نضال قسوم.. نحو ثقافة علمية تتجاوز المختبرات ومقاعد الدراسة
10 October 2024
نشرت بتاريخ 12 سبتمبر 2024
جراحة زراعة الوجه هذه - الأولى في استزراع مقلة عين - تفجر ثورة تقلب الموازين في علم الجراحة، لكن استعادة الإبصار من خلالها لا تزال تواجه عقبات كؤود.
لا يزال آرون جيمس، البالغ من العمر سبعة وأربعين عامًا، وهو أب يقيم في مدينة هوت سبرينجز بولاية آركنسا الأمريكية، يجد صعوبة في تصديق أنه خضع لأول جراحة استزراع عين كاملة تكلل بالنجاح في تاريخ الطب. فتعقيبًا على ذلك، يقول: "لا أصدق أنني شاركت في حدث جلل بهذه الضخامة".
عام 2021، خلال أدائه لمهامه كعامل تركيب أسلاك مرتفعة الفولطية، تعرض للإصابة في حادث كهربي، فقد على أثره ذراعه اليسرى - وهو أعسر - وعينه اليسرى، وذقنه وأنفه. ولقرابة عامين، ظل غير قادر على تناوُل الأطعمة الصلبة، أو التذوق أو الشم أو التحدُث بصورة طبيعية.
وفي مايو من عام 2023، خضع لأول جراحة استزراع عين كاملة وأنسجة وجه عرفها العالم، في مركز «لانجون هيلث» التابع لجامعة نيويورك (NYU) في مدينة نيويورك الأمريكية. وبعد مضي أكثر من عام على الجراحة، لا تزال عينه المستزرعة بحال جيدة، حتى إن شبكيتها تستجيب للضوء، لكنه لا يستطيع الإبصار من خلالها.
وحول الجراحة، يقول بودان بوماهاك، وهو جراح من كلية ييل للطب في مدينة نيوهايفن بولاية كونيتيكيت الأمريكية، أجرى عام 2011 أول جراحة زرع وجه تشهدها الولايات المتحدة، لكنه لم يشارك في جراحة جيمس: "إنها لجراحة مذهلة على الصعيد التقني. وواضعو هذه الدراسة نجحوا في الخروج عن القوالب النمطية للابتكار". ووصف هذه الدراسة متاح في الوقت الحالي في «دورية جمعية الطب الأمريكية» 1 (JAMA).
جراحة طويلة وشاقة
استزرع فريق طبي كبير في جيمس كامل العين اليسرى له، والمحجر العظمي المحيط بها، والأنف، وجزء من عظام الذقن، وما يتصل بذلك من عضلات وأعصاب وأوعية دموية، وكل هذه الأعضاء جاءت من متبرع لم يظهر دماغه نشاطًا وظيفيًا. وقد استغرقت الجراحة حوالي 21 ساعة.
لم يتوقع الأطباء قط أن يستعيد جيمس الإبصار في العين المستزرعة، بحسب ما يفيد دانيال سيراديني، وهو المؤلف الأول للدراسة التي أسفرت عن الجراحة وجراح في مركز «لانجون هيلث» التابع لجامعة نيويورك. وسبب اعتقادهم ذلك هو عدم وجود ما يدل على أن العصب البصري للمتبرِع يمكن أن ينجح ارتباط وصلاته العصبية بدماغ جيمس. وهذا العصب، الذي يرسل المعلومات البصرية من الشبكية إلى الدماغ، يشكل جزءًا من الجهاز العصبي المركزي الذي تبقى كيفية إصلاح تلفه لغزًا. لكن كما يوضح سيراديني، بفضل هذه الجراحة، صار الباحثون أقرب إلى إجراء جراحة استزراع عين قد تعيد يومًا ما الإبصار، فيما يُعد، بتعبيره، "غاية الغايات".
احتاج جيمس إلى الخضوع لجراحة زرع وجه، وأبدى استعدادًا لتحمل المخاطر الإضافية المرتبطة بمحاولة استزراع عين له، في مقابل مساعدة من يخضعون لمثل هذه الجراحات مستقبلًا. فعن خوضه لهذه المجازفة، يقول: "كنت سأتلقى بالفعل علاجًا كابتًا للمناعة بسبب جراحة استزراع أنسجة الوجه. لذا، لم يكن أمامنا سوى السعي لتحقيق أي مكسب".
عملية استعداد مضنية
تتسم جراحات استئصال العين بالتعقيد البالغ، إلى حد أن فريق الجراحة تدرب على إجرائها على جثث لما لا يقل عن 15 مرة، بحسب ما يفيد سيراديني.
وقد تضافرت العديد من الابتكارات العلمية المتطورة لإفساح المجال لنجاح هذه الجراحة. فكما يفيد بوماهاك: "ابتكر الفريق في واقع الحال جراحة جديدة تستند إلى مبادئ قائمة". فإمدادات العين من الدم تأتي من شريان مختلف عن ذلك الذي يغذي سائر الوجه. وحرصًا على ألا تفقد العين المتبرع بها إمداداتها من الدم لوقت طويل، عمد فريق الجراحة إلى توصيل الشريان الذي يغذي العين المتبرع بها بفرع من الشريان السباتي الخارجي للمتبرِع، وهو وعاء دموي كبير يبدأ من منطقة بجوار الرقبة. بعد ذلك، في خطوة جراحية غير مسبوقة في البشر، استُزرع هذا الجزء التشريحي بكامل أجزائه في جيمس. حول ذلك، يقول بوماهاك: "درس فريق الجراحة الكيفية التي يمكن بها استخلاص مقلة العين من دون الإضرار بتدفق الدم إليها".
ومن الابتكارات الأخرى التي أُسدل الستار عنها في الجراحة، زوج من الأدوات الجراحية الإرشادية المطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لمحاكاة تشريح وجه جيمس والمتبرع، ما سمح لفريق الجراحة بجمع القدر المطلوب من عظام المتبرِع لتثبيتها في وجه جيمس. اعتمد تصميم هذا الزوج من الأدوات على مسوح تصوير مقطعي محوسب لكل من وجه جيمس ووجه المُتبرع، وقد ثُبتت هاتين الأداتين على وجه جيمس والمتبرع خلال الجراحة. وعن نتائج الجراحة، يقول سيراديني: "ثُبت الجزء المٌتبَرع به بأريحية في الموضع المخصص له وكأنه قطعة أحجية خُلقت لهذا الموضع".
لكن بعد كل هذا، كانت الكيفية التي ستتصرف بها مقلة العين المُستزرعة في حكم المجهول، بحسب ما يضيف سيراديني، الذي تساءل عندئذ: "هل ستنكمش؟، وهل ستعمل شبكيتها؟".
شعور بحكة
لما أفاق جيمس من الجراحة، كان أول ما تنبه له هو رائحة. وقد كان ممتنًا لذلك بعد عامين من فقدان حاسة الشم، رغم أن الرائحة التي تنبه لها، كانت "رائحة مستشفى"، كما روى ضاحكًا.
بعد ذلك بأسبوع ونصف الأسبوع، رأى وجهه الجديد للمرة الأولى. وهو إلى اليوم يحدق ذاهلًا كلما رأى انعكاس صورته في مرآه. ولم يعد يرتدي غطاء عين وقناع وجه كلما خرج من منزله، مثلما كان يفعل قبل الجراحة. وهو سعيد لأنه سيكون بإمكانه أن ينبت لحية من جديد.
ورغم أن العين المستزرعة لا يمكنها الحركة أو الرؤية، فهي تتمتع بضغط دم طبيعي وتدفق دم جيد. كما تستجيب شبكيتها للضوء. يشعر جيمس بحكة عميقًا في محجر عينه، وقد بدأ يستعيد القدرة على استشعار الأشياء حول العين المستزرعة. فالأعصاب الطرفية حول العين تنبت من جديد بصورة عشوائية، حسبما يوضح سيراديني.
استعادة القدرة على الإبصار
ليس من المعروف ما إذا كانت ستسنح يومًا جراحة استزراع عين يستعيد فيها المتلقي للجراحة الإبصار. يرى سيراديني أن هذا "هدف يمكن أن يتحقق في المستقبل القريب". أما بوماهاك، فيختلف معه في الرأي. على أن كليهما يرى أن الحلقة المفقودة لحل اللغز والوصول إلى تحقيق هذا الهدف تكمن في معرفة كيفية إصلاح تلف العصب البصري، الذي يرى بوماهاك أن إصلاح تلفه ضرب من المستحيل. غير أنه يضيف: "قد يسنح هذا إن تمكننا من إصلاح تلف أجزاء الدماغ أو النخاع الشوكي".
أما جيمس، وزوجته ميجان، وابنتهما آلي البالغة من العمر 19 عامًا، فيغمرهم التفاؤل، ما ينعكس بينهم في تبادل السخرية المشوبة بمزاح. على سبيل المثال، نشرت آلي مؤخرًا منشورًا على موقع «تيك توك» تقيِّم فيه إنجازات والدها. فكتبت تقول: "دخل التاريخ الطبي من أوسع أبوابه بتقييم قدره مائة على عشرة، لكنه يبقى أصلعًا!".
نُشر هذا المقال في دورية Nature بتاريخ 9 سبتمبر عام 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.287
References:
1. Ceradini, D. J. et al. JAMA https://doi.org/10.1001/jama.2024.12601 (2024).
تواصل معنا: