رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 20 نوفمبر 2024
دراسة ضخمة نشرتها مجلة Nature أثارت تساؤلًا حول ما إذا كانت المجلدات البحثية كثيفة البيانات يمكن أن تظل قابلة للاستيعاب والفهم.
لفتت دراسة بحثية طويلة ومعقدة أكثر من المعتاد انتباه المجتمع العلمي، إذ أثارت تساؤلات حول الحجم المثالي للدراسات البحثية عمومًا. الدراسة المذكورة التي أجراها اختصاصي علم الأحياء الحاسوبي مانوليس كيليس وفريقه البحثي نُشرت في مجلة Nature1 في شهر يوليو. تتألف الدراسة من 35 صفحة ويزيد عدد كلماتها على 20 ألفًا، كما تتضمن 16 شكلًا توضيحيًا؛ أو 61، إذا أخذنا بالحسبان الأشكال الموجودة في المعلومات الإضافية. وتسلط الدراسة الضوء على التغيرات التي تعتري الجينات والمسارات الخلوية وأنواع الخلايا لدى الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر عبر ست مناطق من الدماغ، كما تشتمل على أطلس تفصيلي للتعبير الجيني.
عندما عرض كيليس، الذي يدير مختبرًا لعلم الأحياء الحاسوبي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج، تلك الدراسة على منصة X (تويتر سابقًا)، تباينت آراء زملائه حول حجمها فيما يبدو. فقد كان البعض مجاملًا إذ قال أحدهم: "لا بد أن إنجاز هذه الدراسة استغرق الكثير من الجهد والموارد، لذا فهي في المجمل ورقة بحثية رائعة". وعبَّر البعض الآخر عن قلقه بشأن جدواها؛ فتساءل زميل آخر: "كيف يتسنى لأي شخص قراءة هذه المقالة، فضلًا عن مراجعته لها مراجعة نقدية؟"
في عام 2023، نُشر تحليل لسمات الدراسات البحثية عبر مختلف المجالات العلمية2، وهو يُوحي بأن هذه الدراسة مخالفة للحجم المتعارف عليه في العلوم الطبية والصحية، إذ تشتمل الدراسات في هذا المجال عادةً على نحو 10 صفحات. ومع ذلك، لا نشعر بكثير من الدهشة عند مقارنة هذه الدراسة بدراسات بحثية في مجالات مثل الرياضيات أو القانون أو العلوم الإنسانية إذ غالبًا ما تتجاوز الواحدة منها 20 صفحة.
تثير دراسة كيليس تساؤلات حول مدى ضرورة أن تكون الدراسات البحثية ميسورة وسهلة الفهم، وإلى أي مدى يستطيع القراء في الدوائر الأكاديمية وخارجها استيعابها. على سبيل المثال، هل من الأفضل نشر مجموعات بيانات ضخمة جنبًا إلى جنب مع دراسة بحثية طويلة وكثيفة، لإتاحة المعلومات في مكان واحد؟ أم هل يجب على الباحثين التركيز على موضوعات بحثية محددة ونشر نتائجهم في دراسات عديدة؟
يعتقد عليرضا حقيقي، عالم الوراثة في كلية الطب من جامعة هارفرد في بوسطن بولاية ماساتشوستس، أن النهج الأول تتجلى أهميته عندما تزداد مجموعات البيانات ضخامة، إذ يقول: "صحيح أن الإيجاز عادةً ما كان مهمًا في المطبوعات، لكن يجب علينا أن نعترف بتعقيد الأساليب الجديدة والكميات الهائلة من البيانات التي نشهدها اليوم. إذ يستحيل أن تتسم جميع الأوراق البحثية بقابلية فهمها في ساعة واحدة، وليس من الضرورة أن تتسم بذلك".
هل حجم الدراسة مهم؟
يقول حقيقي إن الدراسات البحثية التي تقدم نظرة عامة شاملة وتفصيلية ومجموعات بيانات كثيفة وضخمة — والتي يُطلق عليها أحيانًا اسم «الأطالس» في علوم الجينوم والنسخ والبروتيوميات — تتيح للباحثين إمكان رؤية الصورة الكبرى. فيتسنى للقراء عبر هذه الدراسات "تحديد الروابط التي تصل بين مجالات مختلفة، وتكوين فرضيات جديدة". ويعتقد حقيقي أن الدراسات الطويلة تحفز الابتكار، الذي من شأنه أن يرشد خطى مبادرات بحثية واسعة النطاق ومتكاملة على نحو أفضل بالمقارنة مع الدراسات الموجزة.
وردًا على نقاش دائر على منصة X، قال كيليس إنه يفهم أن دراسته المختبرية ربما تصعب على بعض الناس لطولها وتعقيدها. وشبَّه العمل بـ "كتاب جيد يحتوي على العديد من الفصول والكثير من الصفحات"، وقال إن "كل فقرة، وقوس، ومقطع تخطيطي، وشكل إضافي، يمكن أن ينطوي على تلميحات وأسرار محتملة ربما لم ينتبه إليها مؤلفو الدراسة أنفسهم". وأشار كيليس أيضًا أنه بمقدور أولئك الذين أربكتهم النتائج لطولها وتعقيدها الاستعانة بأدوات مثل تطبيق «تشات جي بي تي كونسنسس»، الذي يُعد بمثابة محرك بحث أكاديمي، إذ سيكون مفيدًا في تلخيص نتائج الدراسة.
أخبرت لي هوي تساي، اختصاصية علم الأعصاب من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهي مؤلفة مراسلة في الدراسة، مراسلي مؤشر «نيتشر» Nature Index أنها فخورة بذلك العمل البحثي الذي "أثمر عن رؤى كاشفة مهمة حول الأسس الجينومية لاحتمالية إصابة الأفراد بمرض ألزهايمر وحول عوامل الوقاية من هذا المرض". ولم يستجب كيليس لطلب مؤشر «نيتشر» منه الإدلاء بتعليقه.
أوضح الباحثون الذين تحدثوا إلى مؤشر «نيتشر» عددًا من المشكلات المتعلقة بالمقالات الضخمة كثيفة البيانات. على سبيل المثال، لوك دابين، اختصاصي علم ما فوق الجينات في كلية الطب بجامعة إنديانا في إنديانابوليس، "يعشق" مجموعات البيانات الضخمة والمجلدات البحثية الكبيرة، لأنها يمكن أن تهيئ بيئة مواتية لتكوين الفرضيات كما يمكن أن تفيد في تصميم التجارب المستقبلية. لكن دابين يشير إلى أنه من الوارد أن نجد مشقة في فهم الدراسات الكبيرة واستيعابها في بعض الأحيان — ولا يُستثنى من ذلك العلماء العاملون في المجال نفسه — وربما تواجه تلك الدراسات مشكلات في ما يتعلق بضبط الجودة. فيقول دابين: "تشتمل دراسة كيليس على 475 مقطعًا تخطيطيًا وأجد شخصيًا صعوبة في استيعابها، فكيف بحال من ليس لديه تدريب أو خبرة في علم الخلية المفردة". ويوافقه حقيقي الرأي في أن الدقة يمكن أن تصبح مشكلة في الدراسات الكبيرة، إذ يقول: "علينا أن ندرك أن المجلدات البحثية أكثر عرضة لعدم الدقة بسبب اتساع نطاقها وكثرة تعقيداتها".
كما يمكن أن يمثل نشر مثل هذه الدراسات عبئًا على الموارد بالنسبة إلى محرري الدوريات. فقد استغرق الأمر قرابة عامين حتى ترتقي دراسة كيليس من مرحلة القبول إلى مرحلة النشر، وإن كان من المحتمل أنها لم تخضع للمراجعة طوال هذا الوقت. وأشار متحدث باسم مجلة Nature إلى أن "المدة التي تُستغرَق في مراجعة الدراسات المقدمة إلى المجلة تتباين تباينًا كبيرًا من مخطوطة إلى أخرى"، وقال إن تركيز المجلة الأساسي ينصب على "ضمان إجراء مراجعة دقيقة من جانب الأقران". (المحتوى الإخباري والإضافي في مؤشر «نيتشر» مستقل تحريريًا عن ناشره «سبرينجر نيتشر» Springer Nature).
أوضح كيليس على منصة X أن "المراجعين والمحررين، مثلما كان الحال بالطبع مع المؤلفين، بذلوا جهودًا شاقة تضمنت مراجعةً لكل شكل وكل مقطع تخطيطي وكل نتيجة" بوصف ذلك جزءًا من عملية النشر.
هل هناك ما يدعو للإيجاز؟
يرى بعض الباحثين أنه ببساطة لا يوجد وقت كافٍ لقراءة الدراسات الطويلة كثيفة البيانات. يقول دانييل برايس، عالم الفيزياء الفلكية من جامعة موناش في ملبورن بأستراليا: "عدد القراء في معظم الدراسات الأكاديمية منخفض على أية حال، لذا فإن كتابة دراسة طويلة ليست سوى دعوة لعدم قراءتها". تجدر الإشارة إلى أن برايس يشغل أيضًا منصب رئيس التحرير السابق لدورية «ببليكيشنز أوف ذي أسترونوميكال سوسياتي أوف أستراليا» Publications of the Astronomical Society of Australia التي تنشر أبحاثًا تتناول موضوعات كثيفة البيانات مثل النمذجة وعلم الفلك الحاسوبي.
يستبعد برايس أن يكون أحد قد استكمل قراءة إحدى دراساته الضخمة في الفيزياء الفلكية3، وهي دراسة تتألف من 82 صفحة وتشتمل على 57 شكلًا، ويصف دراسته هذه بأنها: "أطول من اللازم دون شك"، معترفًا أنه كان يسهل عليه الاكتفاء بعدد 60 صفحة بدلًا من ذلك. ويضيف أن المشكلة في الإطالة أن الدراسة تصبح "غير محكمة" كما تتأثر قدرة المؤلف على تحريرها بنفسه سلبًا.
يرى حقيقي أنه يمكن إدخال بعض التحسينات على الدراسات الطويلة المزدحمة بالبيانات. ويقترح أن يوحِّد الناشرون طريقة تنسيق هذه الدراسات وطريقة نشرها عن طريق وضع إرشادات تحريرية جديدة وتنفيذ "عملية مراجعة دينامية مستمرة" تسمح للمؤلفين بتحديث عملهم البحثي بانتظام بمرور الوقت، بعد النشر. ويقول حقيقي: "أعلم أن هذا الإجراء ربما لا يكون سهلًا"، لكنه "سيجعل عملية المراجعة أكثر فعالية ويضفي المزيد من النظام على خطاها، كما سيُسهِّل الأمر على المجتمع العلمي".
غالبًا ما تحبذ إرشادات التنسيق في معظم الدوريات والمجلات الكبرى المقالات القصيرة التي تشتمل على عدد أقل من الأشكال. على سبيل المثال، تقترح مجلة Nature أن الحجم النموذجي لدراسة بحثية في مجال العلوم البيولوجية والإكلينيكية والاجتماعية يجب ألا يتجاوز يتجاوز 8 صفحات، أو 4300 كلمة، و5-6 أشكال. ومع ذلك، فإنها لا تفرض قيودًا محددة، بل تترك هذا الأمر لتقدير المحرر.
في الفيزياء الفلكية، وهو مجال يمتاز بمجموعات بيانات ضخمة غالبًا ما تخضع للتحليل من جانب فرق دولية كبيرة، هناك بعض الأمثلة التي توضح كيفية تقسيم نتائج الدراسة إلى أجزاء يسهل استيعابها. فمثلًا، بعد التقاط الصورة الأولى لثقب أسود بواسطة مجموعة تلسكوبات «أفق الحدث» — وهي شبكة عالمية من التلسكوبات الراديوية تديرها مجموعة تضم أكثر من 300 عالم — نشر الفريق 6 دراسات بحثية في طبعة خاصة من مجلة «ذي أستروفيزيكال جورنال ليترز» The Astrophysical Journal Letters. وقد عرضت كل دراسة منها جانبًا من جوانب البحث، وتناولت المنهجية، والسمات المميزة للثقب الأسود والصورة نفسها.
يعتقد برايس أن مجموعة دراسات مثل هذه هي "بالتأكيد فكرة أفضل" من دراسة واحدة طويلة، ويضيف أن هناك الكثير من الحجج المؤيدة لأفضلية الدراسات الموجزة. فيشير إلى دراسة نشرتها مجموعة التعاون العلمي4 التابعة لمرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري (LIGO) في عام 2016 — وهو تكتل يضم أكثر من 100 مؤسسة تتعاون في البحث عن الموجات الثقالية — بعد اكتشافها الرائد للموجات الثقالية باستخدام أدوات وأجهزة في واشنطن ولويزيانا. ويقول برايس إن هذه الدراسة: "تألفت من 8 صفحات [10، بما يشمل المراجع] وأحدثت ثورة في مجال الفيزياء الفلكية".
المحتوى الإخباري والإضافي في مؤشر «نيتشر» مستقل تحريريًا عن ناشره «سبرينجر نيتشر» Springer Nature. لمزيد من المعلومات عن مؤشر «نيتشر»، راجع الصفحة الرئيسية.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.324
تواصل معنا: