أخبار

بناء علم فلك قوي في إفريقيا يبدأ بالاستثمار في الجيل القادم

نشرت بتاريخ 22 يوليو 2025

أسهم عالم الفلك بيرني فاناروف في وضع خطة جنوب إفريقيا الرامية إلى أن تصبح ضمن القوى الكبرى في مجال علم الفلك الراديوي، والبداية كانت بتدريب الجيل القادم من الباحثين.

يسعى بيرني فاناروف، الذي يمثل جزءًا من مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع» في كارنافون بجمهورية جنوب أفريقيا، إلى ضمان حصول الطلاب الأفارقة من ذوي البشرة السمراء على فرص للتخصص في علم الفلك الراديوي. 

يسعى بيرني فاناروف، الذي يمثل جزءًا من مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع» في كارنافون بجمهورية جنوب أفريقيا، إلى ضمان حصول الطلاب الأفارقة من ذوي البشرة السمراء على فرص للتخصص في علم الفلك الراديوي. 
Credit: Jaco Marais/Foto24/Gallo Images/Getty

علم الفلك الراديوي في أفريقيا

في عام 2005، قدمت جمهورية جنوب إفريقيا وشركاؤها من دول القارة الإفريقية مقترحًا لاستضافة أكبر مشروع تلسكوبات راديوية في العالم، أطلق عليه اسم «مصفوفة الكيلومتر المربع» Square Kilometre Array . آنذاك، لم تضم القارة السمراء بأكملها سوى خمسة علماء متخصصين في علم الفلك الراديوي، كانوا جميعًا مقيمين في جنوب إفريقيا. وفي العام ذاته، دشن البلد برنامجًا هادفًا وموجهًا لتنمية رأس المال البشري من أجل تطوير المواهب اللازمة لبناء التلسكوبات الراديوية التي تلتقط الإشارات الراديوية المنبعثة من الأجرام السماوية، إلى جانب التدريب على تشغيل تلك التلسكوبات واستخدامها. وبمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس ذلك البرنامج، والتي يحين موعدها هذا العام، أنشأ البرنامج الذي يحظى بالتمويل من حكومة البلد خمسة مناصب أستاذية بحثية وقدم أكثر من 1370 منحة دراسية للطلاب الجامعيين والباحثين الذين يدرسون للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه وكذلك لباحثي ما بعد الدكتوراه، وذلك بتكلفة إجمالية تبلغ نحو 500 مليون راند جنوب أفريقي (ما يعادل 28 مليون دولار أمريكي).

جدير بالإشارة أن العمل يجري حاليًا على إنشاء «مصفوفة الكيلومتر المربع»، التي يُزمع أن تضم أكثر من مائة ألف هوائي شبيه بالشجرة في أستراليا، وما يقرب من مائتي طبق هوائي في جنوب إفريقيا. وتمتلك دولة جنوب إفريقيا اليوم وتدير عديدًا من التلسكوبات الراديوية، كما يوجد مئات من علماء الفلك الراديوي والطلاب الدارسين للتخصص ذاته في عدد من جامعات ومؤسسات الدول الإفريقية.

تواصَل فريق العمل بقسم «حديث المهن» بدورية Nature مع مسؤولين وعلماء يعملون على تنمية القدرات الخاصة بعلم الفلك الراديوي في إفريقيا، وهو الأمر الذي يتحقق بصفة جزئية في الوقت الراهن من خلال مرصد علم الفلك الراديوي في جنوب إفريقيا. وفي المقال الأول ضمن سلسلة قصيرة من المقالات التي تبحث في مدى نمو هذا التخصص في القارة السمراء، يصف بيرني فاناروف، الذي قاد ملف جنوب إفريقيا لاستضافة مرصد «مصفوفة الكيلومتر المربع»، كيف أن مبلغًا ماليًا صغيرًا إلى حد ما قد أسهم في إعداد كتلة حرجة من الباحثين القادرين على المنافسة على الصعيد الدولي.

عندما قررنا دخول حلبة المنافسة لاستضافة مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع»، وعينا إلى ضرورة التركيز الشديد على الكيفية التي ننفق بها أموالنا. كان أحد شروط الدعم الحكومي لملف الاستضافة، سواء من حكومة جنوب إفريقيا أو من رؤساء دول الاتحاد الإفريقي، العمل على تنمية رأس المال البشري في شتى أرجاء القارة. في ذلك الوقت، لم تحتضن إفريقيا سوى حفنة من علماء الفلك الراديوي؛ ومن ثمَّ، كنا نطمح إلى إنشاء هذا التخصص العلمي والنهوض به هنا في القارة السمراء.

توفر لدينا في السنة الأولى ما يقرب من 40 مليون راند (ما يعادل مليوني دولار أمريكي) للبدء في تطوير المهارات اللازمة لبناء تلسكوب استكشافي رائد واستخدامه بهدف إثبات قدرة جنوب إفريقيا على استضافة مرصد «مصفوفة الكيلومتر المربع». في الحقيقة لم نرد أن نهدر الأموال التي في حوزتنا بلا طائل، وكانت لدينا معايير صارمة بشأن المشاريع المؤهلة للحصول على الدعم. بدأنا باستقطاب أشخاص مميزين للغاية، إلا أننا وجدنا أن عدد الطلاب الملتحقين بالبرنامج من ذوي البشرة السمراء أو من الإناث لم يكن كافيًا لإحداث أي نوع من التحول على مستوى الدراسات العليا. يُشكل أصحاب البشرة السمراء أكثر من 80% من سكان جنوب إفريقيا، بيد أنه من الناحية التاريخية، كان علماء الفلك في البلاد دائمًا من البِيض؛ ولذا هدفنا إلى تغيير ذلك الوضع.

وفي إطار سعينا للتعامل مع هذه الظاهرة، بدأنا بتوسيع نطاق برنامج تنمية المهارات لدينا ليشمل الطلاب الجامعيين في مرحلة البكالوريوس، إلا أننا ظللنا نواجه صعوبة في استقطاب مرشحين من الطلاب السود والإناث. ومن ثمَّ، قررنا الانطلاق من مراحل تعليمية مبكرة والبدء من مرحلة التعليم الثانوي. على سبيل المثال، على الرغم من أن برنامج المنح الدراسية الذي قدمناه كان يمنح الأفضلية للطلاب القاطنين في منطقة كارو في جنوب إفريقيا التي توجد بها التلسكوبات، فإن طلاب هذه المنطقة واجهتهم صعوبة بالغة في استيفاء متطلبات القبول الجامعي في مادتي العلوم والرياضيات. ولذلك، كان علينا أن ننقل مجموعة من معلمي المدارس الثانوية المتخصصين إلى المنطقة حتى تكون عملية الإعداد شاملة ومتكاملة من البداية إلى النهاية.

لا بد أن نشير إلى أن هناك مجموعات كبيرة من الشباب من ذوي القدرات والمهارات العالية الذين لم تُتح لهم الفرصة للانخراط في مجال العلوم؛ فثمة حواجز اجتماعية واقتصادية حقيقية تعترض طريق النساء والطلاب السود في جنوب إفريقيا.

ولا يمكن في ظل ظروف كتلك أن نتوقع خروج عدد من المرشحين المتنوعين من العدم. بل يتعين علينا أن نفتش عن هؤلاء وأن نجدهم، وأن نعترف بأنهم يمتلكون إمكانات هائلة ومبشرة رغم كل الظروف التي يعيشون في ظلها. ثم علينا في النهاية أن نجازف بمنح الفرصة لهؤلاء الأشخاص.

فإذا كنتَ قادمًا من مدرسة تعاني من شح الموارد أو من منطقة تعرضت للتمييز أو التهميش في السابق، فسيكون من الصعب عليك التعامل مع الحياة الجامعية، لأنك ستواجه بيئة جديدة تمامًا بالنسبة إليك. ربما يواجه الطلاب عجزًا حقيقيًا في موارد التعليم الأساسي، إلا أن المشكلة لا تقتصر على ذلك؛ فهم في الأغلب الأعم يفتقرون كذلك إلى عناصر لازمة ومطلوبة لتحقيق النجاح، من بينها الثقة بالنفس والمهارات الدراسية والمعرفة بنظام الدراسة في الجامعة. وجدت دراسة حكومية1 منشورة في عام 2019 أن ثلاثة من كل خمسة طلاب ينتمون إلى الفئات المحرومة في جنوب إفريقيا لا يتمكنون من استكمال دراستهم الجامعية.

كذلك لا بد أن يشعر الطلاب بوجود من يؤازرهم في حياتهم، حتى ولو كان مجرد مرشد نفسي. على سبيل المثال، أدت كيم أنتوني، رئيسة قسم تنمية رأس المال البشري بمرصد جنوب إفريقيا لعلم الفلك الراديوي في كيب تاون، وفريقها دورا عمليًا بالغ الأهمية وأحدثوا فارقًا كبيرا بمجرد تعبيرهم عن الاهتمام بهؤلاء الطلاب.

كذلك طالبنا الجامعات بإثبات أن لديها أشخاصًا مناسبين لتوجيه الطلاب وإرشادهم. وفي البداية، لم يكن هناك عدد كافٍ من المشرفين لمواكبة أعداد الطلاب المتزايدة؛ ومن ثمَّ، وفرنا تمويلًا لإنشاء خمسة مناصب أستاذية وخلق بعض الوظائف الوسيطة بهدف إرشاد الطلاب، مع تخصيص التمويل اللازم لهم ولباحثي ما بعد الدكتوراه ولتكاليف بدء المشاريع الجديدة. وقد تُوجت هذه الجهود بنجاح كبير للغاية.

 

إرساء دعائم علم الفلك في القارة

أثبت تلسكوب «ميركات» MeerKAT في جنوب إفريقيا، والذي يتكون من 64 طبقًا هوائيًا والذي افتُتح في عام 2018، أن البلد أصبح مركزًا رائدًا في علم الفلك الراديوي والتقنية والعلوم المتقدمة. جدير بالإشارة أن «ميركات»، الذي يعد واحدًا من أكثر التلسكوبات الراديوية دقة في العالم، سينضم في نهاية المطاف إلى مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع». وقد استقطب هذا التلسكوب مجموعة من كبار الباحثين في مجالات العلوم والهندسة على الصعيد العالمي، وأصبح بإمكان شبابنا من الباحثين الآن الوصول إلى هذا التلسكوب والاستفادة من هذه الخبرة الدولية.

كذلك حقق برنامج «التطوير في إفريقيا من خلال علم الفلك الراديوي» (المعروف اختصارا بـ DARA»»)، وهو مشروع تعاون بين حكومتي جنوب إفريقيا والمملكة المتحدة، نجاحًا باهرًا. أُطلق البرنامج في عام 2015 بقيادة جامعة ليدز بالمملكة المتحدة، وبالتعاون مع عدة مؤسسات أخرى. وقد نجح في تدريب أكثر من 300 من الطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا في الدول الإفريقية التي تعد من الشركاء الأصليين في مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع»، والتي تضم بوتسوانا وغانا وكينيا ومدغشقر وموريشيوس وموزمبيق وناميبيا وزامبيا.

كانت الفكرة المبدئية تتمثل في الانتهاء من بناء مرصد «مصفوفة الكيلومتر المربع» بالكامل بحلول عام 2012، مع تركيب أطباق هوائية في جميع الدول الشريكة. إلا أنه بمرور الوقت، أصبح جليًا أن ذلك الطموح لن يتحقق، غير أننا كنا لا نزال نود زيادة عدد الأشخاص الذين يمتلكون مهارات ذات صلة بعلم الفلك الراديوي في القارة. وكانت علوم البيانات هي الحل البديهي أمامنا. يُدرب برنامج DARA»» علماء الفلك الذين يستهلون مسيرتهم المهنية على علم الفلك الراديوي الرصدي والحوسبة وتحليل البيانات. ويعني ذلك أن يتمكن عالم فلك في غانا من الوصول إلى البيانات الخاصة بالتلسكوب «ميركات»؛ إلا أنه ليس من الضروري امتلاك كل دولة لجهاز تلسكوب راديوي خاص بها.

كان هدفي بناء قدرات تقنية تؤخذ مأخذ الجد في إفريقيا. ولكي تتمكن من تحقيق ذلك، لا بد من توفُر مؤسسات تدعم هؤلاء العلماء في بداية مسيرتهم المهنية. ليس من المنطقي أن تقدم تدريبًا لطالب دكتوراه متميز حقًا ثم تعيده من جديد إلى بلد لا يمنحه أي دعم. لا شك أنه سيصاب بإحباط شديد وسيحمل خبرته ويرحل إلى مكان آخر، إما إلى دولة أجنبية أو إلى وظيفة أخرى في القطاع التقني.

لقد أسسنا هذه الإمكانات في أماكن عديدة على امتداد جميع أنحاء القارة السمراء. على سبيل المثال، تتولى «الجمعية الفلكية الإفريقية» African Astronomical Society، التي أنشئت في عام 2010، حاليًا تنظيم أنشطة عديدة، مثل عقد المؤتمرات ومنح الجوائز. وهي أنشطة يتجاوز نطاقها حدود جمهورية جنوب أفريقيا والدول الشريكة في مشروع «مصفوفة الكيلومتر المربع»، فتمتد على سبيل المثال إلى الجزائر والمغرب وإثيوبيا. لقد صار هناك نوع من الاهتمام المتزايد بعلم الفلك الراديوي، والفضل في ذلك يرجع إلى ذلك المشروع.

يُعد علم الفلك الآن أحد أسرع العلوم نموًا في جنوب إفريقيا، وقد نجحنا في تحقيق عديد من الاكتشافات المهمة باستخدام التلسكوب «ميركات»، مثل اكتشاف تجمع من الخيوط الراديوية الضخمة في مركز مجرتنا، والتي لا تزال أصول نشأتها محل جدل كبير. يعتقد الباحثون أن هذه الخيوط تمثل مجالات مغناطيسية قوية يُحتمل أن تكون عائقا في طريق تكوين النجوم.

وأخيرا، في خلال 20 عامًا فقط من الآن، سيكون ممكنًا رؤية النتائج التي أثمر عنها استثمار متواضع نسبيًا بقيمة 1.25 مليون دولار سنويًا في المتوسط ​​على مدار عقدين من الزمن.

حُررت هذه المقابلة مراعاة للطول والوضوح.

هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 20 يونيو عام 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.114


 

1. Department of Planning, Monitoring and Evaluation. Towards a 25 Year Review, 1994–2019 (South African Government, 2019).