أخبار

لماذا ينتحر "فرس النبي"؟

نشرت بتاريخ 20 أكتوبر 2023

تصاب تلك الحشرة بنوع من الطفيليات التي تتلاعب بجيناتها وتجبرها على الانتحار عن طريق القفز في الماء لإكمال دورة حياتها.

محمد منصور

تمثل الدراسة قفزةً كبيرةً إلى الأمام في فهمنا لكيفية تعامل الطفيليات مع مضيفيها
تمثل الدراسة قفزةً كبيرةً إلى الأمام في فهمنا لكيفية تعامل الطفيليات مع مضيفيها
TAKUYA SATO Enlarge image
منذ بداية تاريخها التطوري، استمرت الطفيليات في الحياة وازدهرت بسبب قدرتها اللامحدودة على التلاعب بالضحية.

فالطفيليات، بحكم تعريفها، تعتمد على الكائنات المضيفة لها للحصول على العناصر الغذائية والمأوى والتكاثر، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب المضيف، ومع ذلك، فإن بعض الطفيليات تأخذ هذه العلاقة الطفيلية إلى المستوى التالي من خلال التحكم في سلوك مضيفها بطرق تعزز دورة حياة الطفيلي.

أبهرت تلك القدرة العلماء لسنوات، لكن، ما الذي يجعل المضيف يستجيب لذلك التلاعب؟ وكيف تتمكن تلك الكائنات من السيطرة على ضحاياها؟

تجيب دراسة جديدة نشرتها دورية "كارنت بيولوجي" (Current Biology)أمس "الخميس"، 19 أكتوبر، عن بعض الأسئلة بعدما اكتشفت أن التلاعب يحدث عبر آلية تُسمى "نقل الجينات الأفقي"، وهي عملية يتم فيها نقل المادة الوراثية من كائن حي إلى آخر ليس من نسله، وتختلف تمامًا عن نقل الجينات العمودي، الذي يتضمن نقل المادة الوراثية من الآباء إلى ذريتهم.

وخلال عملية نقل الجينات أفقيًّا، يكتسب الكائن الحي والطفيلي سماتٍ وراثيةً جديدةً كُليًّا تدفعه لممارسة سلوكيات قد تتعارض مع تكوينه الطبيعي.

يقول "تابي ميشينا"، الباحث في "مركز رايكن لأبحاث ديناميكيات النظم الحيوية"، والمؤلف المشارك في الدراسة: منذ أكثر من 100 عام، كانت هناك "ملحوظات مرعبة" عن حشرات أرضية تقفز في الماء أمام أعيننا في جميع أنحاء العالم دون أن يُعرف السبب، لذا بدأنا دراسة ذلك الأمر لنكتشف أن تلك الحشرات مدفوعة بذلك السلوك الانتحاري بسبب الطفيليات.

ولدراسة تلك الظاهرة، أجرى العلماء أبحاثهم على ديدان "شعر الخيل". تولد ديدان شعر الخيل في الماء، وتستخدم الحشرات المائية مثل "ذبابة مايو" للتنقل إلى الأرض الجافة، حيث تبقى ثابتة حتى تأكلها الحشرات الأرضية مثل الصراصير أو فرس النبي. بمجرد وصول دودة شعر الخيل إلى المضيف الجديد، تبدأ في النمو وتتلاعب بسلوكه.

وأخيرًا، تحث دودة شعر الخيل الناضجة المضيف على القفز في الماء، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى وفاة المضيف في نهاية المطاف، حتى يتمكن الطفيل من إكمال مهمته في الحياة والتكاثر.

أشارت دراسات سابقة إلى أن ديدان شعر الخيل تختطف المسارات البيولوجية لمضيفيها وتزيد من حركتها نحو الضوء، ما يدفع المضيفين إلى الاقتراب من الماء.

ويعتقد العلماء أن هذا يتم تحقيقه باستخدام جزيئات تحاكي تلك الموجودة في الجهاز العصبي المركزي للمضيف، ولكن كيفية تطوير هذه الطفيليات لهذا النوع من المحاكاة الجزيئية ظلت لغزًا.

للإجابة عن هذا السؤال، حلل الباحثون التعبير الجيني لكامل الجسم في دودة شعر الخيل قبل -وفي أثناء وبعد- التعامل مع مضيفها من حشرات فرس النبي.

نظر الباحثون إلى الجينات، التي تشبه كتيبات التعليمات داخل جسم الدودة، ووجدوا أن الدودة لديها أكثر من 3000 جين أصبحت أكثر نشاطًا عندما كانت تسيطر على فرس النبي، وكانت هذه الجينات بمنزلة الأدوات التي تستخدمها الدودة للسيطرة على فرس النبي.

 بالإضافة إلى ذلك، وجدوا 1500 جين في الدودة التي أصبحت أقل نشاطًا خلال فترة السيطرة هذه، قد تكون هذه الجينات مرتبطةً بأشياء لا تحتاج الدودة إلى فعلها عندما تتلاعب بـ"فرس النبي".

 والمثير للدهشة أن الباحثين وجدوا أن دماغ فرس النبي لم يُظهر أي تغيرات في نشاط الجينات، كان الأمر كما لو أن دماغ فرس النبي لا يمكن تمييزه عن أدمغة فرس النبي التي لم تُصَب بهذه الديدان.  وهذا يعني أن دودة شعر الخيل لديها مجموعة خاصة بها من الأدوات (الجينات) التي تستخدمها للتحكم في الجهاز العصبي لحشرة فرس النبي، في الوقت الذي يظل فيه دماغ فرس النبي دون تغيير على الرغم من سيطرة الدودة عليه.

يقول "ميشينا" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": يبدو الأمر كما لو أن الدودة لديها وصفة سرية خاصة بها للتحكم في حشرات فرس النبي.

 عمل الباحثون بعد ذلك على البحث في قاعدة بيانات البروتين لاستكشاف أصول الجينات التي تستخدمها ديدان شعر الخيل للسيطرة على فرس النبي.

وجد العلماء شيئًا مثيرًا للاهتمام للغاية؛ فالعديد من الجينات الموجودة في الدودة -والتي تعتبر حاسمة في السيطرة على حشرات فرس النبي- كانت مشابهة جدًّا للجينات الموجودة في تلك الحشرة نفسها، يشير هذا التشابه إلى أن الدودة ربما تكون قد حصلت على هذه الجينات من فرس النبي، وتُعرف هذه العملية باسم "نقل الجينات الأفقي".

للتأكد، فحص الباحثون دودة شعر الخيل التي لا تستخدم "فرس النبي" كمضيف، ليجدوا أن جيناتها تختلف تمامًا عن جينات تلك التي تحتل جسم تلك الحشرة.

يقول "ميشينا": إن نقل الجينات الأفقي بين حقيقيات النوى متعددة الخلايا أمرٌ نادر، وبالتالي، فإن اكتشاف تلك العملية يُمكن أن يكون نموذجًا فريدًا لنقل الجينات الأفقي بين الكائنات متعددة الخلايا.

 وتمثل الدراسة قفزةً كبيرةً إلى الأمام في فهمنا لكيفية تعامل الطفيليات مع مضيفيها؛ فالكشف عن إمكانية "سرقة الجينات" من خلال نقل الجينات الأفقي يقدم نظرةً على الإستراتيجيات المعقدة التي تستخدمها هذه الكائنات للحفاظ على أسلوب حياتها الطفيلي.

 يقول "ميشينا": ذلك الاكتشاف يعِد بعواقب بعيدة المدى في مختلِف التخصصات العلمية، وقد يحمل في نهاية المطاف المفتاح لإدارةٍ أفضل للعدوى الطفيلية والتفاعلات بين الطفيليات المضيفة في العالم الطبيعي.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.206