مقالات

نوبل الكيمياء عام 1936.. عزم الجزيئات وحيود الأشعة السينية

نشرت بتاريخ 13 نوفمبر 2023

تعدُّ معرفةُ التركيبِ الجزيئيِّ أمرًا بالغَ الأهميةِ للعديدِ منْ مجالاتِ العلوم، بما في ذلكَ الكيمياءُ والبيولوجيا والفيزياءُ وعلومُ الموادِّ والهندسة؛ إذْ يوفرُ فهمُ التركيبِ الجزيئيِّ للمادةِ معلوماتٍ قيمةً حولَ خصائصِها وسلوكِها وتفاعُلِها

محمد منصور

للاستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

Enlarge image
تعدُّ معرفةُ التركيبِ الجزيئيِّ أمرًا بالغَ الأهميةِ للعديدِ منْ مجالاتِ العلوم، بما في ذلكَ الكيمياءُ والبيولوجيا والفيزياءُ وعلومُ الموادِّ والهندسة؛ إذْ يوفرُ فهمُ التركيبِ الجزيئيِّ للمادةِ معلوماتٍ قيمةً حولَ خصائصِها وسلوكِها وتفاعُلِها.

ففي عمليةِ تصميمِ الأدويةِ على سبيلِ المثال؛ منَ المهمِّ معرفةُ التركيبِ الجزيئيِّ منْ أجلِ تطويرِ عقاقيرَ فعالة. إذْ يحتاجُ العلماءُ إلى فهمِ التركيبِ الجزيئيِّ للجزيءِ أوِ المستقبلاتِ المستهدفةِ في الجسم؛ ومنْ خلالِ تصميمِ الأدويةِ التي تكونُ مكملةً في الشكلِ والخصائصِ الكيميائيةِ للجزيءِ المستهدف، يمكنُ للعلماءِ إنشاءُ أدويةٍ ترتبطُ على وجهِ التحديدِ بالهدفِ المُرادِ وعملِ التأثيراتِ العلاجيةِ المطلوبة.

وفي الكيمياء، تُستخدمُ معرفةُ التركيبِ الجزيئيِّ لفهمِ سلوكِ الموادِّ الكيميائيةِ والتنبؤِ به. يحددُ الشكلُ والخصائصُ الإلكترونيةُ للجزيءِ تفاعلَه الكيميائي، الذي يمكنُ أنْ يؤثرَ على سلوكِه في التفاعلاتِ الكيميائية. ويُعدُّ فهمُ التركيبِ الجزيئيِّ للمادةِ أمرًا بالغَ الأهميةِ لتطويرِ موادَّ كيميائيةٍ وموادَّ جديدةٍ بخصائصَ محددة.

كما تُعتبرُ معرفةُ التركيبِ الجزيئيِّ مهمةً في علمِ الأحياء، إذْ تُستخدَمُ لفهمِ بنيةِ ووظيفةِ البروتيناتِ والحمضِ النوويِّ والجزيئاتِ البيولوجيةِ الأخرى. على سبيلِ المثال، يحددُ شكلُ وبنيةُ البروتينِ وظيفتَه في الجسم. ومنْ خلالِ دراسةِ التركيبِ الجزيئيِّ للبروتيناتِ والجزيئاتِ البيولوجيةِ الأخرى، يمكنُ للعلماءِ اكتسابُ نظرةٍ ثاقبةٍ حولَ كيفيةِ عملِها وتطويرِ علاجاتٍ جديدةٍ للأمراض.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وثلاثين؛ حصلَ "بيتر جوزيف ويليام ديباي" على جائزةِ نوبل في الكيمياءِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وثلاثينَ لإسهاماتِه في دراسةِ التركيبِ الجزيئيِّ منْ خلالِ عملِه في خصائصِ العزمِ ثنائيِّ القطبِ وانحرافِ الأشعةِ السينية.

فقدْ طورَ "ديباي" نظريةً لشرحِ العزمِ ثنائيِّ القطبِ واعتمادِه على درجةِ الحرارة، والتي تُعرفُ الآنَ باسمِ معادلةِ ديباي. كما طورَ نظريةً لشرحِ تشتتِ الأشعةِ السينيةِ بواسطةِ البلورات، والتي تُعرفُ الآنَ باسمِ طريقةِ ديباي-شيرير.

والعزمُ الكهربائيُّ ثنائيُّ القطبِ هوَ مقياسٌ لفصلِ الشحناتِ الموجبةِ والسالبةِ داخلَ الجزيءِ؛ وهوَ حاصلُ ضربِ مقدارِ فصلِ الشحنةِ والمسافةِ بينَ الشحنات.

وفقًا لمعادلةِ ديباي، فإنَّ العزمَ ثنائيَّ القطبِ للجزيءِ يختلفُ عكسيًّا معَ درجةِ الحرارة، هذا يعني أنَّه معَ زيادةِ درجةِ حرارةِ الجزيءِ، ينخفضُ عزمُه ثنائيُّ القطب، ومعَ انخفاضِ درجةِ الحرارةِ، يزدادُ عزمُه ثنائيُّ القطب.

يرتبطُ سببُ الاعتمادِ على درجةِ الحرارةِ للعزمِ ثنائيِّ القطبِ بالحركةِ الحراريةِ للجزيئات. معَ زيادةِ درجةِ حرارةِ الجزيء، تتسببُ الطاقةُ الحراريةُ في اهتزازِ الجزيءِ وتدويرِه بقوةٍ أكبر، مما قدْ يتسببُ في زيادةِ توزيعِ الشحناتِ داخلَ الجزيءِ بشكلٍ متساوٍ. ينتجُ عنْ هذا انخفاضٌ في حجمِ العزمِ ثنائيِّ القطب.

وتُعدُّ معادلةُ "ديباي" أمرًا مهمًّا في مجموعةٍ متنوعةٍ منَ المجالات، بما في ذلكَ الكيمياءُ الفيزيائيةُ وعلومُ الموادِّ والفيزياءُ الحيوية

فعلى سبيلِ المثال، يتمُّ استخدامُ المعادلةِ لفهمِ سلوكِ المذيباتِ القطبيةِ وتصميمِ موادَّ حساسةٍ لدرجةِ الحرارة. كما أنَّها تؤدي دورًا في دراسةِ خصائصِ البروتيناتِ والجزيئاتِ الحيويةِ الأخرى، والتي يمكنُ أنْ تخضعَ لتغيراتٍ توافقيةٍ استجابةً للتغيراتِ في درجةِ الحرارة.

أما طريقةُ ديباي-شيرير؛ فهيَ تقنيةٌ مستخدمةٌ في علمِ البلوراتِ بالأشعةِ السينيةِ لتحديدِ التركيبِ البلوريِّ للمادة. طورَ تلكَ الطريقةَ "ديباي" معَ "بول شيرير" في أوائلِ القرنِ العشرين.

تتضمنُ الطريقةُ أخذَ عينةٍ مسحوقةٍ منَ المادةِ وتعريضَها لحزمةٍ منَ الأشعةِ السينية. تحيدُ الأشعةُ السينيةُ عنِ المستوياتِ البلوريةِ في العينة، مما ينتجُ عنهُ نمطُ حيودٍ على لوحةٍ فوتوغرافيةٍ أوْ كاشف. ومنْ خلالِ تحليلِ نمطِ الانعراج، منَ الممكنِ تحديدُ التباعُدِ بينَ المستوياتِ البلوريةِ والزوايا التي تنحرفُ فيها الأشعةُ السينية. منْ هذهِ المعلومات، منَ الممكنِ استنتاجُ الترتيبِ ثلاثيِّ الأبعادِ للذرَّاتِ في الشبكةِ البلورية.

تُعدُّ تلكَ الطريقةُ أداةً قيمةً لدراسةِ الهياكلِ البلوريةِ لمجموعةٍ واسعةٍ منَ المواد، منَ المعادنِ إلى المركباتِ العضويةِ والجزيئاتِ البيولوجية. وهيَ طريقةٌ بسيطةٌ نسبيًّا وغيرُ مكلفة، ويمكنُ أنْ توفرَ ثروةً منَ المعلوماتِ حولَ الخصائصِ الفيزيائيةِ والكيميائيةِ للمادة

وُلدَ "بيتر جوزيف ويليام ديباي" في الرابعِ والعشرينَ منْ مارس عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وأربعةٍ وثمانينَ في ماستريخت بهولندا. كانَ الابنَ الأكبرَ بينَ خمسةِ أطفالٍ في عائلةٍ منَ الطبقةِ المتوسطة. كانَ والدُه صيدليًّا، وكانتْ والدتُه ابنةَ أحدِ الصناعيينَ البارزين.

أظهرَ "ديباي" استعدادًا مبكرًا لفهمِ العلومِ والرياضيات، وبعدَ إكمالِ تعليمِه الثانوي، التحقَ بجامعةِ آخن في ألمانيا، حيثُ درسَ الهندسةَ الكهربائية. ثمَّ انتقلَ لاحقًا إلى دراسةِ الفيزياء، وحصلَ على الدكتوراةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانية، عنْ عملِه في التوصيلِ الكهربائيِّ للمعادن.

بعدَ حصولِه على الدكتوراة، عملَ ديباي مساعدًا للفيزيائيِّ "أرنولد سومرفيلد" في جامعةِ ميونيخ. وخلالَ هذا الوقتِ طورَ نظريتَه عنِ الحرارةِ النوعية، التي تصفُ العلاقةَ بينَ درجةِ حرارةِ مادةٍ ما وقدرتِها الحرارية. ساعدَ هذا العملُ في ترسيخِ سمعةِ ديباي كفيزيائيٍّ نظريٍّ رائد.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنَي عشَرَ، تمَّ تعيينُ ديباي في هيئةِ التدريسِ في جامعةِ زيورخ في سويسرا، حيثُ واصلَ أبحاثَه في الفيزياءِ الجزيئيةِ وانحرافِ الأشعةِ السينية. خلالَ هذا الوقت، قدمَ إسهاماتٍ كبيرةً في دراسةِ العزمِ ثنائيِّ القطبِ وتشتُّتِ الأشعةِ السينيةِ بواسطةِ البلورات.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةَ عشَرَ، عندَ اندلاعِ الحربِ العالميةِ الأولى، تمَّ استدعاءُ ديباي للخدمةِ العسكريةِ في الجيشِ الألماني. وعملَ كخبيرِ أرصادٍ جوية، وساعدَ عملُه في التنبؤِ بالطقسِ في إنقاذِ العديدِ منَ الأرواحِ على جانبَي الصراع.

بعدَ الحربِ، عادَ ديباي إلى الحياةِ الأكاديمية، حيثُ شغلَ منصبًا في جامعةِ غوتنغن في ألمانيا. كما شغلَ لاحقًا منصبَ مديرِ معهدِ ماكس بلانك للكيمياءِ الفيزيائيةِ في برلين.

فبعدَ حصولِه على جائزةِ نوبل، انتقلَ ديباي إلى الولاياتِ المتحدةِ ليصبحَ أستاذًا في جامعةِ كورنيل بنيويورك. وهناكَ، واصلَ بحثَه حولَ حيودِ الأشعةِ السينيةِ وخصائصِ المادة، بالإضافةِ إلى إجراءِ أبحاثٍ في مجالاتٍ أخرى مثلَ المغناطيسيةِ الحديديةِ والموادِّ العازلةِ للكهرباء.

خلالَ الحربِ العالميةِ الثانية، عملَ ديباي في مشروعِ مانهاتن، وهوَ مشروعُ الولاياتِ المتحدةِ لتطويرِ القنبلةِ الذرية؛ إذْ عملَ مستشارًا للمشروعِ وشاركَ في تطويرِ عمليةِ الانتشارِ الغازيِّ لتخصيبِ اليورانيوم.

بالإضافةِ إلى بحثِه العلمي، كانَ ديباي أيضًا مدرسًا وموجهًا متفانيًا، كتبَ العديدَ منَ الكتبِ حولَ موضوعاتٍ مثلَ حيودِ الأشعةِ السينيةِ وخصائصِ المادة، وأشرفَ على العديدِ منْ طلابِ الدكتوراة خلالَ مسيرتِه المهنية.

على الرغمِ منْ إنجازاتِه العديدة، لمْ يبتعدْ "ديباي" عنْ إثارةِ الجدل. ففي الثلاثينيات، كانَ عضوًا في حزبِ العمالِ الألمانيِّ الاشتراكيِّ القومي، المعروفِ باسمِ الحزبِ النازي.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وثلاثين، تمتْ دعوةُ ديباي، الذي كانَ يشغلُ آنذاكَ منصبَ مديرِ معهدِ ماكس بلانك للكيمياءِ الفيزيائيةِ في برلين، لإلقاءِ محاضرةٍ في مؤتمرٍ في روما نظمتْه الحكومةُ الفاشيةُ الإيطالية. بعدَ المؤتمر، سافرَ إلى ألمانيا لحضورِ اجتماعِ الجمعيةِ الفيزيائيةِ الألمانية.

على الرغمِ منْ أنَّ ديبي نفى بشدةٍ هذهِ الاتهامات، فقدْ فُسرتُ بعضُ أفعالِه وتصريحاتِه كدليلٍ على التعاطفِ معَ النظامِ النازي. على سبيلِ المثال، كتبَ رسالةً إلى السفارةِ الألمانيةِ في واشنطن العاصمةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعينَ، أعربَ فيها عنْ إعجابِه بالشعبِ الألمانيِّ وأملِه في نهايةٍ سريعةٍ للحرب.

تزوجَ "ديباي" مرتينِ في حياتِه. كانَ زواجُه الأولُ منْ "ماتيلد ألبيرر" في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةَ عشَرَ. وأنجبا ولدين، ولكنْ لسوءِ الحظ، ماتتْ "ماتيلد" بسببِ مرضِ السلِّ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وعشرين.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وعشرين، تزوجَ "ديباي" للمرةِ الثانيةِ منْ ماريا جوبرت، التي كانتْ أيضًا عالِمةَ فيزياء. التقيا في أثناءِ عملِهما في جامعةِ زيورخ في سويسرا. قدمتْ "ماريا" إسهاماتٍ كبيرةً في مجالِ الفيزياءِ النووية، بما في ذلكَ تطويرُ مفهومِ القذائفِ النووية؛ كما حصلتْ على جائزةِ نوبل في الفيزياءِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وستين، لتصبحَ ثانيَ امرأةٍ تحصلُ على هذا التكريم. وقدْ ظلَّا متزوجَينِ حتى وفاةِ "بيتر" عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وستين.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.241