أخبار
Commentary

أول من سار على قدمين من أشباه البشر

نشرت بتاريخ 26 مايو 2023

تشير عظمة فخذ، وعظمتَا ذراع، لواحد من أشباه البشر، عثر عليها في تشاد، إلى أنه قبل سبعة ملايين عام، أي حين افترقتْ سلالتَا البشر والشمبانزي إحداهما عن الأخرى، كان أول نوع من أشباه البشر يسير على قدمين، لكنه في الوقت نفسه، امتلك القدرة على تسلق الأشجار.

دانييل إي ليبرمان

قبل ما يتراوح بين عشرة ملايين وستة ملايين عام، سلكت سلالة البشر مسارًا تطوريًّا منفصلًا عن الشمبانزي، فما الذي حملها على هذا؟ افترض العلماء الأوائل، الذين درسوا نشأة البشر، أن زيادة حجم الدماغ هو العامل الأساسي الذي وجّه تطورنا. لكن الحفريات المكتشَفة في إفريقيا، على امتداد قرن تقريبًا، أشارتْ إلى أن قدرة المشي على قدمين، وربما العيش بنظام غذائي يقل جودة نسبيًا عن نظيره في الشمبانزي، هما أولى السمات التي ميّزتْ أشباه البشر الأوائل (وهي أنواع صلة قرابتها للبشر أقرب منها للشمبانزي)1. ورغم ذلك، فنحن لا نزال نجهل كثيرًا من التفاصيل بشأن أشباه البشر الأوائل، والسبب الذي دفعهم إلى التطوّر. فهل كان آخر سلف مشترك بين البشر والشمبانزي أشبهَ بالشمبانزي أم بالجيبون أم بالسعدان؟ أم كان مختلفًا اختلافًا تامًّا عن هؤلاء كلهم؟ وهل تطور السير على قدمين اثنتين قبل انفصال البشر عن الشمبانزي، أم أثناء ذلك، أم بعده؟ يعرض لنا دافِر وزملاؤه2 أدلةً مستقاة من عالم الحفريات، تساعدنا في الإجابة عن هذه التساؤلات.

تكاد لا توجد أي حفرية يمكن القطع بأنها ترجع للسلف المباشر للشمبانزي، أو غيره من القردة العليا الإفريقية الموجودة في الوقت الحالي، وأفضل ما لدينا من أدلة، نستعين بها على تناول عدد من الأسئلة الكُبرى، يأتينا من أقدم أنواع أشباه البشر المُكتشفة (الشكل 1)، من بينها Ardipithecus Ramidus الذي يرجع تاريخه إلى فترة تتراوح بين 4.3 و4.5 مليون عام، وArdipithecus Kadabba الذي يرجع إلى فترة بين 5.2 و5.8 مليون عام، وOrrorin tugenensis الذي يرجع عمره إلى ٦ ملايين عام تقريبًا، وأخيرًا وليس آخرًا، أناسيّ الساحل التشادي Sahelanthropus tchadensis بعمرٍ قُدّر بسبعة ملايين عام تقريبًا. وكان قد أمكننا التعرّف على أناسيّ الساحل التشادي من خلال أجزاء من عظمة القحف، وبعض الشظايا المتبقية من عظم الفك وبعض الأسنان3. لكنّ دافِر وزملاءه يصفون ثلاث حفريات أخرى، منسوبة إلى أناسيّ الساحل التشادي وهي: جزء من عظمة رِجل (تحديدًا: عظمة فخذ)، وعظمتَا ذراع (عظمتَا زند)، وتشير سمات هذه العظام إلى أن هذا النوع لم يكن فحسب يسير على قدمين، بل كان يتسلق الأشجار أيضًا.


Enlarge image

الشكل 1| تطور السير على قدمين

تطورت أشباه البشر، وهي أنواع أقرب إلى الإنسان منها إلى الشمبانزي، عن سلف مشترك بينها وبين القردة الإفريقية العليا (مثل الشمبانزي والغوريلا)، كان يسير على أربع، ويقدر على تسلق الأشجار. وأقدم نوع معروف لدينا من أشباه البشر هو أناسيّ الساحل التشادي، وتظهر عليه سمات توحي بأنه كان يسير على قدمين أحيانًا، منها سمات في عظمة الفخذ، يصفها دافِر وزملاؤه2 (وهي دقيقة لدرجة يتعذر معها ظهورها في الصورة). ويقول الباحثون إن عظام الذراع (وهي غير موجودة بالشكل) عند هذه الفصيلة كانت متكيفة لتسلق الأشجار. ويتميز أول أنواع أشباه البشر مثل Orrorin وArdipithecus، بمزيج كهذا من التكيفات، يجمع السير على قدمين أحيانًا مع القدرة على تسلق الأشجار. ومقارنةً بهم، كانت الأنواع من جنس Australopithecus قادرةً على السير على قدمين بكفاءة أكبر، وإن كانت قد احتفظتْ بقدرتها على تسلق الأشجار، أما فصائل جنس البشر Homo فامتلكتْ سماتٍ عديدةً، مكنتها من السير، والعدو على قدمين كذلك، بكفاءة عالية، لكنها فقدتْ أغلب قدراتها التكيفية على تسلق الأشجار.

لا تُظهر صور عظام الفخذ الفروقات في الحجم (الصور مأخوذة من مرجع 2، عدا صورة عظمة Australopithecus afarensis، التي ترجع لدانييل إي ليبرمان).

عظمة أناسيّ الساحل ينقصها المفاصل التي توجد عند نهايتيها من الطرفين، والتي كانت ستخبرنا بالكثير عن نمط حركة هذا النوع.


اكتُشف هذا النوع في تشاد، عام 2001، وأثار على الفور حالة من الحماس بين العلماء، فعلاوة على أنه أقدم بمليون سنة تقريبًا من أي نوع آخر من أشباه البشر، فقد كان موضعُ اكتشافه يبعد 2500 كيلومتر عن أقرب حفرية لأشباه البشر عُثر عليها في شرق إفريقيا. وبفحص عظمة قحف هذه العينة، التي أطلق العلماء عليها اسم «توماي» (ومعناه «أمل الحياة» بلغة الدازا المحلية)، لاحظ العلماء أن حجم الدماغ يقترب من حجم دماغ الشمبانزي، متراوحًا بين 360 و390 سنتيمترًا مكعبًا. لكن أناسيّ الساحل امتلكوا أضراسًا أكبر نسبيًا، لها طبقة أكثر سمكًا من المينا، كما كانت الأنياب العلوية أصغر حجمًا، ولا تُشحذ في مواجهة الضواحك السفلية، وامتلكوا وجهًا أكثر تسطيحًا مقارنة بالشمبانزي4، وكلها سمات تشبه ما امتلكته الأنواع اللاحقة من أشباه البشر.

لكن أكثر السمات إثارة للاهتمام، التي اشترك فيها «توماي» مع غيره من أشباه البشر، هو الشكل التشريحي للفتحة الموجودة عند قاعدة الجمجمة (الثُقبة العظمى)، التي يتصل بها العمود الفقري وينفذ الحبل الشوكي من خلالها. وفي حالة الحيوانات التي تسير على أربع، تكون هذه الفتحة عادة أقرب إلى الجهة الخلفية للجمجمة، وتكون وجهتها إلى الخلف. لكن الأمر اختلف في حالة أناسيّ الساحل، إذ تقع هذه الفتحة بالقرب من منتصف الجمجمة ووجهتها كانت إلى الأسفل5. وبأخذ هذه المعلومة في الاعتبار، جنبًا إلى جنب مع الزاوية الأفقية لمؤخرة الجمجمة، حيث تتصل عضلات الرقبة، فإننا نجد أنفسنا أمام دليل قوي على أن رأس أناسيّ الساحل كان يعلو رقبةً منتصبة6، مثله في ذلك مثل الحيوانات التي تسير على قدمين.

لكن تصنيف أناسيّ الساحل بوصفهم أحد أنواع أشباه البشر لا يزال محل جدل، فإلى جانب نقاط الخلاف حول العمر الجيولوجي لمادة الحفرية، والتحفظات على عملية إعادة تكوين شكل الجمجمة، فإن عددًا من الباحثين يتوقعون أن يكون ذلك التشابه بين أناسيّ الساحل وبين سائر أشباه البشر مجرد سمات متشابهة تطورت بصورة مستقلة بعضها عن بعض7. ولذلك الانتقاد أهمية كبيرة، إذ يمكن للأنواع ذات القرابة أن تُطوّر سمات متشابهة، بصورة مستقلة، وقد أمكن للعلماء التأكد من حدوث هذه الظاهرة بالفعل في حالات كثيرة، وأطلقوا عليها التطور التقاربي. لكن كثيرًا من العلماء يرون أن حدوث تطور، أكثر من مرة، لقدرة القردة على السير على قدمين هو أمر غير محتمل، وإن كان يتطلب مزيدًا من البحث. تجدر الإشارة هنا إلى حالة التشكك التي طالت كثيرًا من الفرضيات التي تتناول قدرة السير على قدمين، عند فصائل منقرضة من القردة، مثل Oreopithecus وDanuvius.

من ناحية أخرى، يُبدي بعض العلماء تحفظهم حول ما إذا كان أناسيّ الساحل قد ساروا على قدمين بالفعل، نظرًا لعدم وجود أدلة تدعم تلك الفكرة من أجزاء أخرى من الجسم غير الجمجمة، مثل الحوض أو عظمة الفخذ أو الأقدام، ويزيد الجدال حدة مع معرفتنا بوجود ما قد يكون دليلًا ذا صلة، وإن كان غير متاح للباحثين. فحين اكتُشفتْ عينات جمجمة أناسيّ الساحل عام 2001، عثر العلماء أيضًا على عظمة فخذ وعظمة زند، ومعهما آلاف الحفريات الأخرى. واستغرق الأمر ثلاث سنوات حتى ظهر احتمال يقول إن عظمة الفخذ تلك ترجع إلى أحد أشباه البشر، وذلك على يد فريق آخر غير ذي صلة بأناسيّ الساحل، ونُشر10 في النهاية تقريرٌ عن اكتشاف عظمة الفخذ في عام 2009. وأشار تحليل لاحق إلى أن تلك العظمة كانت أقرب شكلًا إلى عظام القردة مقارنةً بالعظام المعروفة لأشباه البشر الذين ساروا على قدمين، وإن كان ذلك مبنيًا على عدد قليل فحسب من قياسات تلك العظمة، وعلى صور ثنائية الأبعاد لها11.

وفي وقت لاحق، انتهى العلماء إلى أن عظمة الزند المكتشَفة عام 2001، وواحدة أخرى اكتُشفتْ عام 2003، ترجعان إلى أشباه البشر. وبالنظر إلى حالة الجدل والريبة التي تحيط بالموضوع، فإن التحليل الذي أجراه دافِر وزملاؤه، على عظام الفخذ والزند لأناسيّ الساحل، يحتل أهمية كبيرة. لكن هذا لا يعني أننا بصدد الوصول إلى قول حاسم في الوقت الحالي، فعظمة الفخذ المكتشفة هي في الأساس قضيبٌ تنقصه المفاصل عند نهايتيه (الشكل 1)، التي كانت ستمنحنا معلومات نحتاجها لمعرفة الطريقة التي كان أناسيّ الساحل يقفون بها، وكيف كانوا يمشون.

ورغم ذلك، فقد استخلص الباحثون من الحفرية كل ما أمكنهم الحصول عليه من معلومات، وصبّوا تركيزهم على السمات التي افترضوا أنها تتماشى مع الفكرة القائلة بأن أناسي الساحل ساروا على قدمين. وأُولى هذه السمات هي واحدة تظهر لدى أشباه البشر الذين يسيرون على قدمين، وهي أن قاعدة عنق عظمة الفخذ تبدو وكأنها تواجه مقدمة الجسم قليلًا، إلى جانب كونها مسطحة، وكذلك أن الجزء العلوي من العظمة مسطح قليلًا، إضافة إلى متانة مواضع اتصال عضلات الإلية وكونها تشبه نظيرتها عند البشر. وفوق كل ذلك، فإن شكل القطاع العرضي للعظمة، في مواقع متعددة، يقع ضمن النطاق المقبول لأشباه البشر. وهذه السمة الأخيرة بالذات تشير إلى أن العظمة مقاومة لتأثيرات الثني الجانبية التي تميز أشباه البشر ممن ساروا على قدمين.

يشير الباحثون كذلك إلى وجود بقايا لنتوء عظمي، يدعى مِهْماز الفخذ، وهي منطقة كثيفة العظام، يُعتقد أنها تقدم دعمًا للجزء العلوي من عظمة الفخذ ضد القوى التي تنتج عن السير على قدمين. لكنّ وجود هذا النتوء لا يعني بالضرورة القطعَ بالسير على قدمين12.

وعلى كل حال، فمهما كانت الانطباعات التي تُخلفها عظمة الفخذ، فإن عظمتي الزند، ودون أي شك، تشبهان نظيرتيهما عند الشمبانزي، وهما متكيفتان لتسلق الأشجار بكل وضوح. فبجانب كونها قصيرة، تملك العظمة جسمًا مقوسًا، بما يشي بوجود عضلات ذراع قوية، قادرة على ثني المرفق أثناء التسلق. وكذلك تشبه مفاصل المرفق تلك التي تملكها القردة، فشكلها يوحي بقدرتها على تحمّل القوى العالية التي ستتعرض لها حين تكون مثنية، مثلما هو الحال عادة وقت التسلق، وهي وضعية متطلبة من الناحية الميكانيكية.

وبالنظر إلى عظمة فخذ أناسي الساحل، فليس أمامنا أدلة واضحة على أنهم ساروا بالفعل على قدمين. لكن هذه العظمة تبدو أشبه بعظام أشباه البشر، الذين ساروا على قدمين، منها بعظام القردة التي تسير على أربع. وبوضع ذلك في الاعتبار، مع وضعية الثُقبة العظمى، التي لا تتماشى إلا مع السير على قدمين، فليس من المستبعد أن أناسيّ الساحل قد ساروا بالفعل على قدمين، وأنهم مثل غيرهم من أشباه البشر، الذين ظهروا لاحقًا، مثل A. ramidus، امتلكوا جسمًا متكيفًا مع تسلق الأشجار. وبعد عدة ملايين من السنوات، تلتْ ظهور أناسيّ الساحل وArdipithecus، تَطور جنس جديد من أشباه البشر يُدعى Australopithecus ليكون قادرًا على السير بكفاءة، مع احتفاظه بكثير من قدراته التكيفية على تسلق الأشجار. وحده الجنس البشري Homo هو من فقد قدراته التكيفية على تسلق الأشجار حينما أصبح عدّاءً ماهرًا. لكننا لا نعرف إلا القليل حتى الآن عن طريقة مشي أناسيّ الساحل، ومن المعقول القول إنهم امتلكوا ذخيرة من المهارات المتنوعة، من بينها المشي، والقدرة على تسلق الأشجار، إذ كانوا يعيشون قرب بحيرة تجاورها غابة.

لا ضير من تكرار القول إنه باستثناء السير على قدمين، وامتلاك وجهٍ وأسنان أقرب نسبيًا إلى أشباه البشر، فكثير من سمات أناسيّ الساحل تشبه الشمبانزي بالفعل. وسيكون هذا الشبه منطقيًا إذا تبين أن آخر سلف مشترك بين الإنسان والشمبانزي كان شبيهًا بالشمبانزي1، وأن أناسيّ الساحل قد تطوروا بعد افتراق الشمبانزي والبشر بفترة قليلة فحسب. ستظل هذه الاستنتاجات وغيرها محل جدل واسع، وسيبقى هذا الجدل محتدمًا حتى نعثر على حفريات جديدة، تملأ فراغات السجل التطوري، ليس للبشر فحسب، ولكن للشمبانزي أيضًا.

دانييل إي ليبرمان: من قسم الأحياء التطورية البشرية بجامعة هارفارد في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية.

الرمز البريدي: 02138

البريد الإلكتروني: danlieb@fas.harvard.edu

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.69


1. Pilbeam, D. R. & Lieberman, D. E. in Chimpanzees and Human Evolution (eds Muller, M. N., Wrangham, R. W. & Pilbeam, D. R.) 22–141 (Belknap, 2017).

2. Daver, G. et al. Nature 609, 94–100 (2022).

3. Brunet, M. et al. Nature 418, 145–151 (2002).

4. Guy, F. et al. Proc. Natl Acad. Sci. USA 102, 18836–18841 (2005).

5. Zollikofer, C. P. et al. Nature 434, 755–759 (2005).

6. Lieberman, D. E. The Evolution of the Human Head (Harvard Univ. Press, 2011).

7. Wood, B. & Harrison, T. Nature 470, 347–352(2011). Biophysics

8. Russo, G. A. & Shapiro, L. J. J. Hum. Evol. 65, 253–265 (2013).

9. Williams, S. A., Prang, T. C., Meyer, M. R., Russo, G. A. & Shapiro, L. J. Nature 586, E1–E3 (2020).

10. Beauvilain, A. & Watté, J.-P. Bull. Soc. Geol. Normandie 96, 19–26 (2009).

11. Macchiarelli, R., Bergeret-Medina, A., Marchi, D. & Wood, B. J. Hum. Evol. 149, 102898 (2020).

12. Cazenave, M., Kivell, T. L., Pina, M., Begun, D. R. & Skinner, M. M. J. Hum. Evol. 167, 103183 (2022).