوانات التي عاشت قديمًا. ومحاولة "إحياء" جينومات منقرضة مثل فيل الماموث باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية. وأيضا رسم خرائط جينية كاملة لتاريخ الحضارات، وتتبّع تغيرات الصحة والمناعة والأمراض عبر آلاف السنين. ومع كل جينوم يُكتشف، يصبح فهمنا لتاريخ الإنسان أكثر دقة، ويغدو بوسعنا دراسة الماضي كما لو كان يعيش بيننا . 

لقد منحنا علم الجينوم القديم نافذة لم تكن متاحة من قبل لرؤية تاريخ البشر. فالجينات التي نجت عبر الزمن لم تعد مجرد بقايا داخل عظام، بل شهادات حيّة تعيد تشكيل رواياتنا عن الهوية والهجرات والصحة والتطور. ومع استمرار التطور التقني، يقترب اليوم الذي نستطيع فيه إعادة بناء الماضي بوضوح غير مسبوق؛ ماضٍ يتحدث إلينا من جديد بلغة العلم.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.227


1. Pääbo S. Neanderthal man: In search of lost genomes. New York: Basic Books; 2014.

2. Reich D. Who we are and how we got here: Ancient DNA and the new science of the human past. Oxford: Oxford University Press; 2018.

3. Willerslev E, Cooper A. Ancient DNA. Proc R Soc B Biol Sci. 2005;272(1558):3-16. doi:10.1098/rspb.2004.2813.

4. Knapp M, Clarke AC, Horsburgh KA, Matisoo-Smith EA. Paleogenomics and sequencing technologies. Nat Rev Genet. 2012;13(6):427-434. doi:10.1038/nrg3253.

5. Goodwin S, McPherson JD, McCombie WR. Coming of age: ten years of next-generation sequencing technologies. Nat Rev Genet. 2016;17(6):333-351. doi:10.1038/nrg.2016.49.

6. Schuenemann VJ, Peltzer A, Welte B, van Pelt WP, Molak M, Wang CC, et al. Ancient Egyptian mummy genomes suggest an increase of Sub-Saharan African ancestry in post-Roman periods. Nat Commun. 2017;8:15694. doi:10.1038/ncomms15694.