مقالات

الغذاء دواء: تجارب إكلينيكية تثبت الفوائد الصحية للعلاج الغذائي

نشرت بتاريخ 22 مايو 2024

تُظهر أدلة متنامية أن التدخلات الغذائية قد تتسم بالفاعلية في علاج بعض الأمراض أو تأخير تقدمها، لكن لا تزال هناك حاجة لتجارب أوسع نطاقًا لتبني هذا النهج.

بريا فينكاتيسان

Credit:id-work/ DigitalVision Vectors / Getty

بدأ إحياء المبدأ القائل بأن النظام الغذائي والتغذية قد يلعبان دورًا مباشرًا في التأثير على الإنسان من ناحية الصحة والمرض. فمن المعروف أن التغذية الرديئة غير الصحية تعزز بدرجة كبيرة خطر الإصابة بالسمنة وبعض الأمراض غير المعدية، مثل مرض القلب التاجي، وداء السكري من النوع الثاني، إلا أنها أيضًا قد تعزز خطر الإصابة بأمراض أخرى مثل السرطان وهشاشة العظام، فضلًا عن أنها قد تسبب اضطرابات إدراكية معينة. وهو ما يؤكده جوردي سالاس سالفادو، الأستاذ المتخصص في علم الغذاء والتغذية من جامعة روبيرا الأول بيرجيلي في مدينة ريز الإسبانية، قائلًا: "المساواة في حق الوصول إلى الأطعمة الصحية هو جانب من علاج الأمراض، أعتقد أنه ضروري".

وبحسب ما نشرته عام 2017 إحدى دراسات العبء العالمي للأمراض، عُزي إلى عوامل الخطورة الغذائية حدوث حوالي 11 مليون حالة وفاة حول العالم بين عامي 1990 و2017 وضياع حوالي 255 مليون سنة من عمر الأفراد بسبب اعتلال الصحة في الفترة نفسها (المرجع 1). ومن أمثلة عوامل الخطورة الغذائية تلك، ارتفاع نسبة تناوُل الصوديوم، وانخفاض نسبة تناوُل الحبوب الكاملة، والفاكهة والخضروات. فقد أظهرت لجنة تابعة لدورية «لانسيت» Lancet في منتدى « إيت »EAT غير الربحي أن الأنظمة الغذائية القائمة على البروتينات النباتية والدهون غير المشبعة والحبوب الكاملة والإكثار من تناوُل الفاكهة والخضروات تعزز الصحة وتقلص خطر الإصابة بأمراض مزمنة جسيمة، كذلك يسفر عن النتيجة ذاتها الحد من تناوُل اللحوم، والحبوب المكررة والسكر2.

على سبيل المثال، ثبت أن اتباع حميات البحر المتوسط مع تناوُل مكملات من زيت الزيتون أو خلائط معينة من المكسرات يقلل احتمالية الإصابة بالحالات الجسيمة من أمراض القلب والأوعية الدموية.

وقد أطلقت الولايات المتحدة استراتيجيات لإرشاد المستهلكين وتوعيتهم بالخيارات الغذائية الجيدة، لا سيما في المناطق الجغرافية والفئات الاجتماعية الاقتصادية التي تواجه انعدام الأمن الغذائي. كذلك يلفت خبراء إلى أن الغذاء واستهداف أغذية بعينها يخدم في علاج الأمراض ويتيح للمرضى وسيلة للسيطرة عليها.  وهذا المفهوم، الذي يُشار إليه أيضًا باسم "الغذاء دواء"، أو "الغذاء كدواء"، يعتمد على التدخلات الغذائية لإدارة و/أو علاج حالات إكلينيكية بعينها والوقاية منها. في ذلك الصدد، يقول داريوش موزافاريان، مدير «معهد الغذاء دواء» من جامعة تافتس في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية: "ثمة العديد من الأمراض التي ينبغي التوصية بتغيير العادات الغذائية كخط علاج أول لها، سيرًا على توجيهات إكلينيكية متعارف عليها بشكل واسع".  إلا أنه يضيف أن "التدخلات الغذائية المُجدية نادرًا ما تتحقق في الواقع العملي". ورغم ما يبشر به مفهوم "الغذاء دواء"، ثمة العديد من مواطن القصور التي تعتري الأدلة الداعمة له، إذ لم يثبت تحسن صحة المرضى عبر التدخلات الغذائية في التجارب الإكلينيكية إلا في مجالات علاجية محدودة.

أمراض القلب والأوعية الدموية وداء السكري

اقتربت التدخلات الغذائية أقصى ما اقتربت من تحقيق فائدة مباشرة لها في حالات أمراض القلب والأوعية الدموية وداء السكري. ومن أمثلة تلك التدخلات نهج يُعرف باسم (النهج الغذائي لوقف ارتفاع ضغط الدم Dietary Approaches to Stop Hypertension) أو اختصارًا DASH، يشتمل على تناوُل الفاكهة والخضروات والحبوب الكاملة، والألبان قليلة الدسم، ولا يسمح بتاتًا بالأطعمة المالحة والدهون المشبعة والكحول. وقد أظهرت البحوث في تحليل تجميعي أن هذا النهج يخفِّض بصورة ملحوظة ضغط الدم، مقارنة بالنتائج التي تحققت مع أنواع أخرى من التدخلات الغذائية، مثل حمية البحر المتوسط، التي تسمح بتناوُل كميات معتدلة من النبيذ الأحمر والملح 3. إذ كان انخفاض ضغط الدم الذي رصده الباحثون مع هذا النهج مماثلًا لذلك المرصود في دراسات لعلاجات دوائية أحادية مثل العلاج بعقار «نيترينديبين» nitrendipine، وهو ما يدل على أن هذا النهج قد يخدم كبديل للدواء في حال المصابين بارتفاع ضغط الدم ممن في المراحل الأولى من هذا المرض. واليوم، توصي جمعية القلب الأمريكية والكلية الأمريكية لأمراض القلب باتباع النهج نفسه لمساعدة البالغين على خفض كوليسترول البروتين الدهني منخفض الكثافة وضغط الدم لديهم4، وتتناول في الوقت الحالي دراسات هذا النهج بهدف علاج حالات مرضية أخرى تصيب القلب والأوعية الدموية والوقاية منها، مثل فشل القلب.

وفي دراسة أخرى، اكتشف سالاس سالفادو وفريقه البحثي أن اتباع إحدى حميات البحر المتوسط (مع تناوُل مكملات من زيت الزيتون البكر الممتاز أو المكسرات) يقلل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية الجسيمة، مقارنة بالنتائج التي تحققت في حال البالغين المعرضين لخطر الإصابة بهذه الأمراض ممن يتبعون نظامًا غذائيًا منخفض الدهون. كذلك أظهرت دراسة معروفة باسم « الوقاية بحمية البحر المتوسط» أو اختصارًا « بريديميد » PREDIMED أن هذه التدخلات الغذائية خفضت معدلات الإصابة بعدد من اضطرابات القلب والأوعية الدموية وهي احتشاء عضلة القلب الحاد 5والجلطات والوفاة، وأظهر تحليل لاحق أن الحمية أدت إلى انخفاض عدد عوامل الخطورة التي تهدد بتجلط الدم، مثل ارتفاع عدد الصفائح الدموية 6. تعقيبًا على ذلك، يقول سالاس سالفادو: "كانت دراسة «بريديميد» من دراسات التدخلات الغذائية البارزة في سياق الوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية".

إدخال بعض التغييرات على العادات الغذائية يمكنه أيضًا أن يساعد المصابين بداء السكري. على سبيل المثال، في دراسة باسم «دايريكت »DiRECT (التجربة الإكلينيكية لإخماد داء السكري Diabetes Remission Clinical Trial )، عمد نافيد سَتَار، من كلية طب القلب والأوعية الدموية والأمراض الاستقلابية في جلاسجو بالمملكة المتحدة مع فريقه البحثي إلى تجربة تأثير حمية بدائل غذائية منخفضة السعرات الحرارية بين أكثر من 300 شخص مصابين بداء السكري من النوع الثاني، بعد حذف جميع الأدوية من نظامهم العلاجي 7. ومقارنة بالمرضى الذين تلقوا الرعاية القياسية المثلى بالمعايير الحالية، كان عدد المرضى الذين نجح إخماد داء السكري لديهم بعد 12 شهرًا أكبر كثيرًا بين من اتبعوا هذه الحمية. ووجد سَتار أن خمود الداء استمر حتى 24 شهرًا بين أكثر من ثلث المشاركين الذين أُلحقوا بمجموعة العلاج بهذا التدخل الغذائي8.  تعقيبًا على ذلك، يقول ستار "حالات داء السكري من النوع الثاني تظهر العدد الأكبر من الشواهد على أنها تتأثر بالتدخلات الغذائية، إذ يمكن لانخفاض الوزن أن يحسن سريعًا مستويات الجلوكوز في الدم".

وقد قادت نتائج الدراسة هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا واسكتلندا إلى تقديم وجبات منخفضة السعرات الحرارية للمرضى المصابين بداء السكري من النوع الثاني كوسيلة للوصول إلى إخماد المرض. وأقرت الكلية الأمريكية لطب الأنماط الحياتية (American College of Lifestyle Medicine) في الولايات المتحدة بأن "الأنظمة الغذائية كإجراء تدخلي أولي لعلاج داء السكري من النوع الثاني يُمكن أن تنجح في إخماد المرض بين العديد من البالغين". 9 ويوضح ستار أن خفض الوزن يُعد جوهريًا في علاج العديد من الأمراض المزمنة التي قد تسببها أو تفاقمها السمنة. ويضيف ستار، الذي يرأس أيضًا حملة للحكومة البريطانية قيمتها 20 مليون جنيه إسترليني لمكافحة السمنة باسم Obesity Mission (عملية مكافحة السمنة): "من الواضح أننا بحاجة إلى تجربة مزيد من الحميات منخفضة السعرات الحرارية وغيرها من الحميات التي تحقق انخفاض وزن مُعتبر في العديد من المناطق التي تضرب بها الأمراض.

Natallia Khlapushyna / Alamy Stock Photo

صحة المرأة

كذلك يمكن للتدخلات الغذائية أن تتسم بالفاعلية في حالات اضطرابات الغدد الصماء وغيرها من الأمراض التي تصيب بالدرجة الأولى النساء، مثل متلازمة تكيُس المبايض (PCOS)، وانتباذ بطانة الرحم. إذ تتلازم الإصابة بتكيُس المبايض مع السمنة، وقد وجدت دراسة ذات مجموعات مقارنة علاقة بين الاتباع الصارم لإحدى حميات البحر المتوسط وانخفاض شدة الإصابة بمتلازمة تكيُس المبايض10. وهو ما يؤكده سالاس سالفادو بقوله: "اتباع حمية غذائية مع مزاولة التمارين الرياضية يُعدان خط العلاج الأول للمصابات بمتلازمة تكيُس المبايض"، بيد أن الحمية الأمثل لهذه الفئة من المرضى لم تتضح بعد.

كذلك قد يحُد تناوُل غذاء صحي من احتمالية الإصابة بهشاشة العظام وكسورها بين النساء من كبار السن أو في عمر انقطاع الطمث. فقد وجدت مراجعة لدراسات سابقة أن صحة العظام ومخزون الجسم الصحي من المعادن تعززهما الأنظمة الغذائية الغنية بالفاكهة والخضروات والحبوب الكاملة، ومنتجات الألبان منخفضة الدهون11. على النقيض، تدهورت صحة العظام بين من اتبعوا أنماط التغذية "الغربية"، مثل تناوُل المشروبات المُحلاة، والأطعمة المقلية، والسكريات، واللحوم المعالجة. كذلك قد يفيد إدخال تعديلات محددة على النظام الغذائي النساء المصابات بانتباذ بطانة الرحم، بحسب ما أشارت مراجعة منهجية للدراسات في هذا الصدد، أفادت بحدوث تأثيرات إيجابية كنتيجة لهذه التعديلات (وإن كانت بعض الدراسات التي شملتها هذه المراجعة أظهرت احتمالية لانطوائها على انحيازات إحصائية).

الإدراك والخرف

تشير أدلة متنامية إلى الفائدة المحتملة لإدخال تعديلات محددة على النظام الغذائي في طيف من الاضطرابات العصبية، بدءًا من الصداع النصفي إلى داء أُلزهايمر، لكن تبقى هناك حاجة لمزيد من الأدلة الداعمة لذلك، كما يحذر باحثون.  ففي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه وُجدت علاقة بين الإجهاد ومشكلات النوم والنمط الغذائي والإصابة بنوبات الصداع النصفي. إلا أن إليزابيث كيه. سينج، من كلية آينشتاين للطب في مدينة نيويورك بولاية نيويورك الأمريكية تلفت في هذا الصدد إلى أن "إدخال تعديلات على النظام الغذائي لا يُعد خط العلاج الأول" في هذه الحالات. لكن، بتعبيرها، فإن الأنظمة الغذائية "يرجح أن تساعد في خفض عدد مرات الإصابة بنوبات الصداع النصفي"، وذلك بالحيلولة دون نشوب هذه النوبات. وتصف لنا سينج عددًا من الدراسات الجارية التي تسعى في الوقت الحالي إلى تقييم أثر عدد من العناصر الغذائية، ومن أمثلتها الدهون، التي قد تفيد من يصابون بالصداع النصفي، وعناصر غذائية أخرى قد تحفز الإصابة بهذا الاضطراب.  حول ذلك، تضيف سينج: "بعض المرضى قد يكونون أكثر تأثرًا بعناصر غذائية معينة محفزة لهذا الاضطراب، ومنها الكافيين والكحوليات.  فمما لا شك فيه أن النظام الغذائي قد يخدم كأحد عناصر استراتيجية علاج سلوكي شاملة، على أن الأدلة الداعمة لفائدة أنظمة غذائية بعينها، تبقى أولية".

ومن الأمراض التي تنحسر فيها قوة هذه الأدلة لكن تكثر حولها الدراسات حاليًا، داء الخرف، وهو مشكلة صحية متنامية مع احتمالية تزايُد أعمار سكان العالم، لكن بما أن ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري من النوع الثاني، والسمنة هي جميعها عوامل خطورة تهدد بالإصابة بالخرف، فالحد من هذه الخطورة عبر نظام غذائي صحي يمزج، على سبيل المثال، بين حمية البحر المتوسط والنهج الغذائي لوقف ارتفاع ضغط الدم، فيما يعرف باسم نهج MIND، قد يؤخر الإصابة بالخرف أو يقي منها.

والتدخلات الغذائية المواءمة حسب حالة المريض قد تتسم بالفاعلية بين المعرضين لخطر الإصابة بالخرف، وهي فكرة تخضع بالفعل للدراسة والتقييم في تجارب الصحة الإدراكية وفي حالات اضطراب شحميات الدم.13. في هذا الإطار، يقول حسين إن ياسين، عضو مجموعة عمل «التغذية للوقاية من الخرف» Nutrition for Dementia Prevention Working Group، من كلية كيك للطب في جامعة جنوب كاليفورنيا، بمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية: "يُعد الأليل APOE ε4 أكثر ما يهدد بخطر الإصابة بداء أُلزهايمر في المراحل المتأخرة من العمر بين عوامل الخطورة الجينية، وهو يرتهن بأيض الدهون والجلوكوز في الخلايا". ويضيف: "قد يحتاج حاملي الأليل APOE ε4 إلى الإكثار من تناوُل الأطعمة المحتوية على أحماض أوميجا-3 الدهنية في عمر أصغر، لتأخير إصابتهم بالخرف". أما موزافاريان، فهو يؤيد تناوُل المرضى لوجبات مواءَمة طبيًا لتناسبهم، ويشير كمثال على ذلك إلى تجارب أولية أجراها برنامج «ميديكيد» Medicaid للرعاية الصحية في الولايات المتحدة. وهذه التدخلات الغذائية المواءمة قد تسفر عن فوائد صحية واقتصادية أيضًا، إذ دلت دراسة مرجعية، على أنه على مدار أكثر من عامين، قل عدد حالات دخول المستشفيات بين المشاركين فيها ممن تلقوا وجبات مواءمة طبيًا لملاءمتهم14.

من جانب آخر، أفاد عدد من الخبراء بعدم اعتقادهم بأن اتباع الحميات يُعد وسيلة علاجية مناسبة. فحول ذلك، يقول ياسين على سبيل المثال: "في الوقت الحالي، وفي غالبية المراكز الطبية الأكاديمية، لا توصف الحميات الغذائية كخط علاج أول للمصابين بداء أُلزهايمر. إلا أنه يستدرك قائلًا: "رغم عدم كفاية الأدلة التي تشير إلى دور تلعبه الأنظمة الغذائية في علاج هذا المرض، تدعم دراسات عالية الجودة وجود دور تلعبه هذه الأنظمة في الوقاية منه". وفيما يخص الصحة الإدراكية، يُعد دور الأنظمة الغذائية فيها غير واضح. على سبيل المثال، أظهرت مراجعة لدراسات حول تأثير تناوُل أطعمة طبيعية معينة أوصت بها لجنة منتدى «إيت» التابعة لدورية «لانسيت» المعنية بأبحاث الغذاء والكوكب والصحة أن ما يتوفر في الوقت الحالي من أدلة داعمة لوجود فائدة إدراكية لهذه الأطعمة يُعد ضعيفًا، رغم أنه من الثابت أن الأيض الغذائي ينظم إنتاج الطاقة الحيوية على مستوى الخلايا ويؤثر تأثيرًا غير مباشرًا في أمراض التنكس العصبي عبر المحور الأمعائي الدماغي15.

وهنا، ينوه ياسين إلى أن التجارب الإكلينيكية غير موائمة لدراسة عدد من الأمراض مثل الخرف الذي يستغرق ظهور أعراضه سنوات، بل حتى عقود. ويضيف: "تأثيرات الأنظمة الغذائية على الإدراك قد تكون غير مباشرة، وربما تستغرق سنوات للتسبب في حدوث الإصابة بالخرف. من ثم، تظهر الحاجة إلى مزيد من الدراسات لفهم الكيفية التي تتفاعل بها الأنماط الغذائية مع عوامل الخطر المهددة بالإصابة بالخرف لمفاقمة التدهور الإدراكي" وبعد ذلك، يمكن استهداف دراسة هذه الأنماط الغذائية في التجارب الإكلينيكية.

تجارب صعبة

يُجمع الخبراء على صعوبة إجراء دراسات عشوائية واسعة النطاق لتأثير التدخلات الغذائية. ويُعد إجراء هذه التجارب في الدول ذات الدخل المتوسط أو المنخفض صعبًا بالأخص، ويعود ذلك في الأغلب إلى التكاليف المرتبطة بإجرائها. كما تركز التجارب في هذه الدول على نقص التغذية، بينما "هناك حاجة إلى إقرار ممولي التجارب بالعبء الهائل الذي تشكله الأمراض غير المعدية على الصحة، وهو عبء لا يشكله نقص التغذية فقط"، حسبما يفيد موزافاريان.

في هذا السياق، يشير سالاس سالفادو إلى أن التدخلات الغذائية يصعب تقييسها، إذ يعمل كل باحث على الوصول إلى الجرعة الأمثل "المناسبة"، أو الحصة الأنسب من المغذيات الكبرى. كذلك يُعد التزام المرضى بالأنظمة الغذائية مشكلة أخرى، بحسب ما تفيد سينج، التي تضيف: "يعود جانب من (الصعوبة) إلى عنصر تغيير العادات السلوكية في التجارب الإكلينيكية، فتغييرها صعب للغاية.  "إذ إن غالبية الأشخاص يواجهون صعوبة في الامتثال لنظام غذائي جديد، حتى في سياق التجارب الإكلينيكية". والتجارب التي تحتكم إلى مقارنة بين معلمات الاستقلاب بين المشاركين يمكن استخدامها للتصدي للإشكاليات المرتبطة بمدى الامتثال للأنظمة الغذائية، غير أنها تجارب مكلفة وصعبة للمشاركين ولا تعكس ظروف العالم الواقعي.

ويتمثل تحد آخر في أن بعض الأطياف لا تحظى بتمثيل كاف في تجارب دراسة تأثير التدخلات الغذائية. على سبيل المثال، في دراسة «دايريكت» التي أسلفنا الإشارة إليها والتي تتناول الإصابة بداء السكري من النوع الثاني، كان أغلب المشاركين في الدراسة من بيض البشرة، رغم أن خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني أكبر في مجموعات عرقية أخرى، مثل المجموعات العرقية المنحدرة من أصل جنوب آسيوي. من هنا، تعين على ستار وفريقه البحثي إجراء تجربة عشوائية أخرى باسم (STANDby) بين مجموعة صغيرة من الأتراب من جنوب آسيا للبرهنة على أن خسارة الوزن وخمود داء السكري من النوع الثاني يمكن تحقيقهما من خلال إدخال تغيير شامل على النظام الغذائي بين أفراد هذه المجموعة السكانية16 ويعلل لذلك، بقوله: "البُعد عن المراكز الأكاديمية واحتمالية الاصطدام بحواجز لغوية، والالتزام بجدول عمل وعدم توفُر إلا عدد محدود من وسائل النقل، هي جميعها عقبات تحول دون التحاق الأطياف ضعيفة التمثيل بالتجارب الإكلينيكية". ويؤكد ستار على ضرورة تقديم الخدمات المجتمعية في هذا السياق وبناء الثقة وتقديم وعود بالتعويض المالي أو توفير وسائل النقل لدى تعزيز التنوع الطيفي في التجارب الإكلينيكية.

ورغم التحديات التي تعترض تجارب إثبات فاعلية التدخلات الغذائية، يقر الخبراء بأنها ذات أهمية قصوى لا سيما في عهد رقمي يزخر بالتضليل المعلوماتي. فقد يظهر عدد من المفاهيم المغلوطة الخطيرة عن دور النظام الغذائي في غياب الأدلة القوية. من هنا، يقول سالاس سالفادو إن التواصل المجتمعي يلعب دورًا مهمًا في كل من "مقاربات التوعية والصحة العامة" المنشودة.

طعام صحي ورخيص التكلفة

كذلك تفرض الاختلافات الثقافية ووفرة الأطعمة والقيود المالية تحديات أخرى، إذ غالبًا ما تكون الأطعمة غير الصحية المُعالجة أيسر تكلفة من البدائل الصحية. وقد أشارت جمعية القلب الأمريكية إلى الدور المهم الذي تلعبه الأغذية في صحة القلب والأوعية الدموية، ولفتت إلى أنه رغم ذلك، في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، "مهَّدت منح الإعانة المالية الطريق للإنتاج الزراعي الموجه لصنع الحبوب والزيوت الرخيصة التي تستخدمها الصناعات لاستيفاء الطلب على المنتجات الغذائية التي خضعت لدرجة كبيرة من المعالجة".   وكثير من هذه المنتجات يحتوي على مستويات عالية من الصوديوم والحبوب المكررة والسكر والدهون غير الصحية.

لهذا السبب، يدفع ستار بأنه على الحكومات أن تفرض قيودًا على الوصول إلى الأطعمة الرخيصة الغنية بالسعرات، فيرى أنه على الحكومات "تغيير المنظومة الغذائية بحيث يعمد الأفراد إلى اختيار الأطعمة الأكثر فائدة للصحة دون الكثير من التفكير". وقد نُفذت تعديلات سياسية مماثلة في سنغافورة، التي تفرض اليوم ضرائب على المشروبات السكرية والكحوليات، لكن تدعم الأغذية الصحية مثل منتجات الحبوب الكاملة. غير أن المسألة لا تتعلق بوجوب دعم التدخلات الغذائية الصحية من عدمه، وإنما بالكيفية التي يمكن من خلالها تحمل تكاليف الأبحاث حول هذه التدخلات وكيفية إتاحتها. فحول ذلك، تقول سينج: "يتعين على المجتمعات إلقاء نظرة عن كثب على الخيارات العلاجية والمعززة للصحة التي اختارت أن تدعمها بالإعانات المالية". وتضيف: "نملك القدرة على اتخاذ قرارات حيال نوع المجتمع الذي نرغب أن نحيا به، وحيال الكيفية التي نود بها لهذا المجتمع أن يعزز صحة مواطنيه".

ومع انعدام الأمن الغذائي حول العالم، وعجز الملايين عن الوصول إلى الأطعمة الصحية ميسورة التكلفة، يُجمع الخبراء على ضرورة تحقيق المساواة في الوصول للأطعمة الصحية لعلاج الأمراض وتعزيز الصحة وخفض تكاليف الرعاية الصحية. وبتعبير موزافاريان، لبناء مجتمع صحي، يُعد الوصول العادل إلى الأطعمة الصحية لتعزيز الصحة وخفض تكاليف الرعاية الصحية للجميع "الوسيلة الوحيدة المتوقع أن تتسم بالفاعلية على نطاق واسع".

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.158


1.    GBD 2017 Diet Collaborators. Lancet 393, 1958–1972 (2019).

2.    Willett, W. et al. Lancet 393, 447–492 (2019).

3.    Gay, H. C. et al. Hypertension 67, 733–739 (2016).

4.    Van Horn, L. et al. Circulation 134, e505–e529 (2016).

5.    Estruch, R. et al. N. Engl. J. Med. 378, e34 (2018).

6.    Hernaez, A. et al. Nutrients 13, 559 (2021).

7.    Lean, M. E. J. et al. Lancet 391, 541–551 (2018).

8.    Lean, M. E. J. et al. Lancet Diabetes Endocrinol. 7, 344–355 (2019).

9.    Rosenfeld, R. M. et al. Am. J. Lifestyle Med. 16, 342–362 (2022).

10.Barrea, L. et al. Nutrients 11, 2278 (2019).

11.Movassagh, E. Z. & Vatanparast, H. Adv. Nutr. 8, 1–16 (2017).

12.Nirgianakis, K. et al. Reprod. Sci. 29, 26–42 (2022).

13.Rivera-Íñiguez, I. et al. Mol. Nutr. Food Res. 67, 2200675 (2023).

14.Berkowitz, S. A. et al. JAMA Intern. Med. 179, 786–793 (2019).

15.Dalile, B. et al. Lancet Planet. Health 6, 749–759 (2022).

16.Sattar, N. et al. Lancet Reg. Health Southeast Asia 9, 100111 (2023).