مقالات

الصحة النفسية للنساء وسط تأوهات اليمن

نشرت بتاريخ 30 نوفمبر 2023

عادت الأخصائية النفسية، أنجيلا سلطان، إلى المدينة التي تربَّت فيها، بعد ما شهدتْ تأثر الأمهات والأطفال بالحرب والضغوط الثقافية.

Enlarge image

العلم في مناطق النزاع

كثيرًا ما يواجه الباحثون الميدانيون في مناطق النزاع تحديات خطرة، وخاصةً الإناث منهم. ففي ظل غياب الأمن والحماية القانونية القوية للنساء، جنبًا إلى جنب مع تغوُّل الجماعات المتطرفة، فإنهن يصبحن أكثر عرضة للعنف والتحرش وتقييد حريتهن في الحركة. وكذلك فإن عملهن وسط النزاعات يعرّضهن للصدمات التي تترك لديهن آثارًا شعورية ونفسية. ومع ذلك فإنهن يشعرن بأن مِن واجبهن الذهاب إلى تلك المناطق ليجمعن بياناتها الحساسة بدقة شديدة، رغم إدراكهن الكامل لما ينطوي عليه الأمر من تحديات.

أنجيلا سلطان هي رئيسة قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة تعز، ومديرة مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم المرأة والطفل في تعز باليمن؛ الدولة التي لطالما صُنفتْ في ذيل قائمة الدول على المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، وذلك في السنوات التي أُدرجتْ فيها في القائمة. في هذا المقال الثاني في سلسلة من ثلاثة مقالات، تتحدث أنجيلا عن الطريقة التي تتعامل بها مع الصعوبات والقيود في عملها الميداني في ظل استمرار الصراع في اليمن، وعما يجعل هذا العمل جديرًا بالمخاطرة من أجله.

قضيتُ فترة مراهقتي في تعز، ثالث أكبر المدن اليمنية، حيث أدى التعرض الطويل لسلسلة من الصراعات إلى وقوع انتهاكات خطيرة ومتزايدة بحق الفئات المستضعفة. لقد تأثرتُ نفسيًّا بالعنف الممارس على النساء والأطفال هناك. فقد كنت أرى على أجساد الفتيات آثار التعذيب بما فيها من كدمات وجروح وحروق، نتيجةً للاعتداء الجسدي عليهن من قبل أفراد الأسرة؛ بحجة تقويم سلوكهن وأخلاقهن. احتاج هؤلاء الفتيات إلى الدعم النفسي للتعافي من تلك الصدمات، لكن ذلك الدعم لم يكن متاحًا، وهو الأمر الذي دفعني إلى دراسة علم النفس في جامعة تعز. وخلال دراستي زُرتُ عددًا من المنشآت الإصلاحية، وقدمتُ الدعم النفسي لنزيلاتها المتأثرات بالعنف المنزلي والعنف القائم على النوع الجنسي.

في عام 2009 وبعد حصولي على درجة الماجستير في الصحة النفسية من جامعة عدن في اليمن، عملتُ مُدرّسةً مساعدةً في جامعة تعز. وفي عام 2011، انتقلتُ إلى مصر لدراسة الدكتوراه في الصحة النفسية في جامعة أسيوط. ثم لحق بي والداي لأن الثورة اندلعتْ في جميع أنحاء اليمن عقب مغادرتي مباشرة، وكانت حرب الشوارع محتدمةً في تعز بين القوات الموالية لعلي عبد الله صالح، رئيس البلاد في ذلك الوقت، وبين قوات المعارضة المسلحة. وعندما نشبت الحرب الأهلية اليمنية في عام 2014، رأيتُ كيف عجزت الفئات المستضعفة عن تسديد احتياجاتها النفسية والاجتماعية الأساسية وسط تلك السلسلة من الصراعات الدموية اللانهائية التي لا طاقة لأحد بها.

تشير الإحصائيات إلى أن تلك الصراعات قد ألحقت المزيد من الضرر بالصحة النفسية للنساء، وفي رأيي أن هذا مرتبط بتزايد الضغوط الاجتماعية والثقافية التي فرضتْ قيودًا جديدة على المرأة. فمن واقع عملي، وجدتُ أن البطالة المنتشرة بين صفوف الرجال تؤدي إلى زيادة العنف المنزلي، وأن الفقر يؤدي إلى ارتفاع معدلات زواج الأطفال بين النازحين جرَّاء الحرب. لقد كان من الممكن أن أكون واحدة من هؤلاء العرائس الصغيرات، لولا أن الحظ حالفني قليلًا.

التضامن والدعم

عدتُ إلى اليمن في عام 2018، بعد عام واحد من حصولي على درجة الدكتوراه، مدفوعةً بشعور عميق بالتضامن. وحينئذ استأنفتُ التدريس في جامعة تعز وشاركتُ في تأسيس مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم المرأة والطفل، الذي أُجري فيه الدراسات أنا وزملائي، ونقدم الدعم النفسي المجاني. إننا نجمع البيانات الخاصة بالصحة النفسية للنساء والأطفال الذين يعيشون في مدينة تعز وما حولها. هؤلاء الأشخاص، الذين يعيش بعضهم في مخيمات اللاجئين، يرزحون تحت وطأة النزاع، فضلًا عن الضغوط الاجتماعية والثقافية. ولذا نهتم بفحص حالتهم العقلية والنفسية لكي نفهم كيف يؤدي النزوح والتعرض للصدمات إلى تفاقم اضطرابات الصحة النفسية.

في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من أن مدينة تعز نفسها يسودها بعض الهدوء، فإن المناطق الريفية المحيطة بها ما زالت تعاني من الاضطرابات. فبين حين وآخر تندلع اشتباكات مسلحة غير متوقعة تُفقدني الثقة في خطط السلامة التي أحاول وضعها. إنني أقود فريقًا من خمس أخصائيات نفسيات، وما زال انعدام الأمن يحدّ من حريتنا في التنقل أثناء الليل، لذا أحرص على أن أعود أنا وفريقي إلى منازلنا قبل حلول الظلام. ولأغراض السلامة أيضًا فإننا حين ننزل بمناطق الدراسة، عادةً ما ننقسم إلى فريقين يتكون كل منهما من شخصين أو ثلاثة، ونتأكد من أننا جميعًا على دراية بأقرب مكان تتوفر فيه شبكات الاتصالات، ونتواصل مع المسؤولين في المنطقة لتيسير تحركاتنا. وكل هذا يتطلب منا أن نتحلى بالمرونة والصبر عندما نتناقش بشأن المكان الذي نخطط لزيارته، وبشأن الغرض من الزيارة.

منذ عام 2016 أو 2017 تقريبًا، شجّع استمرار العنف جماعاتٍ متطرفةً متعددة في جميع أنحاء البلاد على إجبار السكان على اتباع تقاليد معينة تستهدف النساء بالأساس وتقيد حريتهن في الحركة. فمثلًا لا يُسمح الآن للنساء بالسفر وحدهن بين المدن، وتطال تهمة «الفساد الأخلاقي» النساءَ المنخرطات في العمل الميداني اللاتي يتنقلن بين المدن والقرى دون أن يصحبهن رجال من عائلاتهن، وهو الأمر الذي يصعِّب عليهن الوصولَ إلى مناطق الدراسة. وكثيرًا ما أتعرض شخصيًّا للتنمر والتحرش والإهانات، وأغلق نوافذ سيارتي حتى لا أسمع الإساءات الموجهة إليّ. أذكر مرةً حين كنتُ في مصر، مُنع فريقي من الوصول إلى منطقة الدراسة الخاصة بنا، فلجأتُ إلى الاتصال بأحد المسؤولين في المنطقة لمساعدتنا، فأصدر أوامره للسكان بألا يعرقلوا عملنا.

احتياطات السلامة

واحد من المخاوف الكبيرة التي تؤرقنا أن يمنعنا القادة المحليون من التواصل مع النساء والأطفال، بعدما نكون قد بذلنا جهودًا مضنية للوصول إلى المنطقة المعنية. لكن الخوف الأكبر هو أن تندلع اشتباكات غير متوقعة في أثناء وجودنا في تلك القرى، مما يعرّض حياتنا لخطر حقيقي. ولذا نحرص على أخذ احتياطاتنا للسلامة الشخصية. فنحن مثلًا لا نصطحب معنا كاميراتنا؛ لأن التجول بالكاميرا يمكن أن يثير الشكوك. وبدلًا من ذلك، نستخدم هواتفنا لتسجيل المقابلات.

من المهم أيضًا أن نكون على دراية بالمشكلات الثقافية، لكي نعرف ما هي السلوكيات غير المقبولة اجتماعيًّا وما هي الموضوعات التي لا يمكننا طرحها للنقاش. أذكر أنه خلال إحدى جلسات العمل الميداني، اندلع قتال عنيف بين اللاجئين وبين سكان القرية التي كنا فيها. حينها قررنا الانتقال إلى مكان أكثر أمنًا والانتظار لبضع ساعات في سياراتنا إلى أن هدأ التوتر. إن العمل في مثل هذه الظروف يتطلب منا أن نلتزم الحياد أثناء النزاع بين مختلف الفئات المجتمعية، وأن نكون قادرين على التحلي بالهدوء عند التعامل مع أسئلة الأشخاص الذين يشككون في دوافعنا. فأنا على سبيل المثال أقضي الكثير من الوقت في إخبار الناس بأننا لا ننتمي إلى أي حزب أو فصيل سياسي.

وأغلب الظن أنه يوجد طبيب نفسي واحد فقط لكل نصف مليون شخص في اليمن1. ولذا أشعر أنه من واجبي ألا أتخلى عمن يعاني من جرَّاء التجارب المؤلمة والأزمات النفسية الشديدة. ومن خلال السنوات التي قضيناها في العمل في المنطقة، أعلم أن جلسات الدعم النفسي التي قدمناها ساعدت العديد من النساء على استعادة ثقتهن في أنفسهن واسترداد عافيتهن النفسية. وهذه النتائج تُشعرني بأننا قادرون على أن نحدث تغييرًا فعالًا، الأمر الذي يشجعني على الاستمرار في العمل رغم ما يكتنفه من أخطار.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.266


References:

Zaid, S. M., Fadel, A. M., Taresh, S. M., Mohammed, L. A. & Fitriana, N. Curr. Psychol. https://doi.org/10.1007/s12144-022-03617-7 (2022).