أخبار
Commentary

في نوبات القلق: كيف يخاطب القلب الدماغ؟

نشرت بتاريخ 24 مايو 2023

يؤثر الدماغ على القلب في فترات القلق، ولكن هل يخاطب القلب عند تسارع دقاته الدماغ بدوره، لتنجم عن ذلك السلوكيات المرتبطة بالقلق؟ في تجارب أجريت على الفئران، استخدم فريق من الباحثين، ناظمًا لضربات القلب، يمكن تحفيز عمله بالضوء. ووجدوا أن تسارع ضربات القلب يبعث بالفعل رسائل إلى الدماغ، كما تمكنوا من تحديد المنطقة الدماغية التي يتطلبها هذا التواصل.

يوني كوديرك، وآنا بايل

هل انتابك القلق يومًا، إلى حد جعلك تشعر بخفقات قلبك تجيش متسارعة في صدرك؟ تُعَدّ هذه الحالة، التي تُعرَف باسم تَسارُع ضربات القلب، أحد الأعراض الرئيسية للقلق1 . ويمكن أن تكون على درجة من القوة، بحيث تجعل من يصاب بها، يخلط بينها وبين الأزمة القلبية. وقد أسهمت بحوث تجريبية في الكشف عن العديد من المسارات، التي تسلكها الإشارات القادمة من الدماغ إلى القلب. أما في مجالَي التحليل النفسي الإكلينيكي، وعلوم الأعصاب الأساسية، فقد ظل العكس – أي تأثير معدل ضربات القلب على العواطف – مثار جدل، لمدة قرن تقريبًا2. من هنا، في بحث نُشر في دورية Nature، يتناول الباحث برايان شواي وفريقه البحثي3 هذه المسألة، ويكشفون الآلية التي يعتمد عليها الدماغ في رصد معدل ضربات القلب، ويوضحون كيف تتحكم هذه الآلية، بدورها، في السلوك العاطفي.

يتلقى الدماغ، على نحو مستمر، إشارات داخلية من أجهزة الجسم المختلفة، بما فيها الجهاز التنفسي والقناة الهضمية والقلب4. وهو ما يعرف باسم التأشير الداخلي. وفي الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق، تختلف آليات التأثر بهذه الإشارات الداخلية، لا سيما الإشارات المتعلقة بمعدل ضربات القلب1. وقد بينت دراسات أجريت على حيوانات، أهمية العلاقة بين التغيرات التي تطرأ على حالة القلب، والحالة العاطفية6،5. بيد أنه من غير الواضح، إلى اليوم، ما إذا كان ارتفاع معدل ضربات القلب يسهم، على نحو مباشر، في نشوء نوبات القلق.

إلى اليوم، لم يُستخدم لرفع أو خفض معدل ضربات القلب، وتقييم أثر ذلك على العواطف، سوى الصدمات الكهربية المتعممة، وأساليب تحفيز العصب المبهم، وبعض المقاربات الدوائية؛ وكلها طرق تنطوي على آثار جانبية خطيرة. وقد ظل الباحثون إلى وقت قريب يفتقرون إلى أدوات تتيح لهم الخريطة الجسمانية المكانية الزمانية الدقيقة اللازمة للوقوف بصورة وافية على دور معدل ضربات القلب في نوبات القلق.  

وقد كان أول ابتكار ثوري يسفر شواي وفريقه البحثي النقاب عنه في هذا الصدد، هو أداة تضطلع بهذا الدور. وهي ناظم ضربات قلب يعمل بالضوء ويمكن تثبيته بأساليب غير باضعة. إذ اعتمد الفريق البحثي على إدخال ناقل فيروسي إلى أجسام فئران، حمل جينًا يشفر إنتاج بروتين مستشعر للضوء، من فئة بروتينات Opsin، ويعرف باسم ChRmine. وعند إسقاط شعاع من الضوء الأحمر على هذا البروتين، يسمح بمرور أيونات موجبة الشحنة عبره، وهو ما يؤدي إلى تغيير استقطاب الخلايا التي تعبر من خلالها هذه الأيونات، وفي التجارب التي أجراها شواي وفريقه البحثي، كانت الخلايا المستهدفة هي الخلايا العضلية للقلب، التي يؤدي تغيير استقطابها إلى انقباض عضلة القلب.

ومن خلال تثبيت صمام ثنائي دقيق باعث للضوء، يومض بمعدل منتظم ومحدد بضوء أحمر(micro-LED)، على صدرية ألبسها الفريق البحثي للفئران، نجح الفريق البحثي في استخدام استراتيجيته المعتمدة على علم البصريات الوراثي، للتحكم في معدل ضربات القلب (شكل 1). وكان البروتين ChRmine قد استُخدِم في السابق، للتحكم بدقة في دوائر عصبية معينة، داخل مناطق عميقة في الدماغ، دون الحاجة إلى جراحات باضعة داخل الجمجمة7. وقد وَسَّع شواي وفريقه البحثي نطاق استخدامات هذه الأداة الجزيئية، للتحكم في نشاط عضو كامل، هو القلب (بنظم معدل ضرباته)، ورصد أي تأثير له على الدماغ في نوبات القلق.




Enlarge image

شكل 1. التحكم في مستويات القلق بناظم لحفز ضربات القلب ضوئيًا بطريقة غير باضعة. درس شواي وفريقه البحثي3 تأثير تسارُع ضربات القلب على السلوكيات المرتبطة بالقلق في الفئران. فعمد الفريق البحثي إلى حقن هذه الحيوانات بناقل فيروسي يستهدف القلب فقط، ويحمل معلومات تشفر إنتاج بروتين من فئة بروتينات «أوبسين» Opsin، لدى استشعار الضوء الأحمر، ويسمى بروتين ChRmine. وقد صمم الفريق البحثي لباس محكم للفئران يتمثل في صدرية تحتوي على صمام ثنائي دقيق باعث لضوء أحمر، يومض بمعدل 900 مرة في الدقيقة، بحيث تكون هذه الصدرية فوق القلب مباشرة. وأدى الضوء الأحمر إلى تنشيط البروتين ChRmine في خلايا عضلة القلب. وهو ما جعل البروتين يسمح بمرور أيونات موجبة الشحنة خلاله. ونجم عن ذلك تغيير استقطاب خلايا عضلة القلب، وارتفاع معدل ضرباته في الفئران (تسارع ضربات القلب). وهو ما أدى بدوره إلى ازدياد السلوكيات المرتبطة بالقلق. كما أسفر عن تنشيط منطقة الجزيرة الخلفية بالدماغ (ضمن مناطق أخرى به). بعد ذلك، ثبَّط شواي وفريقه البحثي منطقة الجزيرة الخلفية، باستخدام بروتين آخر مُستشعر للضوء الأزرق، وينتمي إلى فئة بروتين Opsin، ويسمى  iC++. ويسمح هذا البروتين لأيونات سالبة بالمرور من خلاله. وقد نشّط الفريق البحثي هذا البروتين باستخدام شعاع ليزر أزرق لتحفيز تسارُع ضربات القلب ضوئيًا. وهو ما أدى إلى وقف السلوكيات المُرتبطة بالقلق، التي يسببها تسارُع ضربات القلب.


وقد استخدم الفريق البحثي هذه المقاربة لاختبار ما إذا كان ارتفاع معدل ضربات القلب إلى 900 ضربة في الدقيقة (أعلى من المعدل الطبيعي لضربات قلب الفأر بنسبة 36%)، يمكن أن يغير مستويات القلق في الفئران المسموح لها بحرية التصرف. واعتمد شواي وفريقه البحثي على آليتين لتقدير مستوى القلق في الفئران: الأولى هي وضع هذه الحيوانات في متاهة، والثانية هي وضعها في حيز مفتوح. واحتوي كل من المكانين على مناطق آمنة للاختباء، وأخرى مكشوفة. ووَجد الفريق البحثي أن تسارع دقات القلب، الناجم عن تحفيز ضوئي في هذه العملية، عزز ميل الفئران إلى تجنب المناطق المكشوفة المعرضة للخطر في الحالتين. وهو ما يعكس بدرجة أكبر سلوكًا مرتبطًا بالقلق. ويعد هذا، على الأقل في الفئران، دليلًا لا لبس فيه على أن معدل ضربات القلب، يمكن أن يؤثر على الشعور بالقلق، ويرجّح أنه قد يؤثر أيضًا في سلوكيات عاطفية أخرى.

لبحث الآليات البيولوجية العصبية، التي تكمن وراء نوبات القلق التي يُسببها تسارع ضربات القلب، أجرى شواي وفريقه البحثي مسحًا لنشاط أدمغة الفئران بعد 15 دقيقة من استخدام هذا التحفيز الضوئي لتسارع ضربات القلب. وأظهرت خرائط الخلايا العصبية من هذه المسوح التي أُجريت على مستوى الدماغ بالكامل، حدوث تغيرات في التعبير الجيني لدى الفئران، استجابةً لِتَسارُع ضربات القلب. إذ وجد الفريق البحثي أن الخلايا العصبية التي تنْشط بقوة، إثر تسارع القلب، تقع في منطقتين من الدماغ، هما القشرة الجُزَيِّريَّة الخلفية (الجُزّيِّرة الخلفية)، وجذع الدماغ. إضافة إلى ذلك، أظهر تسجيل النشاط الكهروفسيولوجي لأدمغة الفئران الحية، ارتفاع معدل التأشير بالنبضات العصبية في خلايا الجزيرة الخلفية، عند تسارع ضربات القلب المُحفَّز ضوئيًا.

من هنا، تبين أن القشرة الجزيرية تلعب دورًا مهمًا في معالجة الإشارات الناجمة عن عملية التأشير الداخلي المترتبة على تسارُع ضربات القلب، وفي التحكم في السلوكيات المرتبطة بالقلق8-10. وعند هذه النقطة، توصل الباحثون إلى وجود علاقة بين نشاط الجزيرة الخلفية، وارتفاع معدل ضربات القلب، لكن ظلت هناك حاجة للوقوف على الدور الذي تلعبه منطقة الجزيرة الخلفية في تولُد مشاعر القلق المحفَّزة بتسارُع ضربات القلب. ولتقصي هذا الدور، عمد شواي وفريقه البحثي إلى تثبيط الخلايا العصبية بمنطقة الجزيرة الخلفية ضوئيًا، باستخدام بروتين مختلف من فئة بروتينات Opsin، وهو بروتين مُستشعر للضوء الأزرق، يعرف اختصارًا باسم iC++.

ومن هنا، توصل الفريق البحثي إلى اكتشاف آخر؛ فوجد أن تثبيط وظائف منطقة الجزيرة الخلفية أثناء التحكم في نظم ضربات القلب ضوئيًا، يقلل السلوكيات المرتبطة بالقلق، والتي تترتب عادةً على تسارع هذا النظم. ويدل ذلك على أن الجزيرة الخلفية، تعمل كمحطة ترحيل للمعلومات الخاصة بضربات القلب، وتأثر بالتالي في مستويات القلق. كذلك وجد الفريق البحثي أن انخفاض مستوى السلوكيات المرتبطة بالقلق انحصر حدوثه مع تثبيط هذه المنطقة، ولم يُرصد مع التثبيط الضوئي لمنطقة مختلفة، هي القشرة قبل الجبهية الوسطى.

بعبارة أخرى، في مجمل القول، توصل شواي وفريقه البحثي، إلى أن ارتفاع معدل ضربات القلب يحفز السلوكيات المرتبطة بالقلق في الفئران، وهو ما يحدث من خلال تنشيط بنى دماغية محددة، تشمل منطقة الجزيرة الخلفية. وتثير هذه الدراسة الشاملة التي أجراها الفريق البحثي، أسئلة جديدة، كما تفتح مجالات جديدة للبحث. على سبيل المثال، ما زلنا بحاجة إلى الوقوف على الدوائر العصبية، والآليات، التي تسمح بتنشيط منطقة الجزيرة الخلفية، إثر تسارع ضربات القلب. كما نحتاج إلى معرفة الدوائر التي تحفز السلوكيات المرتبطة بالقلق.

كذلك من المجالات الأخرى التي لا يزال علينا طرقها، التأثيرات طويلة الأمد، التي تنجم عن التحفيز الضوئي لتسارُع ضربات القلب لمدة أيام (أو أسابيع). وهو ما يمكن أن تكون له تداعيات إكلينيكية ملموسة. كذلك تُرسِي هذه الدراسة الأسس اللازمة للتحقق مما إذا كان تسارع ضربات القلب المُزمن، قد يحفز تغيرات طويلة الأمد في الدماغ. وهو ما يمكن أن يقف وراء المستويات الضارة من القلق. ويمكن للتحقق من هذه الاحتمالية أن يواجه عقبات تقنية، لأن السترات ذات الصمام الثنائي الدقيق الباعث للضوء التي استخدمها شواي وفريقه البحثي في تجاربهم، ليست مناسبة لتحفيز تسارع ضربات القلب ضوئيًا لفترات طويلة.

وأخيرًا، من منظور البحوث التطبيقية والعلاجية، ربما يمكن تصميم تجارب لخفض معدل ضربات القلب على نحو طفيف. ويبقى أن نعرف ما إذا كان تغيرًا طفيفًا كهذا من شأنه أن يخفف السلوكيات المرتبطة بالقلق. وهو لغز أتاحت دراسة شواي وفريقه البحثي الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لفكه.

يوني كوديرك، وآنا بايلر، يعملان في جامعة بوردو، بمركز ماجوندي للدراسات العصبية، بالمعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية (INSERM) 1215، 33000 بوردو، فرنسا.

البريد الإلكتروني: anna.beyeler@inserm.fr

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.65


 

1 . Paulus, M. P. & Stein, M. B. Brain Struct. Funct. 214, 451–463 (2010).

2. Cannon, W. B. Am. J. Psychol. 39, 106–124 (1927).

3. Hsueh, B. et al. Nature 615, 292–299 (2023).

4. Azzalini, D., Rebollo, I. & Tallon-Baudry, C. Trends Cogn. Sci. 23, 488–509 (2019).

5. Livneh, Y. & Andermann, M. L. Neuron 109, 3576–3593 (2021).

6. Klein, A. S., Dolensek, N., Weiand, C. & Gogolla, N. Science 374, 1010–1015 (2021).

7. Chen, R. et al. Nature Biotechnol. 39, 161–164 (2021).

8. Etkin, A. & Wager, T. D. Am. J. Psychiatry 164, 1476–1488 (2007).

9. Gehrlach, D. A. et al. Nature Neurosci. 22, 1424–1437 (2019).

10. Nicolas, C. et al. Preprint at Research Square https://doi.org/10.21203/rs.3.rs-964107/v1 (2021).