عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 9 مايو 2023
بيَّنَت تجارب مصممة بحيث تجبر الفئران ذات المكانة الاجتماعية الرفيعة على إخلاء الطريق لمرور فئران أدنى مرتبةً، أن تكرار تعرُّض الفأر ذي المكانة الرفيعة إلى تلك الهزيمة، بشكل غير متوقع، يُفقده مكانته الاجتماعية، ويتبع ذلك عزوف الفأر عن اغتنام فرص الاستمتاع. وأرجع الباحثون هذه التأثيرات إلى تغيرات تحدث في دائرة عصبية يدخل في تكوينها مركز رفض المكافأة في المخ.
فقدان المكانة الاجتماعية من بين العوامل التي قد تلقي بالشخص في هاوية الاكتئاب1. ويبدو أن هذه النزعة الفطرية هي إحدى الصفات التي صمدت في الكائنات عبر تاريخها التطوري؛ بالنظر إلى أن الانتماء إلى فئة اجتماعية أدنى، في العديد من أنواع الحيوان، يفضي إلى خصائص مرتبطة بالاكتئاب، كالانزواء الاجتماعي، وضعف الدافعية2-4. غير أن الآليات البيولوجية التي تقف وراء هذه الظاهرة ما زالت غير معروفة. وفي بحث نُشر مؤخرًا على صفحات دورية «سِل» Cell، تكشف جينجشياو فان وزملاؤها5 عن الآلية التي يؤثر بها فقدان الفئران مكانتها الاجتماعية في سعيها إلى المتعة، وسلوكيات التكيف مع الظروف.
في عام 2011، بيَّن الفريق البحثي الذي أجرى الدراسة التي بين أيدينا الآن، أنه عند وضع اثنين من الفئران في أنبوبة ضيقة، لا تسمح بمرور أحدهما إلا إذا تراجع الآخر، خارجًا من الأنبوبة، فإن التراتبية الاجتماعية هي التي تحدد الفأر الذي يتحتم عليه الإذعان والانسحاب6. وفي الدراسة موضع النظر، أغلقت فان وزملاؤها المخرج الموجود خلف الفأر ذي المرتبة الأدنى؛ وهو ما حسم مقدمًا نتيجة المنافسة لصالح الفأر الأدنى مرتبة، واضطُر الفأر الأعلى مرتبةً إلى التراجع، والخروج من الأنبوبة مهزومًا (الشكل 1).
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الشكل 1: الدائرة العصبية التي تقف وراء تأثير فقد المكانة الاجتماعية
عندما يوضع فأران مختلفان في الرتبة الاجتماعية داخل أنبوبة ضيقة، عادةً ما يتراجع الفأر الأدنى رتبة، مُفسحًا الطريق لمرور الفأر المهيمن. في التجارب التي أجرتها جينجشياو فان وزملاؤها5، تم إغلاق طرف الأنبوبة من ناحية الفأر الأدنى رتبة، بحيث يتحتم على الفأر المهيمن أن يتراجع. أدى تكرار الهزائم غير المتوقعة التي مُني بها الفأر المهيمن إلى ازدياد استجاباته المعبرة عن الضغوط، ونقص سلوكياته المرتبطة بالبحث عن المتعة. وجد الباحثون أن هذه السلوكيات تتزامن مع ازدياد نشاط المهاد التحتي الجانبي (LH)، الذي يرسل إشارات إلى العنان الجانبي (LHb)، الذي يمثل مركز رفض المكافأة في المخ (يمكن تتبع مسار الإشارات العصبية، بالبدء من الخطوة الأولى، المشار إليها في الرسم). يؤدي ذلك، في المقابل، إلى تقليل نشاط الخلايا العصبية في القشرة قبل الجبهية الوسطى (mPFC)، ربما عن طريق تثبيط إطلاق الدوبامين من المنطقة السقيفية البطنية (VTA). ووصول الإشارات من القشرة قبل الجبهية الوسطى إلى العنان الجانبي يولِّد حلقةَ تغذيةٍ أمامية، تُفاقِم سلوكيات العزوف عن المتعة.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بعد أربعة أيام فقط من تكرار الهزيمة أمام الفأر الأدنى مرتبة، يتصرف الفأر، الذي كان من قبلُ مهيمنًا، على نحو يشي بالخضوع، عند التنافس على الغذاء؛ ما يشير إلى أن الفأر ينتابه شعور بتراجع رتبته الاجتماعية. إضافةً إلى ذلك، وجد الباحثون أن تلك الفئران التي تفقد مكانتها الرفيعة تصبح أكثر خمولًا من فئران المجموعة الضابطة (أي الفئران التي سُمحَ لها بالمرور خلال الأنبوبة دون منافس)، عندما توضع في بيئة حافلة بالضغوط؛ ما يدل على تغير سلوك تلك الفئران في مجابهة الظروف. وعلى النقيض من المجموعة الضابطة، أصبحت الفئران المهزومة أقلَّ تفضيلًا للماء المحلَّى بالسكر، مقابل الماء العادي؛ وهو دليل على تعطل القدرة على المعالجة العصبية للاستمتاع. لم تَظهَر هذه النتائج عندما عمد الباحثون إلى إفقاد تلك الفئران مكانتها أمام فئران أخرى أرفع منها رتبةً، تنتمي إلى قفصٍ آخر؛ وهو ما يدل على أن عدم تَوَقُّع الهزيمة – لا الهزيمة بحد ذاتها – هو ما يُعزى إليه هذا التغيُّر.
تُرى أي دوائر عصبية يمكن أن تكون مسؤولة عن ذلك التغَيُّر؟ تضطلع منطقة في الدماغية، تُعرف بالقشرة قبل الجبهية الوسطى (mPFC)، بمعالجة المعلومات المتعلقة بالمكانة الاجتماعية في الحيوانات على اختلافها7-9؛ ويمكن التحكُّم في نشاط الخلايا العصبية، التي ترسل إشاراتها من داخل هذه المنطقة إلى المهاد التحتي بالمخ، بحيث تُغيِّر السلوكيات المرتبطة بالفوز، والمكانة الاجتماعية للفئران8. في المقابل، ترسل الخلايا العصبية في المهاد التحتي الجانبي إشاراتها إلى منطقة تسمى العنان الجانبي (LHb)؛ وقد وَجَدت فان وفريقها أن تثبيط هذه الدائرة العصبية يَحُول دون ظهور النتائج السلوكية السلبية لتجربة الإجبار على الهزيمة.
من المعروف أن العنان الجانبي هو المركز المضاد للمكافأة؛ وذلك لأنه المسؤول عن الاستجابة للمثيرات المنفِّرة، وللإثابات الهزيلة، أو الأقل من المتوقع10. وقد لاحظ فريق الباحثين أن الهزيمة أمام فأر ذي رتبة أدنى (ولكن ليس أمام فأر ذي رتبة أرفع)، تُنَشِّط الخلايا العصبية في منطقة العنان الجانبي. وما إنْ تَنْشَط خلايا العنان الجانبي حتى تُثبَّط الخلايا المنتِجة للدوبامين، في منطقة تعرف بالمنطقة السقيفية البطنية (VTA)، التي تسهم في معالجة المعلومات الخاصة بالمكافأة10. وهكذا، فمن المُحتمَل أن يكون تثبيط خلايا الدوبامين السبب الكامن وراء ما لاحظته فان وزملاؤها في الفئران التي فقدت مكانتها الاجتماعية، من تراجُع مستوى تفضيلها للماء المُحلّى. لكن يلزم إجراء مزيد من الدراسات للتحقق من صحة هذا التفسير؛ ذلك أن البحث عن المتعة عملية معقدة، ومتعددة الأوجه، بما تنطوي عليه من دافعية، وتلذُّذ، وبناء توقعات دقيقة. ولذا، فالمُنتظَر من الدراسات المستقبلية أيضًا أن تُعنى بتحديد أوجه التمتع التي تتأثر سلبًا بفقد المكانة الاجتماعية.
إضافةً إلى ذلك، وجد الباحثون أن تنشيط الخلايا العصبية في العنان الجانبي يقود إلى تثبيط الخلايا العصبية في القشرة قبل الجبهية الوسطى. وواقع الأمر أن الخلايا العصبية للعنان الجانبي لا تتصل بالقشرة قبل الجبهية الوسطى اتصالًا مباشرًا؛ لكن الباحثين يفترضون أن المنطقة السقيفية البطنية تعمل كنقطة اتصال بين المنطقتين. وهذه الاكتشافات، مجتمعةً، تدلُّ على أن هناك دائرة عصبية تأخذ شكل حلقة، تضم خلايا عصبية من القشرة قبل الجبهية الوسطى، والمهاد التحتي، والعنان الجانبي، وأن هذه الدائرة تنظم ما يخضع لنشاطها من تفاعلات الحراك الاجتماعي، وما يمكن أن ينجم عن تلك التفاعلات من سلوكيات مرتبطة بالاكتئاب.
في مختلف أنواع الحيوان، إذا تكرَّر تعرض الفرد لموقف منفِّر لا يستطيع تجنبه، فإن ذلك يُفقده القدرة على تلافي المواقف المنفرة الأخرى التي يسهُل تجنبها؛ وهو نمط من السلوك يسمى «العجز المكتسَب»11. والجدير بالملاحظة أن تعريض الفئران ذات الرتبة الرفيعة إلى الهزيمة الاضطرارية على مدى أربعة أيام يجعلها تقلل الجهد الذي تبذله لمقاومة الهزيمة؛ ما يشير إلى إصابتها بالعجز المكتسَب أو المتعلَّم. ومن شأن تنشيط القشرة قبل الجبهية الوسطى أن يساعد على حماية الفئران من العجز المكتسَب. وقد وجدت فان وفريقها أن مثل هذا التنشيط يحمي الحيوانات أيضًا من التأثيرات الضارة المصاحبة لفقد المكانة الاجتماعية. وهكذا، فلا يبعُد أن تكون الظاهرتان محكومتين بدوائر عصبية متشابهة.
بيد أن هذا التشابه يلفت النظر، كذلك، إلى أحد أوجه القصور الأساسية في دراسة فان وزملائها؛ وهو أن الدراسة لم تشمل إناث الفئران. كانت دراسة سابقة قد بينت أنه عندما تُتاح للجرذان فرصة إيقاف مثير منفِّر لا مهرب منه، فإن خلاياها العصبية بالقشرة قبل الجبهية الوسطى تنشَط في الذكور دون الإناث (ومن ثم، فإن تلك الخلايا تمنع تطور العجز المكتسَب في الذكور فقط)13. وفي هذا الاكتشاف إشارة إلى إمكانية أن يكون فقدان المكانة الاجتماعية مرتبطًا بدوائر عصبية تختلف في ذكور الفئران عنها في الإناث، مع ما يستتبعه ذلك من سلوكيات متباينة بين الجنسين. وهي نقطة حبَّذا لو تعمل الدراسات القادمة على إجلائها.
غالبًا ما تؤدي الاختبارات المصمَّمَة على النحو الذي يحفِّز لدى القوارض شعورًا مزمنًا بالضغط (مثل تكرار مواجهة فرد معادٍ) إلى خفض الرتبة الاجتماعية3، والتأثير في تفضيلها الماء المحلَّى15،14؛ لكن العلاقة بين الخبرات الضاغطة ومعالجة المخ للمكافأة ما زالت غير واضحة. والنتائج التي خلُصَت إليها فان وزملاؤها، المتمثلة في أن فقد المكانة يؤثر في الدائرة العصبية التي تقف وراء سلوك البحث عن التمتع، تشير إلى أن الضغوط المزمنة تصنع صنيعها من خلال دوائر عصبية مماثلة. والنجاح في رد العدوان عند ملاقاة فرد معتدٍ يترتب عليه تنشيط الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين16، وينبئ بالقدرة على تحمل النتائج السلبية التي يُخَلِّفها الضغط المزمن17. ولما كان الأمر كذلك، فيمكن أن تكون هذه الحالة من إنتاج الدوبامين تعويضًا عن تثبيط خلايا الدوبامين بفعل نشاط العنان الجانبي، الذي ينجم عن الإذعان، بحسب ما ورد في الدراسة موضع النظر.
ولعلَّ من أكثر الاكتشافات التي تسترعي الانتباه في دراسة فان وزملائها، أن ما يحدث في الفئران التي تفقد مكانتها الاجتماعية، ورغبتها في السعي إلى التمتع، من تنشيط للقشرة قبل الجبهية الوسطى، لضمان أن تنتصر تلك الحيوانات مرة أخرى عند اختبارها، يؤدي إلى استعادة تلك الفئران مكانتها الاجتماعية، وعودتها إلى تفضيل الماء المحلَّى. يحمل هذا الاكتشاف، ضمنيًّا، إمكانية الاسترشاد به في المستقبل، لتطوير علاجات للاكتئاب. يُذكر أن أحد العلاجات المتاحة حاليًا يعمل على جدولة الأنشطة المرتبطة بالتمتع جدولةً فعَّالة18، إذ يُطلَب فيها من المشاركين أن يُقَيِّموا مستوى التمتع الذي يتوقعونه من ممارسة نشاط معين، ثم ينخرطوا في النشاط، قبل أن يُطلب منهم تقييم مستوى ما حصلوا عليه بالفعل من متعة. يُعتقَد أن ذلك العلاج يعمل من خلال التعزيز الإيجابي للسلوكيات التي تحفز تحسين المزاج. غير أن دراسة فان وزملائها تشير إلى إمكانية أن تكون هذه الطريقة العلاجية معتمدةً على إشعار الفرد بأن الخبرة التي اجتازها كانت ممتعة على نحو غير متوقع. يمكن اختبار هذه الفرضية إكلينيكيًّا، وإذا ثبتت صحتها، فمن الممكن توجيه الممارسة الإكلينيكية نحو اختيار الأنشطة التي يَثبُت أنها ممتعة بشكل غير متوقع. من هنا، تتضح إمكانية الاعتماد على دراسات الدوائر العصبية الدماغية لدى الفئران في توجيه عمليات تطوير العلاجات.
ألكساندر ز. هاريس: باحث في قسم التحليل النفسي بكلية الأطباء والجراحين، جامعة كولومبيا، نيويورك 10032، بولاية نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. ويعمل أيضًا في قسم أنظمة علوم الأعصاب، بمعهد ولاية نيويورك للتحليل النفسي، في نيويورك.
نانسي باديلا-كوريانو: باحثة بقسم علوم الأعصاب في كلية طب جامعة فلوريدا، جينسفيل، فلوريدا 32610، الولايات المتحدة الأمريكية.
البريد الإلكتروني:
ah2835@cucmc.columbia.edu
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.8
1. Nicklett, E. J. & Burgard, S. A. Am. J. Epidemiol. 170, 793–801 (2009).
2. Nakajo, H., Tsuboi, T. & Okamoto, H. Neurosci. Res. 161, 24–32 (2020).
3. Willner, P., D’Aquila, P. S., Coventry, T. & Brain, P. J. Psychopharmacol. 9, 207–213 (1995).
4. Shively, C. A. Biol. Psychiatry 44, 882–891 (1998).
5. Fan, Z. et al. Cell 186, 560–576 (2023).
6. Wang, F. et al. Science 334, 693–697 (2011).
7. Zhou, T. et al. Science 357, 162–168 (2017).
8. Padilla-Coreano, N. et al. Nature 603, 667–671 (2022).
9. Ligneul, R., Obeso, I., Ruff, C. C. & Dreher, J.-C. Curr. Biol. 26, 3107–3115 (2016).
10. Hu, H., Cui, Y. & Yang, Y. Nature Rev. Neurosci. 21, 277–295 (2020).
11. Maier, S. F. & Seligman, M. E. P. Psychol. Rev. 123, 349–367 (2016).
12. Amat, J. et al. Nature Neurosci. 8, 365–371 (2005).
13. Baratta, M. V. et al. Brain Struct. Funct. 224, 1831–1843 (2019).
14. Berton, O. et al. Science 311, 864–868 (2006).
15. Harris, A. Z. et al. Neuropsychopharmacology 43, 1276–1283 (2018).
16. Willmore, L., Cameron, C., Yang, J., Witten, I. B. & Falkner, A. L. Nature 611, 124–132 (2022).
17. Wood, S. K., Walker, H. E., Valentino, R. J. & Bhatnagar, S. Endocrinology 151, 1795–1805 (2010).
18. Stein, A. T., Carl, E., Cuijpers, P., Karyotaki, E. & Smits, J. A. J. Psychol. Med. 51, 1491–1504 (2021).
تواصل معنا: