أخبار

كيف تُطور مسيرتك في علم الحفريات الفقارية؟

نشرت بتاريخ 9 يوليو 2025

أعضاء "سلّام لاب" يقدّمون إرشادات ميدانية لباحثي المستقبل في استكشاف الماضي والكائنات المنقرضة.

سمر أشرف

حقوق الصورة: هشام سلام، سلام لاب

في أعماق الصحاري المصرية الشاسعة، وعلى امتداد المناطق الغنية بالحفريات، يعيد جيل جديد من الباحثين رسم ملامح علم الحفريات الفقارية في المنطقة. فبعد أن ظل عقودًا طويلة تحت هيمنة البعثات الأجنبية، يشهد المجال تحوّلًا واضحًا ونموًا ملحوظًا في المنطقة العربية. ولكن لا يزال الباحثون الشباب يواجهون تحديات أكاديمية ومهنية تتعلق ببناء المهارات البحثية، والعمل الميداني، والتكامل مع المجتمع العلمي الدولي. فما الذي يتطلبه الأمر ليصبح المرء باحثًا ناجحًا في هذا المجال؟

حاورتْ «نيتشر ميدل إيست» أعضاء "سلّام لاب"، أول مجموعة بحثية في علم الحفريات الفقارية في مصر، بقيادة هشام سلّام، أستاذ علم الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة والجامعة الأمريكية بالقاهرة، في محاولة لسبر أغوار هذا المجال، وإرشاد الباحثين الشباب المهتمين باستكشاف الماضي.

بين الرمال والعظام

يُعد علم الحفريات الفقارية بوابةً لفهم التاريخ الطبيعي للكوكب، وأداةً علميةً لاستكشاف جذور الحياة الفقارية على الأرض. ولا يقتصر هذا المجال على استخراج الهياكل العظمية، بل يتضمن تحليل البيئات القديمة، وفهم تطوّر الكائنات، والكشف عن الأسباب والدوافع التي أثّرت في نشأتها وانقراضها.

يشير هشام سلّام إلى أن الطريق إلى علم الحفريات الفقارية لا يكون بالتخصص الجامعي فقط، بل بالشغف العلمي الحقيقي. فالخلفية العلمية وحدها لا تكفي، والشغف وحده لا يصنع باحثًا، لكن الجمع بينهما، مع حب الاستكشاف والتفكير النقدي، هو ما يصنع الباحث القادر على الاستمرار. ويرى سلّام أن الباحث الجيد ليس من يقرأ كثيرًا فقط، بل من يعرف كيف ينتج معرفة، ويفكر بمنهج علمي، ويتقن أساسيات البيولوجيا، والتشريح المقارن، والجيولوجيا. هذه الثلاثية تشكل قاعدة معرفية لا غنى عنها لفهم الحفريات وسياقها التطوري والبيئي.

حقوق الصورة: هشام سلام، سلام لاب

الجزء الأصعب والأكثر متعة

جانب كبير من العمل باحثًا في مجال الحفريات الفقارية يتمثل في العمل الميداني في الصحراء حيث تتحقق الاكتشافات من خلال الإعداد والتخطيط الجيدين، فتلك الاكتشافات ليست مجرد صدفة، بل هي نتيجة بحث دقيق. يقول سلّام: "الاجتهاد والبحث في المكان المناسب هو ما يجعل مثل هذه الصدف ممكنة. نحن نعرف أين نبحث، وفي أي الصخور يمكن أن نجد حفريات ذات قيمة علمية".

تقول شروق الأشقر، باحثة في فريق "سلّام لاب": "الذهاب إلى الصحراء ليس نزهة، بل مهمة علمية شاقة، والتخطيط المسبق هو حجر الزاوية في العمل الميداني. فالأمر يتطلب تجهيزات دقيقة تشمل تجهيز الخيام والموارد التي نحتاجها لننجو من حر الصحراء، والأدوات البحثية مثل الفرش والجبس، وأدوات التوثيق". وتشير الأشقر إلى ضرورة بناء خلفية علمية قوية حول المنطقة المُخطط اكتشافها، بداية من معرفة تاريخ المنطقة ودراسة تضاريسها وتكوينها الجيولوجي، وحتى إعداد الخرائط وصور الأقمار الصناعية الحالية من منصات مثل جوجل إيرث.

قد يكون العمل الميداني من أكثر الجوانب المرهقة في هذا المجال، ويتطلب قدرة عالية على التكيف مع الظروف القاسية، ولكن الأمر يستحق: تقول الأشقر: "لحظة العثور على حفرية تُنسيك كل التعب، حيث تتحول مشاعر الإرهاق إلى طاقة وحماس".

التعامل مع العينات بين الدقة والشغف

"الصحراء لا تحتمل الارتجال"، كما تُوضح الأشقر؛ لذا يتعاون الفريق البحثي للحفاظ على العينات بمجرد اكتشافها. تقول الأشقر: "لا تتم إزالة الحفرية من مكانها إلا بعد التأكد من تثبيتها جيدًا باستخدام لاصق خاص يتناسب مع طبيعتها. كما يجب توثيق كل عينة ببطاقة تعريف تشمل الموقع الجغرافي، وتاريخ الاكتشاف، ووصفًا أوليًا لها"، مضيفة: "الحفرية دون بيانات ليست ذات قيمة علمية".

بعد ذلك تُغلف العينة بالجبس فيما يُعرف بـ"الجاكت"، وهي طريقة عالمية تضمن سلامة الأحفورة خلال عملية النقل، خاصة في المناطق الوعرة. تتم مرحلة التغليف عبر خطوات دقيقة تشمل الحفر الأفقي ثم الرأسي حولها، وتثبيتها بطبقات من الخيش والجبس قبل قلبها ونقلها.

والحرص على الدقة في التعامل مع العينات لا يقتصر على حمايتها الفيزيائية فحسب، بل يمتد إلى صون ما تحمله من معرفة علمية. لهذا السبب، يلتزم الفريق بتوثيق منهجي دقيق لكل خطوة، بدءًا من لحظة الاكتشاف، مرورًا بعملية استخراج العينة وتغليفها، وصولًا إلى إدخالها المعمل.

تُسجّل البيانات عبر الصور، والفيديو، والملاحظات المكتوبة، وتُحفظ في أرشيف رقمي ومادي، ما يوفّر مرجعية دقيقة للعودة إليها لاحقًا، سواء لمراجعة النتائج أو لتخطيط بعثات مستقبلية. هذا النظام لا يحفظ فقط تسلسل الأحداث، بل يضمن أيضًا الشفافية، وجودة الأبحاث المنشورة.

حقوق الصورة: هشام سلام، سلام لاب

أدوات الباحث العصري

لا تقتصر مهارات الباحث في هذا التخصص الدقيق على الفهم النظري أو العمل الميداني، بل تشمل إتقان مجموعة من الأدوات التقنية المتقدمة. تقول الأشقر: "هذا المجال يتطلب التعلم المستمر. نستخدم برامج متقدمة، ونتابع أحدث الأبحاث، وكل يوم هو فرصة لاكتساب مهارة جديدة".

تشير الأشقر إلى أن المهارات الرقمية لم تعد ترفًا، بل عنصرًا حاسمًا في جودة البحث. فبعد إجراء المسح بالأشعة الدقيقة، تُستخدم برامج مثل «أميرا» Amira و«أفيزو» Avizo لتحويل الشرائح المصورة إلى نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة تساعد في دراسة البنية التشريحية للأحفورة. أما تحليل العلاقات التطورية وتكوين شجرة النسب للحفرية، فيتطلب أدوات مثل «ميسكيت» Mesquite لتسجيل الصفات ومقارنتها بين الأنواع، تليها برامج مثل «تي إن تي» TNT و«مستر بايز» MrBayes لإنشاء النماذج الاحتمالية للعلاقات بين الكائنات المنقرضة.

إضافة إلى ذلك، يستخدم الباحثون برنامج «آر» R للتحليل الإحصائي وإنشاء الرسوم البيانية التي تربط السمات التشريحية بمتغيرات مثل حجم الجسم أو البيئة. كما تبقى أدوات التصميم مثل «فوتوشوب» و«إلاستريتور» ضرورية لإعداد الرسوم التوضيحية الاحترافية التي تُنشر في الأوراق العلمية.

تنصح الأشقر الباحثين الشباب بالبدء في تعلم هذه الأدوات مبكرًا، التي من شأنها رفع جودة العمل البحثي وزيادة فرص النشر في مجلات متخصصة مرموقة.

كذلك يشدد سلّام والأشقر على عدم التوقف عن القراءة ومتابعة الأبحاث الجديدة. فالقراءة لا تكتفي بإيصال المعرفة، بل تشكّل أداة لفهم منهجية البحث العلمي وتوليد أفكار جديدة. من هذه الكتب، توصي الأشقر، بكتاب Vertebrate Palaeontology لمايكل بينتون، باعتباره مرجعًا لا غنى عنه، إلى جانب متابعة الأبحاث المنشورة في «دورية الحفريات الفقارية» Journal of Vertebrate Paleontology.

مواجهة الواقع

رغم أن الطريق يبدأ بالشغف، فإن الاستمرار يتطلب صبرًا وقدرة على مواجهة العقبات. تشير الأشقر إلى أن دخولها المجال بوصفها امرأةً شابةً في بيئة يغلب عليها الطابع الذكوري لم يكن سهلًا. لكن مع الوقت، أصبحت تجد تقديرًا متزايدًا داخل المجتمع البحثي بعد أن لمسوا نتائج عملها. أما سلّام، فيشير إلى تحدٍّ آخر لا يقل أهمية: "لدينا خريجون على مستوى عالمي، لكن لا توجد وظائف حقيقية لهذا التخصص. نحن بحاجة إلى دعم مؤسسي حقيقي لاستمرار هذا العلم".

وإلى جانب التحديات المجتمعية، تبرز إشكالية التمويل خاصة حين يتعلق الأمر بتنظيم بعثات استكشافية تتطلب موارد مالية كبيرة. إلا أن سلّام يبقى متفائلًا: "بدأت الجامعات والجهات المانحة تدرك قيمة علم الحفريات في مصر، والشراكاتُ الدولية في ازدياد".

خطوات عملية للباحثين الجدد

إذا كنت تحلم بأن تصبح مكتشف الديناصور القادم، فابدأ الآن. طوّر مهاراتك في علم الأحياء، والتشريح، والجيولوجيا. تعلّم استخدام البرامج العلمية المتخصصة، وشارك في العمل الميداني كلما سنحت لك الفرصة. ابحث عن مرشدين يؤمنون بك، وكن مستعدًا لأن تبذل جهدًا حقيقيًا دون انتظار مقابل مباشر.

فالعلم لا يمنحك النجاح، بل يمنحك فرصة لتصنعه بنفسك. كما يقول سلّام: "ابحث عن الشيء الذي يثير شغفك، طوّر مهاراتك، ولا تتوقف عن التعلم. نحن في انتظارك لتكمل ما بدأناه".

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.105