عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 2 أكتوبر 2024
المرض تميزه علامة ثابتة في الدماغ تظل موجودة حتى مع زوال الأعراض.
أعراض الاكتئاب قد تظهر وتختفي، ولكن نمط التشابك الدماغي المسؤول عنه يبقى كما هو مدى الحياة، حسبما توعز أدلة جديدة. فقد خلصت دراسة1 معنية بالتصوير الدماغي هي الأكبر من نوعها إلى أن شبكة دماغية بعينها مسؤولة عن توجيه الانتباه إلى المحفزات، يبلغ حجمها لدى مصابي الاكتئاب قرابة الضعف مقارنةً بغير المصابين به، وأنها تبقى على حالها حتى بعد زوال الشعور بالاكتئاب.
وهكذا تأخذنا النتائج خطوة نحو الوصول إلى مؤشر بيولوجي للاكتئاب الذي يعتمد تشخيصه في الوقت الحالي على الاستبيانات. على أن مؤلفي الدراسة ينوهون إلى ضرورة التحقق من نتائجهم بتكرار الدراسة على عدد أكبر من الأشخاص قبل اعتمادها في العيادات. نُشرت الدراسة على صفحات دورية Nature في الرابع من سبتمبر الجاري.
تشابكات عصبية تشير إلى الاكتئاب
تتيح التقنية المعروفة بالتصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (fMRI) للباحثين دراسةَ شبكات الخلايا العصبية التي تصل أجزاءً مختلفة من الدماغ معًا، وقياسَ مقدار التواصل الذي يمر عبر تلك الشبكات. وإلى حد ما تبدو الشبكات الدماغية لجميع الناس متشابهة، مع وجود فوارق تميز كل فرد عن البقية.
اختصاصي علم الأعصاب، تشارلز لينش، واختصاصي الطب النفسي، كونور ليستون، كلاهما بكلية طب وايل كورنيل في مدينة نيويورك، بمعاونة زملائهما شرعَا في تقصي هذه الفوارق الفردية على أمل العثور على شبكات لها علاقة باضطراب الاكتئاب. كل فحص دماغي مأخوذ بتقنية التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي ليس سوى لقطة للدماغ، ما يحد من منافع التقنية في دراسة اضطراب يتسم بالديناميكية مثل الاكتئاب، على حد قول ليستون.
وللتغلب على هذه المعضلة، لجأ الفريق إلى مجموعات بيانات موجودة بالفعل، تتضمن صورًا مأخوذة بتلك التقنية لأشخاص خضعوا للفحص على نحو متكرر على فترات ممتدة، انقسم هؤلاء إلى: 135 شخصًا يعانون اضطراب الاكتئاب الحاد الذي تصاحبه أعراض شديدة وممتدة؛ و37 مشاركًا سليمًا. وفي جميع مصابي الاكتئاب تقريبًا، وجد الباحثون أن الدائرة الدماغية التي تُعرف باسم شبكة معالجة المحفزات البارزة salience network، كاد حجمها أن يكون ضعف نظيره في المجموعة الضابطة. وشبكة معالجة المحفزات البارزة هي نفسها موصل بين دوائر دماغية أخرى. فهي تضطلع بتشغيل الدماغ بالتناوب ما بين تنشيط الوعي الداخلي والذاكرة العاملة، كما تساعد الدماغ في تحديد أي المحفزات البيئية والمشاعر الداخلية يجدر به الانتباه إليها.
وفي بادئ الأمر، ظن الباحثون أن شبكة معالجة المحفزات البارزة قد تتمدد متى كان الفرد مكتئبًا. وعليه لجؤوا إلى تقنية التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي لفحص أدمغة العديد من الأشخاص الآخرين المصابين بالاكتئاب، فعلوا هذا مرة كل أسبوع تقريبًا لفترة وصلتْ إلى 18 شهرًا، وعمدوا إلى تقييم مشاعر الفرد في كل مرة. كاد حجم شبكة معالجة المحفزات البارزة في جميع الأفراد ألا يتغير في كل مرة، سواء أكان الفرد يشعر بالاكتئاب أم لا. إنما كان ما يتغير هو مقدار النشاط بين مناطق الدماغ، الذي كان ينخفض متى استبد الاكتئاب بالشخص. بل نجح الباحثون في التنبؤ بما إذا كان الفرد سوف يُصاب بنوبة اكتئاب في الأسبوع التالي أم لا من نشاط الشبكات الدماغية.
إنذار مبكر
حملت النتائج الباحثين على الاشتباه في أن الشبكة الأكبر حجمًا تزيد فرص تعرض الأفراد للاكتئاب، أكثر من كونها مجرد مؤشر حيوي على الاكتئاب.
وللتأكد من هذا، اتجه الفريق إلى دراسة «إيه بي سي دي» ABCD (اختصار: النمو الإدراكي للدماغ بين المراهقين) التي تهدف إلى تتبع النمو الدماغي في قرابة 12 ألف طفل بين سن التاسعة وبداية البلوغ. اكتشف الفريق 57 طفلًا لم يعانوا من الاكتئاب قبل سن الثالثة عشرة، على أنهم أصيبوا به وهم مراهقون. وكان لدى هؤلاء الأطفال بالفعل في عمر صغير، وتحديدًا في سن التاسعة، شبكات معالجة المحفزات البارزة متمددة مقارنةً بنظرائهم. يقول ليستون: "هكذا اقتربنا خطوة من اكتشاف علاقة سببية".
ولا يتيقن الباحثون من سبب تمدد الشبكة، وإن كان لديهم بضعة تفسيرات. فلعل شبكات معالجة المحفزات البارزة كبيرةَ الحجم هي سمة وراثية، بالنظر إلى أن الاكتئاب وراثي في جزء منه. وبالمثل، لعل الشبكة تعرضتْ لفرط الاستخدام إبان نوبة الاكتئاب - حال ما كان الفرد يجتر المحفزات السلبية على سبيل المثال - وهكذا نَمتْ في الحجم نتيجة لذلك، حسب قول لينش.
منافع في الأفق
اتساق النتائج عبر مختلف مجموعات البيانات يُثير إعجابَ دييجو بيزاجالي، الباحث المتخصص في دراسة اضطراب الاكتئاب بمستشفى ماكلين في مدينة بلمونت بماساتشوستس. يقول: إذا تكرر العمل البحثي ووصل إلى النتيجة ذاتها، فإن حجم شبكة معالجة المحفزات البارزة لدى أحد الأطفال قد يمكن استخدامه يومًا ما مؤشرًا لما إذا كان الطفل معرضًا للإصابة بالاكتئاب، ومن ثم التدخل بالعلاج لتقليل فرص الإصابة بهذا الاضطراب.
تثير هذه الدراسة أيضًا إعجاب كاترينا جراتون، المتخصصة في علم الأعصاب الإدراكي بجامعة إلينوي في أوربانا شامبين، لا سيما أنها تتبعت الأفراد أنفسهم على فترات ممتدة، عوضًا عن اللجوء إلى فحص عدد كبير من الأفراد. تقول: "عوضًا عن قراءة صفحات متناثرة من كتب كثيرة، نحن نقرأ فصولًا كاملة".
ومن جانبه يصرح لينش بأن الفريق يعكف الآن على دراسة ما إذا كانت هناك علاقة بين الشبكة المتمددة واضطرابات عقلية أخرى يجمعها بالاكتئاب بعض الأعراض المشتركة، مثل اضطراب ثنائي القطب واضطراب الوسواس القهري. فيقول: "كَم سيكون ذهولي كبيرًا إذا ما تبين أن هذا [التمدد الشبكي] مميز للاكتئاب دون غيره، بالنظر إلى تنوع طيف الاكتئاب".
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.306
Reference:
1- Lynch, C. J. et al. Nature https://doi.org/10.1038/s41586-024-07805-2 (2024).
تواصل معنا: