أخبار

ممارسة العمل العلمي بلغة غير لغتك الأم: الفرص والتحديات

نشرت بتاريخ 28 نوفمبر 2024

كتب راهول روي: بوصفي طالبًا مغتربًا، تُتاح لي فرصة التعبير عن نفسي بطُرق جديدة، إلا أن تجنُب التحدُّث بلُغتي الأم قد يُشعرني بشيءٍ من العُزلة أحيانًا.

راهول رُوي

Credit: MirageC/Getty

عندما وصلتُ إلى الولايات المُتحدة طالبًا أجنبيًا وافدًا من الهند، سرعان ما اصطدمت بالتحدي الكبير المتمثل في تعلُم التواصل الفعّال باللغة الإنجليزية. قبل قدومي إلى الولايات المتحدة، كنت زميلًا باحثًا بالمعهد الهندي للتكنولوجيا في دلهي، الواقع في العاصمة الهندية نيودلهي، والبنغالية هي لغتي الأم، بالإضافة إلى طلاقتي في اللغة الهندية ولغة أخرى شائعة هي لغة التيلوجو.

تلقّيت تعليمي بالإنجليزية منذ مرحلة ما قبل المدرسة، مرورًا بجميع المراحل الدراسية. ورغم طلاقتي في هذه اللغة، يظل التواصل مع أهلها وناطقيها الأصليين تحديًا يواجهني في بعض الأحيان. وتعُوزني أحيانًا الثقة في التعامل مع ما يجري على ألسنتهم من مُصطلحات مُتخصصة وعبارات اصطلاحية وتلميحات ثقافية.

ولأنني الآن باحث دراسات عليا، أدرس السمات البيولوجية للحمض النووي الريبي (RNA) بجامعة ييل في نيو هيفن بولاية كونيتيكت الأمريكية، فإن التحدي الذي أواجهه لا يقتصر على إتقان المُصطلحات المُتخصصة فحسب، وإنما يمتد ليشمل أيضًا التعبير عن نفسي بلغةٍ تبدو لي غريبةً في السياقات الاجتماعية والمهنية. وهذا العائق اللغوي يمكن أن يكون بمثابة جدار غير مرئي يحُول — ولو قليلًا — بيني وبين الآخرين. وهذا يُورثني شعورًا بأنني مُدَّعٍ أو مُحتال: أخشى أن أتفوَّه بشيء غير مناسب، أو أن أعجز عن التعبير عن أفكاري تعبيرًا وافيًا.

كثيرًا ما يبدو لي التحدث أمام جمعٍ من الناس — سواءٌ أكان ذلك في اجتماعات المختبر مع الزملاء، أو لدى تقديم أبحاثي في المؤتمرات، أو عند إلقاء المحاضرات على الطلاب الزائرين خلال الدورات الصيفية — أشبه بالمشي على حبل مشدود. أعصر عقلي بحثًا عن الكلمات المناسبة، ثم إذا بي أبقى طويلًا بعدها أسترجع تلك اللحظات المُحرِجة. يُلجئني ذلك أحيانًا إلى التردد قبل التحدث، أو الإحجام عنه، حتى عندما تكون لديَّ أفكار قيمة أودُّ المشاركة بها. إلا أن هذه اللحظات علمتني أهمية التمَهُّل: فقد تبدَّى لي كيف أن تعلُم التعامُل مع تحدي التعبير عن الأفكار المُعقدة، بينما أحاول في الوقت نفسه التوفيق بين اللغات، عملية دائمة التطور بالنسبة لي كباحث.

التجارب العلمية لا تعتد باختلاف اللكنات

للتحفُظ فوائده، إذ يساعدني على الانعزال داخل فقاعتي، حيث تنحسر ضوضاء العالم الخارجي، ولا يتبقى سوى العمل. في بعض الأوقات، يكون المُختبر ملاذًا؛ مكانًا لا يتطلب مهارات لغوية مثالية: ذلك أنَّ التجارب لا لكنة لها، وسحّاحات المختبر لا تأبه للمُفردات.

هنالك أجد راحتي، بل — إن جازَ القول — وفصاحتي.

لُغتي الأم هي اللغة التي ألجأ إليها أكثر من غيرها عندما تغمرني موجة مُفاجئة من الإبداع أو الابتكار في حل المشكلات؛ ففي أغلب الأحيان، أجد أنني أفكر بقدرٍ أكبر من الوضوح وصفاء الذهن حين أفكر بها. البقاء في أماكن هادئة، بعيدًا عن ضغط التحدث بالإنجليزية، يسمح لذهني بصياغة الحلول بوضوح وتركيز. في مثل هذه اللحظات أشعر كما لو أنني أمنح أفكاري مساحة للتنفس، متحررةً من قيود الترجمة.

هذا لا يغضُّ من إيجابيات إجادة أكثر من لغة، بطبيعة الحال. وعلى رأس هذه الإيجابيات، ذلك الإحساس العميق بالتآزر الذي ينشأ ويتعزَّز بين الأقران في المختبر، ممَّن يتخذون الإنجليزية لغةً ثانية؛ إذ غالبًا ما يميل هؤلاء إلى التقارب فيما بينهم، مما يوثِّق بينهم أواصر المودة. وفي مختبرنا، الذي يضم 25 باحثًا، أهل اللغة الإنجليزية قِلّة، والبقية طلاب أجانب. قد نتلعثم أثناء الحديث، لكننا نفهم معاناة بعضنا. وبالعثور على ما بيننا من قواسم مشتركة، نتعاون معًا على إجراء التجارب واستكشاف الأفكار، بل ويُتاح لنا أحيانًا أن نتضاحك معًا من إحباطاتنا المُشتركة.

ومع ذلك، ما زال شعور العزلة يدهمُني في غير قليل من الأوقات، لا لكوني بعيدًا عن وطني فحسب، وإنما لأنني أعيش بين عالَمين لغويين: أكون في أحدهما واثقًا وقادرًا على التعبير وغزير الأفكار، وأكون في الآخر شخصًا انطوائيًا، خائفًا من التعثر في الكلام، أو فهم العبارات التي تحمل تلميحات ثقافية على غير وجهها. أن تتحدَّث أكثر من لغة يُشبه أحيانًا أن تكون لك أكثر من شخصية: لكلِّ شخصية لغة، ولكلٍّ مناقب ومثالب. أكون لبيبًا طَلِقًا حين أتحدث بلغتي الأصلية، ثم تستحيل هذه الطلاقة إلى خجلٍ وتحفُّظ حين أتحوَّل إلى الإنجليزية.

على أنني أُدرك أن رحلتي في مضمار العلوم وأنا أجيدُ أكثر من لغة لم تشكِّل حياتي المهنية فحسب، بل شكَّلت شخصيتي أيضًا. بفضل محاولات التوفيق بين اللغات هذه، أصبحتُ أكثر تعاطفًا مع الغير، وأقدر على التكيُّف، واكتسبتُ مهارات حل المشكلات بطريقة إبداعية؛ وهي خصالٌ أثيرة عندي، لا أعدِلُ بها شيئًا، مهما يكن. وأقول لمن يمرون بتجربة مُماثلة: لا تنظروا إلى أصولكم المختلفة على أنها عائق، بل انظروا إلى هذا الاختلاف بوصفه أساسًا فريدًا يُمَكِنكم من التفكير السليم والمُساهمة الفعَّالة.

أتحدث أكثر من لغة.. وأعتز بذلكنشأتي في بلدة صغيرة في جنوب الهند جعلَتْني أتساءل مرةً عما إن كنتُ سأشعر بالانتماء في مكانٍ مثل جامعة ييل. لكن الواقع هو أن كل تحدٍ واجهته خلال مسيرتي علّمني أن خلفياتنا المختلفة ليست عائقًا، وإنما هي أدوات قوية تُشكل تصوراتنا. وتعلمت أن الاعتزاز بإجادتي أكثر من لغة يتيح لي المُساهمة في المُجتمع العلمي بطريقة فريدة.

ولمن يُزمع الخوض في رحلة مُشابِهة، أقول: بغضِّ النظر عن مكان نشأتك، أو اللغة التي تتحدثها، فإن تجربتك تهبُك نقاط قوة متميزة. فإجادتك أكثر من لغة تُعدُّ بمثابة قوة خارقة، تمكنك من إقامة الجسور بين العوالم والأفكار. وقد تبيَّنتُ بنفسي كيف أن هذا يمنحني أدوات للتفكير النقدي الإبداعي، على نحوٍ قد لا يكون متاحًا للآخرين.

أذكر، مثلًا، أنني وزملائي كنا منهمكين في العمل على تجربة صعبة للغاية، نحاول تفسير بعض الأنماط المُعقدة في البيانات، وكانت المنهجيات المُعتادة لا تفضي بنا إلى نتائج واضحة. فما كان منِّي إلا أن ترجمتُ المسألة في ذهني إلى لُغتي الأم، وحاولتُ تفكيكها إلى مفردات ومفاهيم آلفُها. وإذا بهذه العملية تكشف عن مُتغير كان يؤثر في نتائجنا، ولم نلتفت إليه. وعندما أخبرتُ زملائي عن هذا الاكتشاف، عدّلنا منهجيتنا تبعًا لذلك، مما فتح سُبلًا جديدة لبحثنا، وأدى بنا إلى تحقيق نتائج مُثمرة. في تلك اللحظة أدركتُ كيف أن التفكير بلُغتي الأم يمكن أن يحل المُشكلات التي تبدو عصيةً على الحل.

إذًا، هل تحدُّثك لغتين أو أكثر يمثل عائقًا في مجال العلوم؟ قطعًا، لا. إنما هو مَلَكة مميَّزة، ستتعلم كيف تحذقها بمرور الوقت، ومهارة جديرةٌ أن تجعل رحلتك متفردة، ولا تزيد كلما مضيتَ فيها إلا تفرُّدًا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.327