نضال قسوم.. نحو ثقافة علمية تتجاوز المختبرات ومقاعد الدراسة
10 October 2024
نشرت بتاريخ 10 سبتمبر 2024
نموذج لغوي كبير يؤدي جميع المهام البحثية: من مطالعة الأدبيات إلى كتابة الأوراق ومراجعتها.. لكن الحيز الذي يتحرك فيه يظل محدودًا.
هل تأتي علينا لحظة يكون فيها العلم مؤتمتًا بشكلٍ كامل؟ فريقٌ من الباحثين المتخصصين في تعلُّم الآلة (machine learning) حاولوا الإجابة.
وما هذه الإجابة إلا «باحث يعمل بالذكاء الاصطناعي» AI Scientist، طوَّره فريق يضمُّ باحثين يعملون بشركة الذكاء الاصطناعي «ساكانا إيه آي» Sakana AI، ومقرُّها العاصمة اليابانية طوكيو، وآخرين بمختبرات بكندا وبريطانيا، يستطيع أداء جميع المهام البحثية: من مطالعة الأدبيات المنشورة حول موضوع البحث (أو مسحها، وهو الأدق)، إلى صياغة الفرضيات وتجريب الحلول المختلفة، إلى كتابة البحث نفسه. ولا يقف عند ذلك، وإنما يتعدَّاه إلى بعض الأعمال التي تندرج تحت التحكيم البحثي أو مراجعة الأقران، ثم ينهض بمهمة تقييم النتائج التي انتهى إليها.
في هذا الباحث الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي تجتمع جملة من الحلول، بهدف أتمتة جوانب من العملية البحثية بالاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي. يقول كونج لو، الذي شارك في تطوير هذا النظام، وهو المتخصص في الذكاء الاصطناعي بجامعة كولومبيا البريطانية في مدينة فانكوفر الكندية: "على حد علمي، لم يسبق لأحد أن جمع كل المهام البحثية في نظام واحد". نُشرت نتائج الدراسة1 الشهر الماضي في مسوَّدة بحثية على موقع «أركايف» arXiv.
وفي تعليقه على هذا الباحث الذكي، قال جيفن وست، المتخصص في علم الاجتماع الحاسوبي بجامعة واشنطن في مدينة سياتل الأمريكية، إن "إتمام هذا العمل من أوَّله إلى آخره لهو أمرٌ مثير للإعجاب. وأعتقد أن علينا البناء على هذه الأفكار، لأنها يمكن أن تكون محمَّلة بالفُرص التي من شأنها أن تصبَّ في صالح العلم".
يمكن القول إن نتاج هذا "الباحث"، حتى الآن، ليس بالشيء الخارق الذي تُفغر له الأفواه دهشًا؛ ذلك أن النظام لا يقدر على البحث إلا في مجال تعلُّم الآلة. زد على ذلك أنه يفتقر إلى ما يعتبره أغلب العلماء عنصرًا أصيلًا في العملية البحثية: القدرة على إنجاز الأعمال المختبرية. يقول جربراند سيدر، عالم المواد بمختبر لورانس بيركلي الوطني في كاليفورنيا: "عملٌ كثير يتطلَّبه الانتقال من نظام ذكاء اصطناعي قادر على صياغة الفرضيات إلى وضع تلك الفرضيات موضع التنفيذ من خلال روبوت بحثي". إلا أنه يستدرك بالقول: "إذا مددتَ بصرك إلى المستقبل، ستجد أن هذه هي الوجهة التي تتجه إليه العلوم، أو كثير منها — لا تخالجني في ذلك ذرةٌ من شك".
أتمتة التجارب العلمية
تقوم فكرة هذا الباحث الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي على نموذج مما يُعرف بالنماذج اللغوية الكبيرة (LLMs). وهذا النموذج يوظِّف إحدى خوارزميات تعلُّم الآلة للبحث في الدراسات السابقة عن عملٍ بحثي مشابه. ثم كان أن استعان الباحثون بالحوسبة التطوُّرية (evolutionary computation)؛ وهي منهجية بحثية مستلهَمة من فكرة الطفرات والانتخاب الطبيعي في نظرية التطوُّر التي وضعها داروين. عَبْر هذه المنهجية، يُدخل النظام تعديلات عشوائية طفيفة على الخوارزمية، ثم يختار التعديلات التي يكون من شأنها رفع كفاءة النموذج.
وهكذا، يمكن القول إن هذا الباحث الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي يُجري "تجاربه" الخاصة، من خلال تشغيل الخوارزميات، ثم تقييم مدى كفاءة أدائها. وفي المحصلة، يُخرج لنا النظام ورقة بحثية، مصحوبةً بتقييم لها، فيما يشبه عمل المحكّمين لدى إجرائهم مراجعة الأقران. وبمجرد الانتهاء من "إثراء الدراسات السابقة"، عبر هذه الطريقة، يمكن للخوارزمية أن تعيد هذه الدورة مرةً أخرى، استنادًا إلى النتائج التي خلصت إليها.
يقرُّ الفريق الذي وضع الدراسة بأن التقدُّم الذي يحرزه "باحثهم" القائم على الذكاء الاصطناعي لا يكون إلا متدرِّجًا. ومن الناس مَن استقبل إنتاج هذا "الباحث"، في تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بلاذع النقد. علَّق أحدهم على منتدى «هاكر نيوز» Hacker News قائلًا: "بصفتي محررًا في دورية علمية، سأرفض هذه الأوراق [لو قُدِّمت لي]. وبصفتي مراجعًا، سأرفض العمل عليها أيضًا".
يرى وست أن مؤلفي الدراسة قدَّموا رؤية اختزالية للطريقة التي من خلالها يقف الباحث على حالة البحث في الحقل العلمي الذي يخوض فيه. وذلك لأن قسمًا لا يُستهان به من معارف الأكاديميين تتأتَّى من ارتياد المؤتمرات، ومحادثة الزملاء عند الذهاب لإحضار كوب ماء بارد، مثلًا، وليس بالضرورة من مراجعة الدراسات السابقة. يقول وست: "العلمُ ليس مجرد كومةٍ من الأوراق البحثية. محادثة لا تتجاوز خمس دقائق يمكن أن تكون أنفع من خمس ساعات تقضيها في مراجعة الأدبيات".
يتفق مع وست زميله بجامعة واشنطن، شاهان ميمون. لكنهما كليهما يثنيان على مؤلفي الدراسة لإتاحتهم الأكواد والنتائج إتاحةً تامة. فهذا ما أتاح للباحثَين تحليل النتائج التي خلص إليها "الباحث" الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي. ومما استرعى انتباههما، مثلًا، أن النظام يتحيَّز للأشهر؛ أي أنه يفضِّل الأوراق البحثية التي يكثُر الاستشهاد بها. ويقول الباحثان إنهما منشغلان بتقييم دقة اختيارات هذا النظام، للنظر فيما إن كانت هذه الاختيارات هي الأنسب والأوثق اتصالًا بموضوع البحث.
مهام مكررة
غنيٌّ عن البيان أن هذا "الباحث الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي" ليس المحاولة الأولى لأتمتة جوانب من عمل الباحث. فالحلم بأتمتة العلوم قديمٌ قِدَم الذكاء الاصطناعي نفسه، الذي ترجع أصوله إلى خمسينيات القرن العشرين، على حد قول توم هوب، الباحث في علوم الحاسب بمعهد للذكاء الاصطناعي في القدس. قبل عقدٍ من الزمن، على سبيل المثال، كان في إمكان «الإحصائي المؤتمت» Automatic Statistician2 أن يحلل مجموعات البيانات، ويكتب أوراقًا بحثية. بل إن سيدر ورفاقه نجحوا في أتمتة بعض الأعمال التي تؤدَّى على طاولات المختبرات، بتطويرهم نظامًا أطلقوا عليه «الكيميائي الروبوت» robot chemist، الذي أزاحوا عنه الستار العام الماضي، وهو نظام قادر على تجميع مواد جديد، وإجراء تجارب عليها.3
يرى هوب أن النماذج اللغوية الكبيرة الحالية "تعجز عن الإتيان بنتائج علمية جديدة ونافعة، تتجاوز التجميعات السطحية للكلمات الرنانة". ومع ذلك، فهو يعتقد أنه حتى لو أخفق الذكاء الاصطناعي في أداء المهام العلمية الإبداعية في المستقبل القريب، فيبقى أن بإمكانه أتمتة الجوانب المكررة في العملية البحثية. وأضاف: "عند المستوى الأدنى [من العمل البحثي]، تحتاج إلى تحليل طبيعة الشيء، وكيف يستجيب. ليس هذا الجانب الإبداعي في العملية البحثية، لكنه يمثل 90% من عملنا". وذكر لُو أنه تلقَّى تعليقات مماثلة من عديد الباحثين. يقول: "ثمة مَن يقول: لديَّ مئة فكرة، ولا أجد متسعًا من الوقت للعمل عليها. عليك بالباحث الذكي، ليؤدي عنك هذه المهمة".
يقول لُو إن توسيع نطاق قدرات الباحث القائم على الذكاء الاصطناعي — بحيث تتخطى أبحاث الذكاء الاصطناعي إلى ما عداها، وترتاد حتى المجالات بالغة التجريد مثل الميكانيكا البحتة — هذا التوسيع ربما يستلزم تزويد هذا الباحث بتقنيات أخرى، تتجاوز النماذج اللغوية الكبيرة. من ذلك، مثلًا، أن العمل الجاري في شركة «ديب مايند» DeepMind، المملوكة لشركة «جوجل»، ومقرُّها لندن، أظهر قوة النماذج اللغوية الكبيرة حين تكون معزَّزة بتقنيات الذكاء الاصطناعي "الرمزي" في حل المسائل الرياضية. إنها تبني منظومة قوامها القواعد المنطقية، بدلًا من الاتكاء على مجرَّد التعلُّم من الأنماط الإحصائية في البيانات. غير أن النسخة الحالية، كما يقول، ليست سوى البداية: "نعتقد حقًا أن هذا لا يعدو كونه النسخة الأولى من الذكاء الاصطناعي العلمي، وحاله في ذلك أقرب إلى «جي بي تي 1» GPT-1"، في إشارةٍ إلى أول نموذج لغوي طوَّرته شركة «أوبن إيه آي» OpenAI، التي تتخذ من مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، مقرًا لها.
يرى وست أن نتائج الدراسة تزيد سخونة نقاش مستعر أصلًا، ويشغل عقول كثيرٍ الباحثين هذه الأيام. يقول: "جميع زملائي، على اختلاف تخصصاتهم، يحاولون أن يفهموا موقع الذكاء الاصطناعي في عملهم. هذا يدفعنا دفعًا إلى التأمل في علم القرن الحادي والعشرين: ما يمكن أن يكون، وما هو كائن بالفعل، وما لا يمكن أن يكون قط".
* هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 30 أغسطس 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.283
References
تواصل معنا: