ديفيد بيكر وديميس هاسابيس وجون جامبر يحصدون جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024
09 October 2024
نشرت بتاريخ 1 أكتوبر 2024
لا يتحالف جميع الباحثين مع شركات دوائية كبرى تحقيقًا لهذه الغاية، فالهيئات غير الربحية قد تسوق بدورها الاكتشافات المنقذة للأرواح إلى المناطق الأشد احتياجًا لها.
كثيرًا ما تقصر الاكتشافات في مجال الطب الحيوي عن تحقيق أقصى إمكاناتها في محاربة الأمراض. ولعل السبب يتمثل في عدم كفاية العائد الاقتصادي عندئذ أو غياب الفكر الذي يفسح المجال للبحث عن تطبيقات بديلة. وقد ينتهي المطاف بهذه الاكتشافات إلى الاندثار مع منشور بحثي أكاديمي، وربما لا تخرج إلى النور على الإطلاق.
من هنا، يتعاون الكثير من الباحثين في مجال الطب الحيوي مع مؤسسات غير حكومية لترجمة أفكارهم العلمية إلى منتجات؛ بالخروج عن إطار العملية التقليدية لتطوير العقاقير سواء في مجال التقنيات الحيوية أو الصناعات الدوائية. والمغزى من علاقات التعاوُن تلك - بالنسبة للمؤسسات غير الحكومية - هو إتاحة وصول المنتجات والتقنيات المبتكرة إلى من هم في أمس الحاجة لها. في المقابل، يسنح للأكاديميين تطوير أفكارهم دون الحاجة إلى تأسيس الشركات أو بيع هذه الشركات لشركة أدوية كبيرة.
ويسوق أكاديميون ذوو خبرة في عقد الشراكات مع المنظمات غير الحكومية براهين قوية على أهمية إبرام هذه التحالفات ويوصون بخوضها بصورة متزايدة. من هنا، توجهت دورية Nature بأسئلة إلى أربعة باحثين سبق لهم الدخول في هذه الشراكات طلبًا لنصائح حول كيفية بناء علاقات تعاوُن ناجحة.
آنيت فون ديلفت: قصتنا تمحورت حول تعاوُن لقهر عدو خفي
رئيسة قسم مضادات العدوى في مركز استكشاف الأدوية بجامعة أوكسفورد، بالمملكة المتحدة.
خلال ذروة جائحة «كوفيد-19»، شعرنا جميعًا بضرورة أدائنا لمسؤوليتنا. فعندما أُعلنت لأول مرة البنية الجزيئية لأحد البروتينات التي وُجدت في فيروس «سارس-كوف-2»، المسبب للجائحة، في فبراير من عام 2020، شرعت مع بعض من زملائي في بناء تعاوُن عالمي على منصة «إكس» (تويتر سابقًا) للتعرُف على الجزيئات القادرة على درء عدوى الفيروس. وما بدأ كتعاوُن لتبادل الأفكار سرعان ما تحول إلى ائتلاف للوصول المفتوح إلى الأبحاث، يضم علماءً وفرق بحوث دوائية وطلاب من شتى أنحاء العالم، تحت اسم «كوفيد مونشوت» COVID Moonshot.
تمثل حلمنا في ابتكار أقراص يمكن للجميع حول العالم الحصول عليها سريعًا وبتكلفة زهيدة. وفي غضون وقت لا يذكر، صارت لدينا أهداف علاجية واعدة تفتح الباب أم ابتكار عقار لمواجهة الفيروس. أعمل في مجال استكشاف وتطوير العقاقير زهيدة التكلفة المضادة للفيروسات والبكتيريا والفطريات، منذ وقت سابق بفترة طويلة على اندلاع جائحة «كوفيد-19». ولطالما واجهتني في عملي معضلة كبيرة، ألا وهي: كيف أقنع المستثمرين من أصحاب رؤوس الأموال بجدوى ضخ الاستثمارات في مشروع لا يحقق عائدًا اقتصاديًا؟ لكن مع الحرب التي كان العالم يخوضها ضد هذا الخصم الفيروسي، أمكننا التعويل على نبع لا ينضب من المساعدات التي تنوعت مصادرها، بدءًا من الشركات الخاصة إلى شركات التقنيات الحيوية.
فمشروع كهذا، وُلد بطريق التعاوُن والوصول المفتوح إلى الأبحاث، يستحيل أن يعود بالأرباح. ولما لم نكن في حُل يسمح بإنفاق الوقت في التصدي لمسائل حقوق الملكية الفكرية، طُلب من كل من أراد المشاركة في هذا التعاوُن التنازل عن أي عوائد ربحية محتملة؛ إذ لا يمكن لابتكار استُحدث بطريق التعهيد الجماهيري أن يحوز براءة اختراع. وبفضل هذا التعاوُن العالمي، اكتشفنا تسلسل جزيئات قادر نظريًا على الارتباط بالإنزيم الرئيسي الذي يستخدمه فيروس «سارس-كوف-2»، واسمه Mpro وتمكننا من تعطيل تنسُّخ الفيروس.
بعدئذ نجح عقار واعد أسفرت عنه جهودنا في اجتياز اختبارات الفعالية، وأظهر قدرة على مقاومة الفيروس. وخلال تلك العملية، أمضينا وقتًا طويلًا في التفكير في الكيفية التي يمكننا بها أن نطرح في الأسواق مركبًا دوائيًا لا يخضع لحقوق براءة الاختراع. واستجابة لحالة الإحباط إزاء عدم فعالية الأدوية أو عدم أمانها أو تكلفتها الباهظة، أو عدم وفرتها من الأساس، كانت مبادرة أدوية للأمراض المهملة (DNDi)، وهي مبادرة دولية أطلقتها مؤسسات غير حكومية، قد تأسست عام 2003 من خلال شراكة ضمت سبعة أعضاء، من بينهم منظمة الإغاثة الدولية المعروفة باسم «أطباء بلا حدود» Médecins Sans Frontières، والتي أمدتنا بالتمويلات الأولية.
تمتعت هذه المبادرة بالخبرة التي كانت مبادرة «كوفيد مونشوت» تنشدها فيما يخص إجراء اختبارات المراحل قبل الإكلينيكية وتوفير الأدوية بتكلفة زهيدة. فلما احتجنا إلى عمليات تصنيع واسعة النطاق وإلى الحصول على موافقات هيئات تنظيمية لاعتماد عقارنا، أتاحت لنا مبادرة «أدوية للأمراض المهملة» ذلك، سواء بطريق مباشر أو عبر التفاوُض على شراكات مع مؤسسات غير ربحية أخرى أو عبر توفير التقنيات الحيوية اللازمة للخروج بالعقار. وبالنسبة لنا، خدم هذا التعاوُن كجسر يمد خلاله الباحثون يد العون إلى الشعوب، دون الحاجة إلى استثمار كل الأموال التي ترتبط عادة بتطوير العقاقير. فلا شك أن تكلفة إنتاج العقار وإجراء اختبارات المراحل قبل الإكلينيكية ظلت قائمة عندئذ. إلا أن المؤسسات غير الحكومية مثل «مبادرة أدوية للأمراض المهملة» تتمتع بالخبرة والعلاقات التي تتيح تعهيد تكاليف الدراسات الاستكشافية الأولية ومراحل الاختبار قبل الإكلينيكية إلى جهات التمويل الخيرية أو الحكومية.
وبالنسبة للعلماء الذين يعملون على التصدي للأمراض المهملة أو لمقاومة مضادات الميكروبات، وهي مجالات لا تستثمر فيها الشركات الدوائية بالضرورة الأموال، لغياب العائد على مثل هذه الاستثمارات، قامت المؤسسات غير الحكومية بمقام الشركات الدوائية. فأتينا بالاكتشافات، وأسهمت هذه المؤسسات بخبرتها في ترجمة هذه الاكتشافات إلى تطبيقات عملية. ونحن اليوم بصدد الشروع في أول تجربة على البشر لاختبار فاعلية أبرز عقاقيرنا الواعدة. وإن سارت الأمور على ما يرام، قد يتوفر عن قريب مضاد فيروسي زهيد التكلفة لعلاج «كوفيد-19»، وللتأهب بشكل أفضل للجوائح المستقبلية.
وعند بناء علاقات التعاوُن مع المؤسسات غير الحكومية عليك أن تراعي أن كل مرحلة تستغرق وقتًا أطول من المعتاد، لأنك بحاجة إلى العثور على سبل تمويل بديلة. لهذا، أقترح على الأكاديميين الراغبين في عقد شراكة مع مؤسسة غير حكومية البحث عن عدة شركاء محتملين. وأنصح العلماء عند النظر في مشروعهم البحثي بأن يدرسوا حجم المنظمات التي يسعون للتعاون معها، ومدى سرعة سير إجراءاتها، ومدى قدرتهم على الوصول إلى أنظمة تمويل بديلة. لكن من واقع خبرتي، فإن بناء علاقة مع المؤسسات غير الحكومية جدير بالعناء، فهي أقدر على مساعدة عدد أكبر من الأشخاص مقارنة بالشركات الدوائية، والقيم الخيرية التي تستند إليها تستأهل مؤازرتها. فبنهاية المطاف، نحن نجري أبحاثنا لمساعدة المجتمعات، والمؤسسات غير الحكومية تربط بحلقة وصل بين العلماء ومن هم أشد احتياجًا إلى ابتكاراتهم.
ويم فان براكل: أسسنا علاقات طويلة الأمد للتصدي لأمراض بارزة!
المدير الطبي لمؤسسة «القضاء على البرص» في أمستردام بهولندا.
إلى يومنا هذا، يظل داء البرص وغيره من الأمراض المُهملة عبءًا ثقيلًا في بعض الدول والمناطق. وحال تبني الحكومات لعلاجات وسبل وقاية جديدة من هذه الأمراض، يربح الجميع. من هنا، تبذل المؤسسات غير الحكومية المعنية بمكافحة الأمراض مثل مؤسسة «القضاء على البرص» No Lebrosy remains أو اختصارًا (NLR) مساعي جهيدة لتسهيل بناء علاقات تعاوُن وثيق بين الأكاديميين وصناع السياسات. وبفضل هذه المقاربة القائمة على التعاوُن المتبادل، نجحت مؤسسة «القضاء على البرص» في إنفاذ إجراءات تدخلية مؤثرة في حياة الأفراد في شتى أنحاء العالم. إذ اتحدت مع أكاديميين وصناع سياسات لصوغ التوجيهات الفنية الخاصة بمنظمة الصحة العالمية بهدف وقف انتشار البرص. وبفضل هذه التوجيهات، نجحت جزر المالديف في الوصول إلى هدفها المتمثل في وقف انتشار العدوى المحلية، وسلكت خطوة أخرى نحو القضاء على البرص فيها. كذلك تعمل المؤسسة اليوم على إنفاذ تدابير وقائية أقوى في الهند والبرازيل وبنجلاديش ونيبال.
وبما أنها تتخصص في مكافحة الأمراض، تعد جزءًا من شبكة كبرى من الشركات التابعة وتملك مكاتب في عدة دول وتربطها أواصر قوية بعدد من الحكومات المحلية. فتتيح للأكاديميين المعلومات الميدانية وبناء علاقات التعاون المحلية الضرورية، ما قد يتعذر الوصول إلى تحقيقه في بيئة المعاهد البحثية. كذلك تقدم المؤسسة للأكاديميين في الدول ذات الدخل المتوسط أو المنخفض التدريب على الأساليب البحثية وكتابة الأبحاث، وتتيح التواصل مع المعاهد البحثة الغربية، والإرشاد الأكاديمي للتقدم في المسيرة المهنية.
لكن تجدر الإشارة إلى أنه في العالم الأكاديمي، المنظمات غير الحكومية لا تمثل إلا ترسًا صغيرًا في منظومة هائلة. من هنا، من الضروري للكيانات الصغيرة مثل مؤسستنا أن تؤسس لعلاقات طويلة الأمد مع شركاء أكاديميين. وتتعاون المؤسسات الحكومية الصغيرة عادة بصورة جيدة مع شركاء بعينهم من الجامعات والفرق البحثية. فبهذا، يمكن بناء علاقة احترام متبادل ومعرفة ما لكل طرف أن يتوقعه من الآخر.
وأرى أن المؤسسات غير الحكومية قد تستفيد مستقبلًا من تعيين طاقم تمزج مهامه بين العمل فيها والعمل الأكاديمي. عملت كطبيب في الخطوط الأمامية لمكافحة الأمراض لسبعة عشر عامًا، إلا أنني مضيت إلى تولي المزيد من المهام الإدارية لمؤسسة «القضاء على البرص». ويشمل ذلك بناء علاقات تعاوُن مع حلفاء أكاديميين، وهو ما من شأنه أن يساعدنا على بناء علاقات أفضل ببيئة العمل البحثي.
صنداي إسياكو: فلنتبنى العمل البحثي في بيئة المؤسسات غير الحكومية!
المدير القطري لأنشطة مؤسسة «سايتسيفرز» في نيجريا وغانا، وهي مؤسسة كائنة في مدينة كادونا النيجيرية.
يُعتقد أن المسار المهني يختلف في السلك الأكاديمي عنه في المؤسسات غير الحكومية، غير أن كلا الدربين تتلاقى مساراتهما أحيانًا. بدأت مسيرتي المهنية كعالم متخصص في الطب الحيوي بمعهد نيجريا لبحوث داء المثقبيات في كادونا. ومع ترقيّ في السلم الأكاديمي، سنحت لي فرصة التعاوُن مع آخرين في عدد قليل من المشروعات التي مولتها منظمة الصحة العالمية. ومن هنا، انضممت إلى فريق عمل مؤسسة «سايتسيفرز»، وهي مؤسسة غير حكومية تركز جهودها على الوقاية من الإصابة بالعمى وبعض الاضطرابات البصرية التي يمكن تلافيها، وتحارب الوصم المرتبط ببعض الإعاقات في الدول ذات الدخل المتوسط أو المنخفض.
وتعد من المؤسسات غير الحكومية الدولية الوحيدة التي تصنف كمؤسسات أبحاث مستقلة في المملكة المتحدة، وهو ما يعني أنه بمقدورها طلب مبالغ تمويلية معينة لدعم أبحاثها، شأنها في ذلك شأن الجامعات. من هنا، شعرت بأنني قادر على صناعة تغيير لتحسين حياة الأفراد، بالاستعانة بخلفيتي البحثية. فاغتنمت الفرصة واعتنقت رسالتي كباحث في مؤسسة غير حكومية. فما يميز مؤسسة «سايتسيفرز» عن غيرها من المؤسسات غير الحكومية هو أنها ترتكز في إجراءاتها التدخلية على الأبحاث والأدلة.
إذ تضم المؤسسة طاقمًا من حوالي 20 باحثًا، يعمل نصفهم في معاهد في إفريقيا، التي تحتضن غالبية المصابين بالأمراض البصرية التي تتصدى لعلاجها «سايتسيفرز». وتنجم هذه الإصابات بالدرجة الأولى عن إهمال أمراض أو عن حالات عدوى قابلة للعلاج، لكن لا يجري التصدي لها بفاعلية وبسرعة في الدول ذات الدخل المتوسط أو المنخفض، ما تترتب عليها تبعات مدمرة لحيوات البعض. وعند حدوث ذلك، تكون الحاجة على أشدها لإجراءات «سايتسيفرز» التدخلية. على سبيل المثال، تنتج الإصابات بالعمى النهري من لسعة الذباب الأسود Simulium damnosum الحامل للطفيل المسبب لهذا المرض. وفي غرب إفريقيا، تتسبب هذه العدوى في عدد هائل من حالات الإصابة بالعمى. وقد أثبت علماء أن عقار «إيفرمكتين» Ivermectin، يتسم بالفاعلية في درء هذه العدوى الطفيلية، لكنه لم يُجرب لعلاج البشر المصابين بالعمى النهري. من ثم، عقدت مؤسسة «سايتسيفرز» شراكات مع باحثين، ومجتمعات محلية ومنظمات في غرب إفريقيا لتجربة العقار في أفراد، وثبتت فاعليته. وبفضل هذه البيانات التي قدمتها المؤسسة، بات العلاج على نطاق واسع بعقار «إيفرمكتين» إجراءً قياسيًا للقضاء على العمى النهري في الدول التي يضربها هذا المرض.
كذلك تعقد «سايتسيفرز» تحالفات مع عدد من الحكومات والمجتمعات المحلية بهدف ضمان تلبية الاكتشافات العلمية للاحتياجات وتنفيذها في سياق دولي أو مجتمعي. وقد ساعدت المؤسسة معاهد أكاديمية على تحقيق تواصل أفضل مع المجتمعات بهدف تشجيع الأفراد على تبني التدابير الوقائية ضد أمراض مثل العمى النهري وداء البلهارسيات وداء الخيطيات اللمفي.
ويذكر هنا أن لكل من المعاهد الأكاديمية والمؤسسات غير الحكومية نقاط ضعف وقوة. وتتمثل نقطة قوة مؤسسة «سايتسيفرز» في درايتها بكيفية الاستعانة بالأبحاث لتقديم منتجات تؤثر تأثيرًا إيجابيًا في حياة الأفراد. غير أن تركيزها بشكل صرف على ذلك، قد يسفر عن اختلافات بين ما تعتنقه من وجهات نظر وأهداف، والغايات والرؤى التي تتبناها الجهات الأكاديمية. فكثيرًا ما يكون الباحثون أميل إلى الاهتمام بجمع المزيد من المعلومات عن الأمراض، وقد يشردون في خضم ذلك عن البحث عن حل سريع للمشكلات. في حين أن المؤسسات غير الحكومية قد تستهدف تغيير سياسات البلدان في علاج الأمراض، وينبع ذلك من اعتقادها بأن السياسات الحالية لا تفي بالمطلوب. وفي هذا السيناريو، تحتاج المؤسسات غير الحكومية إلى شركاء قادرين على توفير أدلة يمكن أن تدفع باتجاه هذا التغيير في السياسات.
وبصفتي أكاديميًا، يعمل حاليًا في إحدى المؤسسات غير حكومية، أعي جيدًا أنه على المؤسسات غير الحكومية التفاعل مع الأكاديميين في المعاهد البحثية لتكلل خططها بالنجاح، ذلك أن معارف الأكاديميين قد تساعد في وضع الخطط الأمثل. ونحتاج - كمؤسسات غير حكومية - إلى ضمان اتخاذنا للإجراءات الصائبة. وهنا، يطرح الأكاديميون الأسئلة الصعبة الضرورية للحصول على أدلة دامغة. والتحالف مع طواقم بحثية توظفها معاهد بحثية، كما حدث عندما بدأت العمل مع مؤسسة «سايتسيفرز» يمكن أن يساعد في اختصار المسافة بين هذين العالمين. إن المزج بين العمل البحثي والعمل لدى المؤسسات غير الحكومية قد يساعد الباحثين في التفكير في تطبيقات لأبحاثهم منذ البداية، ويساعد المؤسسات غير الحكومية على الوصول إلى الاكتشافات العلمية مبكرًا. فالمزج في بيئة العمل بين أطياف مختلفة، تتنوع في خلفياتها وأفكارها، هو السبيل الوحيد إلى إحداث تغيير في حياة الأفراد.
دانيال فليتشر: فلنيسر اكتشاف فرص الحصول على المنح التمويلية من المؤسسات غير الحكومية!
اختصاصي هندسة حيوية من جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي الأمريكية، ومخترع أداة «سِل سكوب».
يركز مختبري على استكشاف الكيفية التي تتحد بها الجزيئات المفردة لبناء المنظومات البيولوجية. وينهض فريقي بهذه المهمة من خلال ابتكار تقنيات تجريبية مناسبة، بهدف فهم الطرق التي تشكل بها الجزيئات بِنى الخلايا وديناميكياتها.
وذات مرة سألتني مجموعة من الطلاب وباحثي ما بعد الدكتوراة في مختبري: "كيف تُمكِن دراسة الأمراض في المناطق النائية؟". ولما أثار هذا التساؤل اهتمامنا، بدأنا في وضع فرضيات للإجابة عنه، والتحقق من صحتها. ومن هنا، وُلدت في عام 2011 الأداة التشخيصية «سِل سكوب» Cellscope. وتتألف هذه الأداة من مجهر صغير، يستخدم كاميرا الهواتف الجوالة والحواسيب اللوحية لتجميع الصور. وفي البداية، لم نملك فكرة واضحة عن الكيفية التي ستُستخدم بها. كما لم أملك التمويل الكافي لاختبار أدائها. ومن ثم، أخذت أبحث من حولي عن جهات قد تقدم على خوض تعاوُن بحثي مع مختبري.
وفي البداية، أبرمنا شراكة مع مؤسسات غير ربحية محلية، تعمل في مجال حماية المحيطات لاختبار فاعلية أداتنا في عملية جمع العينات من المحيطات والمشروعات التعليمية. وكانت الانطباعات التي تلقيناها عن الأداة إيجابية إلى حد مذهل، ما حثنا على تحسينها، على سبيل المثال، بمواءمة برمجياتها وخصائصها البصرية. كما أن هذا قادني إلى التفكير في التطبيقات المحتملة لها.
بعد ذلك، عقدنا تحالفًا مع أكاديمية كاليفورنيا للعلوم في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية، وأمكننا توسعة نطاق استخدامات الأداة في مجال التعليم. وهذه الشراكات مع هذه المؤسسات غير الحكومية قطعت بنا شوطًا طويلًا نحو تطوير أداة «سِل سكوب» إلى أقصى الحدود. إذ تمتعت بالجاهزية لضخ الاستثمارات في تطوير هذا الابتكار العلمي، حتى عندما ظل المبرر التجاري غير واضح.
وما أن تنبه فريق مختبري إلى كامل إمكانات الأداة، قررت مواصلة العمل مع المؤسسات غير الحكومية لتجربة فعالية الأداة في تطبيقات الطب الحيوي بين المجموعات السكانية التي قد تجني الاستفادة الأكبر منها. آنذاك، لم أملك إلا خبرة بسيطة في شؤون الصحة العالمية، فتواصلت مع مؤسسة «بيل وميليندا جيتس» Bill & Melinda Gates في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية، وهي إحدى المؤسسات غير الحكومية الرائدة في هذا المجال. وساعدنا هذا في التواصل مع باحثين من دول أخرى، وفي إجراء اختبارات ميدانية لفعالية الأداة في التطبيقات المعنية بالصحة ومكافحة الأمراض، كتشخيص السل أو الملاريا في الموقع، ودراسات الأمراض البصرية الناجمة عن حالات العدوى في القرى النائية عن المستشفيات الرئيسية، حيث يمكن للفاصل الزمني بين التشخيص والتدخل الطبي أن يعني الفرق بين الحياة والموت.
وبفضل أداة «سِل سكوب»، أبرمت شراكات مع مؤسسات غير ربحية كبيرة وصغيرة، وتعلمت أن أشق طريقي عبر ما يسنح من فرص وتحديات ترتبط بهذه الشراكات. فبوصفي باحثًا يدير مشروعًا، يتعين علي التفكير في شتى الطرق التي يمكنني أن أدعمه بها. والمؤسسات غير الحكومية هي إحدى السبل إلى ذلك، لكنها ينبغي أن تكون جزءًا من شبكة من مصادر الدعم. فهي قادرة على إسراع خطى مشروعك إن كانت فكرتك مواتية لاهتماماتها. لكن نظرًا لمحدودية التمويل الذي تتمتع به هذه المؤسسات، تحتاج إلى تحديد الأولوية القصوى لها. من ثم، ما لم يكن مشروعك هو الأنسب لها، ستسعى إلى دعم مشروعات أخرى تجدها أكثر منطقية.
وأتمنى أن تسنح سبل أسهل للعلم بفرص التمويل التي تتيحها المؤسسات غير الحكومية على اختلافها. فأغلب ما خضته من شراكات مع مؤسسات غير حكومية، جاء بطريق التزكية الشفهية، وليس بالسبل التقليدية التي يُفتح فيها الباب لتقديم طلبات المنح. ووجود قاعدة بيانات مركزية يمكن فيها العثور على الأولويات التي تتبناها المؤسسات الحكومية، وقدراتها التمويلية، وربما أيضًا المنح التي تعلنها من شأنه أن يساعد الأكاديميين على مواجهة واقع كهذا.
لكن برغم هذه التحديات، كانت هذه الشراكات مثمرة إلى حد مذهل لكل من أسهم فيها. وقد تعلم فريقي البحثي الكثير عن الآليات التي يمكن بها أن يتسع نطاق تطبيقات الأفكار العلمية ليمتد إلى آفاق أخرى بخلاف الغرض الأصلي من الفكرة. وأدركنا كيف أن التفكير خارج الصندوق يمكن أن يكون له عظيم الأثر في حياة الأفراد. واليوم، بفضل مشروع بدأ كفضول للإجابة عن سؤال، يمكن للمجتمعات السكانية التوصل سريعًا إلى تشخيصات الأمراض.
نُشر هذا المقال في دورية Nature بتاريخ 23 أغسطس 2024
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.299
تواصل معنا: