رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 15 أغسطس 2024
دعم التصنيع المحلي للمواد الخام واستخدام "الاسم العلمي" للأدوية أهم الحلول
منذ سنوات، اعتادت "سلوى" الحصول على عبوات دواء الأنسولين من التأمين الصحي لمعاناتها من مرض السكري الذي جعلها في حاجة إلى استهلاك جرعات منتظمة من الأنسولين بمعدل عبوة واحدة أسبوعيًّا.
لم تكن "سلوى" -66 سنة- تشعر بالقلق حيال تأمين الدواء حتى بدأت أزمة نقص الأدوية الأخيرة في مصر منذ عدة أشهر؛ إذ اختفى الأنسولين من صيدليات التأمين الصحي، والصيدليات الخاصة أيضًا، وبعد قضاء خمسة أيام من دون جرعة أنسولين واحدة، لجأت إلى إحدى قريباتها المصابة بالسكري والتي تستخدم دواءً محليًّا آخر غير الذي تتناوله، وتشاركتاه معًا حتى يعثرا على عبوات أخرى في وقت لاحق.
بدأت أزمة الدواء الأخيرة في مصر نهاية فبراير الماضي، وبلغ عدد أصناف الدواء غير المتوافرة أكثر من ألف نوع، منها أدوية حيوية مثل المضادات الحيوية وأدوية الأمراض المزمنة كالضغط والسكر، وأدوية الغدة الدرقية، وفق تصريحات رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية المصرية الدكتور "علي عوف" لـ"نيتشر ميدل إيست".
ويشير تقرير لمؤسسة "إيكيوفا" -شركة متعددة الجنسيات تخدم الصناعات المدمجة في تقنيات المعلومات الصحية والبحوث السريرية- إلى أن "نسبة مبيعات الدواء في مصر في الربع الأول من عام 2024 بلغت 32.4%"، وسط توقعات بأن تشهد "نموًّا كبيرًا بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 6.45٪ حتى عام 2029".
مدخلات صناعة الدواء
سوق الدواء المصرية هي كبرى الأسواق الإفريقية بحجم مبيعات يبلغ 7 مليارات دولار سنويًّا، وشهدت نموًّا خلال السنوات الـخمس الماضية ليبلغ حجم التصنيع المحلي 91% من إجمالي الدواء مقابل 9% للمستحضرات المستوردة، وفق إحصائية لمجلس الوزراء المصري.
لكن التصنيع المحلي يعتمد اعتمادًا شبه كامل على الخامات المستوردة من الخارج، بنسبة تتخطى 95%، وبالتالي ترتبط كل مدخلات صناعة الدواء في مصر مباشرةً بسعر الدولار الذي ارتفع عدّة مرات في الآونة الأخيرة، وهنا تكمن الأزمة.
يقول الدكتور محمد الشيخ -نقيب صيادلة القاهرة- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": تشمل مدخلات صناعة الدواء التي تستورد من الخارج المواد الخام الأساسية أو غير الأساسية، ومواد التغليف والتعبئة، وعندما حدث نقص في العملة الأجنبية، كان هناك مخزون إستراتيجي من الدواء في المصانع والصيدليات وشركات التوزيع، لكنه نفد.
يضيف "الشيخ": بدأت الأزمة في الانفراج مع إعادة توفير العملة الأجنبية، لكن المصانع لم تعمل بكامل طاقتها بعد، وفي المستقبل يجب تبنّي عدد من الحلول، مثل دعم التصنيع المحلي للمواد الخام لحماية قطاع الأدوية من التأثر بسعر الدولار، والتصنيع المحلي لمواد التعبئة والتغليف، ويجب على الأطباء وصف الدواء بالاسم العلمي (الاسم الذي يسجل به الدواء فى الجهات المعنية مثل وكالة الغذاء والدواء الأمريكية)، وليس بالاسم التجاري (الاسم الذي تختاره الشركة المنتجة للدواء)، لأن الأدوية كلها متساوية في المفعول طالما تم اعتمادها.
من جهته، يرى الصيدلي "إسلام" -اسم مستعار- أن أحد أسباب الأزمة هو "السوق السوداء" للدواء، مضيفًا: أحد أصناف الدواء المحلي كان سعره 95 جنيهًا، وعندما نجحنا في توفيره وجدنا أن سعره يتعدى مئتي جنيه؛ إذ نشطت سوق سوداء تبيع أصناف الدواء غير المتوافرة بأضعاف سعرها.
وكانت هيئة الدواء المصرية قد أعلنت في بيان رسمي عن ضبط 13 مكانًا غير مرخص وأدوية مهربة بـ4 ملايين جنيه خلال شهر يوليو الماضي، من بينها أماكن تخزن كميات من الأدوية وتحجبها عن التداول.
زيادة الأسعار
بالتزامن مع الأزمة، أعلنت شركة العاشر من رمضان للصناعات الدوائية والمستحضرات "راميدا" موافقة الهيئة المصرية للأدوية على زيادة أسعار جميع منتجاتها الأساسية بنسب تتراوح بين 40% و50%، ويشمل ذلك 22 صنفًا دوائيًّا.
في حين أوضح رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي أن "ارتفاع سعر الدولار حقق خسائر لمصانع الأدوية، لذا تم الاتفاق على زيادة أسعار نحو 3000 صنف من الأدوية، على أن يتم تعويض جزء من خسائر المصانع من خلال بيع المنتجات الأخرى غير الضرورية للمواطنين".
الرسالة ذاتها أكدها الدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة والسكان، الذي وعد بأن يكون تحريك أسعار الأدوية طفيفًا بنسب تتراوح بين 25 و35%، مضيفًا في تصريحات تلفزيونية: "إذا لم يتم اتخاذ هذه الخطوة، فستتوقف صناعة الدواء".
ومؤخرًا أعلن علي الغمراوي -رئيس هيئة الدواء المصرية- خلال مؤتمر صحفي بدء توافر الأدوية الناقصة تدريجيًّا من خلال عدة إجراءات اتخذتها الدولة تتضمن "تدبير العملة الأجنبية لاستيراد المواد الخام، وإعادة النظر في تسعير بعض الأدوية المهمة بعد تحرير سعر الصرف، ورفع معدلات الإنتاج إلى كامل طاقتها، وبالتالي أصبح الآن هناك 81 صنفًا دوائيًّا ناقصًا فقط".
كما اتخذت الهيئة إجراءات أخرى، مثل تقليص فترة الاستيراد بتحويل طرق الشحن المختلفة إلى الشحن الجوي العاجل، وتوفير جميع أدوية الأمراض المُزمنة بصيدليات "الإسعاف" التابعة للشركة المصرية للأدوية، وهي الشركة الحكومية الأولى المسؤولة عن تجارة وتوزيع المستحضرات الطبية في مصر.
فيما ذكر بيان لرئاسة مجلس الوزراء المصري أنه "سيتم توفير 7 مليارات جنيه للعمل على سرعة توافر الأدوية والمستلزمات الطبية المطلوبة بالمستشفيات والصيدليات".
التأمين الصحي الشامل
يرى "عوف" أن الدواء صناعة لها تسعيرة جبرية وأبعاد اجتماعية، ومدخلات ذات تكلفة مثل المادة الخام، وزيادة التكلفة أثرت على توافر الدواء، وهناك تكاليف أخرى غير مباشرة أثرت في تفاقم الأزمة، مثل ارتفاع سعر البنزين الذي أثّر على أسعار الطاقة، والنقل، وفواتير الكهرباء.
يضيف "عوف" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": زيادة أسعار الدواء بنسبة 25% فقط قد تكون حلًّا، لكن يجب أيضًا دعم الحكومة لصناعة الأدوية عن طريق دعم الطاقة وتوفير العملة الأجنبية والإعفاء من الضرائب، وتشجيع الأطباء على كتابة الأدوية بالاسم العلمي، وتعميم تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل الذي يغطي شريحةً أكبر من المرضى.
احتياجات السوق؟
لا تتمثل الانفراجة المأمولة للأزمة في توفير الأدوية الحيوية الناقصة فقط، بل في حجم توافرها مقارنةً باحتياجات السوق أيضًا، وفق محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء (مؤسسة أهلية غير حكومية).
يقول "فؤاد": مصر فيها 17 ألف صنف دوائي مسجل، من بينها أصناف قديمة أو أصناف توقف إنتاجها، وحاليًّا يتم إنتاج ما بين 8 آلاف إلى 10 آلاف صنف دوائي، ورصدنا من خلال عملنا في المركز استمرار نقص 181 صنفًا دوائيًّا مهم، سواء كان مختفيًا أو لم يتم توفيره بما يكفي لسد احتياجات السوق، وهذا الرقم توصلنا إليه من خلال شكاوى المواطنين والتواصل مع أصحاب الصيدليات في محافظات مختلفة، فعلى سبيل المثال تم توفير 300 ألف عبوة أنسولين منذ أيام، وستتوافر عبوات أخرى خلال الشهور القادمة، ولكن هذه الكميات لا تكفي الجمهور؛ لأن نصيب كل صيدلية عبوات قليلة وعدد المرضى يفوقها بكثير.
ربما ارتسمت ابتسامة خجولة على وجه "سلوى"، التي عثرت على عبوتين فقط من دواء السكَّري، لكن تلك الابتسامة لن تستمر طويلًا بعدما بدأت رحلة بحث جديدة في صيدليات مختلفة بحثًا عن عبوة "أنسولين" أو أكثر في ظل أزمة ما زالت تبحث عن انفراجة طال انتظارها.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.255
تواصل معنا: