رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 12 نوفمبر 2024
في إطار علاقة قويمة تربطني بالمجتمع العلمي، تحملت المسؤولية على خطأي، لكنني أدركت أيضًا أن مؤلفي الأوراق البحثية التي تتصدى للتعقيب على الانتقادات الموجهة لأطروحاتهم، يحتاجون إلى مزيد الدعم.
بوصفي خبيرًا إحصائيًا يتمتع بخبرة تمتد إلى 20 عامًا في مجال دراسة النظم الإيكولوجية، واجهت مؤخرًا لحظة عصيبة. في أغسطس الماضي، نشر زملاء في كندا ورقة بحثية تعليقًا 1 على أطروحة كنت قد شاركت في تأليفها قبل عقد مضى، برهنت على أن المنهجية التي استخدمتها أنا والمؤلفين المشاركين لهذه الأطروحة يشوبها خطأ جوهري.
تتمثل هذه المنهجية في نموذج إحصائي 2 يدمج بين بيانات الأنواع وعدد من مصادر البيانات حول أفراد الحيوانات، بهدف الوصول إلى تقديرات أكثر دقة لوفرة الأنواع الحيوانية في بيئة معينة. ويحمل هذا أهمية، بالنظر إلى أن موثوقية التقديرات حول وفرة الأنواع تُعد ضرورية لإرشاد جهود السيطرة على أعدادها، من أجل حماية المعرض منها لخطر الانقراض، وتحديد الحصص المسموح بها من صيد الحيوانات، ومراقبة انتشار الأنواع الدخيلة على بيئات غير بيئتها. إذ قد تفضي التقديرات الخاطئة أو التي يشوبها انحياز إلى هدر موارد وتسفر عن استراتيجيات غير مستنيرة في إدارة الأنواع.
على سبيل المثال، تخيل أنك تدير محمية تنظم عمليات الصيد بها، وتؤوي تحديدًا ألفًا من طيور الصيد. إذا قُدرت النسبة المسموح بصيدها من إجمالي هذه المجموعة من الطيور بـ20%، وغالى نموذج إحصائي في تقدير أعداد هذه الطيور بواقع 10%، ليقدر أن عددها 1100 طائر، نكون قد خولنا بصيد عدد أكبر من حصة الصيد المنظم المفروضة بواقع 20 طائرًا.
جاك توماس من جامعة فيكتوريا الكندية، وسايمون بونر من جامعة ويسترن إن لندن في كندا، ولورا كاوِن من جامعة فيكتوريا، أثبتوا جميعًا أن النموذج الذي طوَّرناه يفعل العكس؛ أي إن منهجيته تبخس تقدير وفرة أعداد الحيوانات. ويُعزى ذلك بالدرجة الأولى إلى أننا لم نضع في الحسبان آليات انتشار الحيوانات خلال استقصائنا. فعند انتشار الحيوانات ببطء، أو استيطانها لموائل صغيرة النطاق، قد تُرصد في موقع واحد فقط على مدى كل فترة جمع عينات، وهو ما قد يسفر عن تقدير أعدادها بأقل من وفرتها الحقيقية. وعلى العكس، عند انتشارها سريعًا أو استيطانها لموائل واسعة النطاق، يمكن رصدها في مواقع عدة، وهو ما قد يُحرف دقة البيانات. لاتيشيا بلانك، وهي المؤلفة الرئيسة لورقتنا البحثية، كانت آنذاك مرشحة لنيل درجة الدكتوراة، لكنها غادرت منذ ذلك الحين الأوساط الأكاديمية لتعمل معلمة تدرِّس المرحلة الثانوية. وهي لا تتحمل أدنى مسؤولية على الخطأ الذي شاب منهجيتنا، وكذلك لا يتحمله أي من المؤلفين المشاركين في الدراسة. بصفتي الإحصائي في فريقنا البحثي، والمؤلف الأول للورقة البحثية، أرى أن هذا الخطأ مسؤوليتي أنا وحدي.
توقيت مزعج
تلقيت نبأ دحض ورقتنا البحثية في وقت متأخر من الليل، قبل وقت قصير من موعد خلودي إلى النوم. بعث لي فريدولين زيمرمان، اختصاصي بيولوجيا الأحياء البرية من مؤسسة «كورا» KORA لحماية البيئة، في مدينة إيتيجن السويسرية، وهو مؤلف مشارك في ورقتنا البحثية برابط يؤدي إلى التعليق الصادر حديثًا على الورقة البحثية، وفي البداية حاولت تجاهل الأمر والخلود إلى النوم، لكنني عجزت عن ذلك. فنهضت من فراشي، وأدرت حاسوبي المحمول وشرعت في قراءة التعليق. وسرعان ما أدركت أن مؤلفي الورقة البحثية كانوا محقين بشأن الأخطاء في ورقتنا البحثية.
اجتاحني خليط من المشاعر، وتتابع على ذهني فيض من الأسئلة في تلك الساعة المتأخرة من الليل: لِم لم أتنبه إلى تلك المشكلة؟ ماذا عساي أن أخبر بقية أفراد فريقي البحثي؟ هل استُخدم النموذج بالفعل لإرشاد خطى استراتيجيات حفاظ على البيئة؟ ماذا لو أنني جانبت الصواب في كل أفكاري البحثية السابقة والقادمة؟ ماذا سيكون انطباع المجتمع البحثي عني؟
بحثًا عما ينتزعني من براثن تلك الأفكار، قررت البوح بتجربتي في مواجهة تلك المسألة.
فكان أول ما بادرت بفعله هو مراسلة مؤلفي أطروحة التعليق البحثي، وتهنئتهم على ورقتهم البحثية. كذلك أعربت عن دهشتي من عدم إخطاري بموضوع الورقة البحثية قبل نشرها. وقد اعتذر فريقهم البحثي عن إغفال إشراكي في المسألة. ولا أحمل لهم أية ضغائن. إذ أقدر لهم الوقوف على أخطائي وتكريسهم وقتًا لشرحها وتفنيدها في أطروحتهم. ويُنسب لهم الفضل في تصحيح السجلات العلمية في هذا الإطار، ولهذا، أدين لهم ببالغ الامتنان.
أما خطوتي الثانية، فكانت الإعلان عن أطروحة التعليق البحثي الصادرة حديثًا، وعن دلالتها فيما يخص ورقتنا البحثية السابقة في منشور قصير على منصة «إكس» X. وقد جاء تعقيب المجتمع البحثي المعني بالدراسات البيئية إيجابيًا، ما أثلج صدري، وأشعرني بالرضا عنا كفريق بحثي. كذلك حظيت بتأييد ودعم كبير من جانب المؤلفين المشاركين في ورقتنا البحثية.
وفيما يلي بعض النصائح التي أوجهها لمن يجدون أنفسهم في موقف مماثل.
تحل بنظرة موضوعية
يواجه المرء صعوبة حقيقية في مواجهة موقف مليء بالتحديات كهذا، ويرجح أن الباحثين في مقتبل مسيرتهم المهنية يواجهون فيه صعوبة أكبر من تلك التي يجدها الباحثون الأقدم خبرة. وأعتقد أن الحل يكمن في عدم أخذ الأمر على محمل شخصي. أواجه صعوبة أقل كثيرًا من غيري في موقف كهذا، لأنني وطدت بالفعل أقدامي في مسيرتي المهنية، ولأنني واجهت الفشل قبلًا، وصنعت على الناحية الأخرى إنجازات مقابلة.
قبل عشرين عامًا، في الوقت الذي كنت قد أنهيت فيه لتوي دراساتي لمرحلة الدكتوراة، كنت لآخذ أمرًا كهذا على محمل شخصي. ليتني أدركت مبكرًا في شبابي كباحث أن أهم ما قد يؤسس له المرء في وقت مبكر من حياته المهنية، وأهم مقياس دائم لتطوره على الصعيد الشخصي والمهني، هو التوازن بين العمل والحياة الشخصية. فمن السهل أن تمتصك دوامة العمل إن كان يستهويك، أو إن حاصرتك الضغوط في سبيل النجاح أو الحصول على منصب دائم.
الأخطاء العلمية مزعجة، لكنها في نهاية المطاف، تبقى جزءًا من العمل، والتحلي بالموضوعية قد يجعلك أقدر على السيطرة على الانتكاسات. تحيط بي دائرة بحثية من الزملاء الذين بإمكاني الالتجاء إليهم لمحادثتهم، لا سيما عند مواجهة أخطائي، ولهذا أنا ممتن. وإجمالًا، أعتقد أننا إذا بدأنا كباحثين في التحدث بصراحة أكبر عن سقطاتنا، سيغدو من الأسهل لنا التعامل معها معًا، كمجتمع بحثي. وبهذا، يمكننا إصلاح الأخطاء دون تبادل الاتهامات.
الحل يكمن في الشفافية والبراهين
في ورقتنا البحثية الأصلية، أتحت أنا وزملائي المؤلفين المشاركين في الورقة الأكواد البرمجية التي استخدمناها، ما سمح لزملاء آخرين بالتثبُت من نتائجنا (التي شابها خطأ). وهذا يؤكد على أهمية شفافية الأبحاث وإتاحة التثبُت منها. أستخدم في أبحاثي عادة لغة الترميز البرمجية «آر ماركداون» R Markdown لكتابة النصوص، بالإضافة إلى برنامج «لاتكس» لكتابة المعادلات، وأحلل البيانات في وثيقة للتثبُت من النتائج. كما أستخدم منصة « جِت/جت هَب » Git/GitHub لمتابعة التعديلات على تطرأ على أكواد البيانات في التعاوُن عادة مع زملائي، وأفصح عن الأكواد الخاصة بي على منصة جِت هب في الورقة البحثية النهائية.
وأشعر بالارتياح لأن منهجيتنا الإحصائية الخاطئة لم تُوظف في نهاية المطاف إلا لدحض ورقتنا البحثية، رغم أننا أفصحنا عن أكواد البيانات التي استخدمناها. ومما أمكننا القيام به لرصد أخطائنا مبكرًا، استخدام المحاكاة، وهي أداة استخدمتها أطروحة التعليق على الرسالة. فعادة ما يعمد الباحثون إلى التوفيق بين النموذج الإحصائي والبيانات الفعلية لتقدير مَعلِمات النموذج. أما في المحاكاة، فالعكس هو الصحيح؛ إذ تُحدد أولًا معلمات النموذج، ثم يستخدم هذا النموذج لاستحداث بيانات زائفة.
وهذا يسمح للباحثين بملاحظة أداء النموذج في مختلف الظروف، حتى إن لم تتحقق الفرضيات التي يقوم عليها. بعبارة أخرى، يتيح هذا للباحثين الفرصة للتحقق من منطقية النموذج؛ فإذا استخدموه لاستحداث البيانات، يُفترض أن ينتهي بهم المطاف إلى قيم تقديرية للمعلمات قريبة جدًا من القيم التي بدؤوا منها. وهذه المقاربة أكثر شيوعًا اليوم، حتى في مجال علم النظم الإيكولوجية الإحصائي، مما كانت عليه عندما أصدرت أنا والمؤلفين المشاركين لي ورقتنا البحثية لعام 2014.
العلم يؤتي ثماره في عملية تدريجية
عاد تسلسل الأحداث في هذه التجربة التي شملتني بنفع كبير. فأولًا تُنشر ورقة بحثية، لتعقبها أطروحة تعليق بحثي يتلوها أحيانًا رد. وهكذا ينبغي أن يُدار سير الأبحاث؛ في عملية تدريجية: بدحض النظريات أو المنهجيات الخاطئة، سواء في ورقة بحثية مفردة أو على مدى مجموعة من الأوراق البحثية، مع وصول العلماء شيئًا فشيئًا إلى فهم أعمق وأشمل للعالم من حولهم.
وهذا النهج يؤكد على طبيعة الأبحاث كعملية متكررة تنقح ذاتها بذاتها.
غير أن صناعة نشر الأوراق البحثية باتت تعارض هذا المبدأ. فعملية مراجعة الأوراق البحثية يُبخس تقدير أهميتها في المسيرة المهنية للباحثين، رغم الدور الحاسم الذي تلعبه في نشر الأبحاث. وتصحيح الأوراق البحثية أو سحبها قد يشوِّه سمعة الباحث على الصعيد العملي ويسبب له الإحراج على الصعيد الشخصي، إذ غالبًا ما يُصاحَب الإخطار بوجود خطأ في عمل بحثي ما باتهام بخداع أو بفساد الممارسة البحثية، بدلًا من النظر إلى اكتشاف الخطأ على أنه مؤشر على صحة سير العملية العلمية. بالإضافة إلى ذلك، في الغالب، لا تحظى أطروحات التعليق البحثي والتعليقات البحثية بالإشادة والاهتمام الذي تستحقه.
ولإصلاح قصور ممارسات النشر الحالية عن خدمة الأغراض الحقيقية للاستقصاءات العلمية، يجب تبني عدد من التغييرات. فبدايةً، أرى أن علينا الإعلاء من دور وأهمية عملية مراجعة الأقران، والإقرار بضرورتها للحفاظ على نزاهة سير عملية البحث العلمي. وقد يتطلب ذلك تقديم حوافز، من أمثلتها تثمين عملية المراجعة البحثية وإيلائها مكانة موازية للإسهامات البحثية، لتدخل ضمن معايير الحصول على المناصب في هيئات التدريس ومعايير الترقية، بل وتقديم مقابل مادي نظيرها. ثانيًا، علينا أن نغير النظرة إلى تصحيح الأوراق البحثية، وسحبها، بأن ننظر إليها على أنها عنصر مهم في سير البحث العلمي، وليس على أنها دلالة فشل من جانب الباحث. كما ينبغي على الدوريات أن تعزز الحوار بين مؤلفي الأوراق البحثية. وفي هذا الإطار، يمكن لمحرري الأوراق البحثية تسهيل سير العملية برمتها بالمواظبة على نصح مؤلفي الأوراق البحثية بكتابة الردود البحثية، وبتخفيف صرامة القواعد المتعلقة بطول الردود البحثية والموعد النهائي لتسليمها.
وأقترح على غيري من الباحثين ممن قد يجدون أنفسهم في موقف مماثل باتخاذ خطوات استباقية لدعم تبني هذه التغييرات، سواء من خلال المجالس التحريرية، أو الجمعيات المهنية، أو عبر مؤسساتهم، لتقدم هذه الجهات يد العون في مواءمة عملية النشر مع الروح الحقيقية لعملية الاكتشاف العلمي.
البحث العلمي اجتهاد
الوقوع في الأخطاء جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، ولأن الأبحاث يجريها البشر، تقع أخطاء في المسعى البشري لتبني مسار بحثي ما. غير أن هذا الملمح من البحث العلمي نادرًا ما يُسلط عليه الضوء، إذ لا نميل في الأغلب إلى الإقرار بمواطن ضعفنا.
لكن تقبُل أخطاءنا مهم للنضج على الصعيد الشخصي والمهني. في الواقع، علينا الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك وعرض أخطاءنا على طلابنا وإعلانها على الملأ. قد يساعد هذا في إصلاح ما نواجهه حاليًا من أزمة ثقة في العلوم. وإحدى السبل على طريق الحل هي الإقرار بأخطائنا في سيرة ذاتية تسردها. وأنا من جانبي، سأضيف سطرًا إلى مثل هذه السيرة لدي.
نُشر هذا المقال بتاريخ 11 أكتوبر عام 2024 في دورية Nature.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.323
تواصل معنا: