أخبار

الآليات الدماغية وراء اشتهاء الطعام في الدورة الشهرية

نشرت بتاريخ 12 أكتوبر 2023

تشير دراسة جديدة إلى أن اختلاف الشهية للطعام قد يُعزى إلى تغيرات في درجة استشعار الدماغ للإنسولين خلال مراحل الدورة الشهرية.

جوسلين سوليس-موريرا

Marilena Ness/Getty Images Enlarge image
إن اشتهاء الطعام الجارف الذي يصاحب في كثير من الأحيان الدورة الشهرية ليس ضربًا من الوهم، بل له أساس وطيد من الواقع. غير أن العلم إلى اليوم ظل قاصرًا عن تفسير التوق المتزايد في هذه الفترة إلى النشويات والحلوى. ومؤخرًا، خرجت إلى النور ورقة بحثية جديدة تدلنا على آلية دماغية ترتبط بالدورة الشهرية قد يُعزى إليها هذا النهم وتفسره. إذ كشفت تجربة إكلينيكية صغيرة النطاق، نُشرت في الأسبوع الثاني من الشهر الجاري في دورية «نيتشر ميتابوليزم»Nature Metabolism  عن اختلافات في درجة استشعار الإنسولين والاستجابة له في مراحل مختلفة من الدورة الشهرية. ومع أن الشهية للطعام لم تكن محل دراسة مباشرة خلال الدراسة، يشير الفريق البحثي إلى أن تزايد درجة التأثر بهرمون الإنسولين المُنظم لمستويات الجلوكوز والأيض الغذائي وامتصاص الطعام، قد تقف وراء هذا النهم المفاجئ.

تعقيبًا على هذا الاكتشاف، يقول مارتِن هيني، وهو أستاذ جامعي متخصص في الغدد الصماء من مستشفى جامعة أولم في ألمانيا، وأحد كبار المؤلفين المشاركين في الدراسة: "يسهم الدماغ في تغيرات أيضية، وعلى الأرجح في تغيُّر السلوك الغذائي في المراحل المختلفة من الدورة الشهرية. وهي تغيرات غير ضارة على الإطلاق. إنها فسيولوجية. مع ذلك، هي قد تفسر أيضًا المشاعر التي تنقلها لنا العديد من النساء عن ماهية ما يختبرنه خلال الدورة الشهرية. ولعل هذه التغيرات إحدى الآليات الكامنة وراء هذه المشاعر".

يُنتج الإنسولين في البنكرياس، لكنه قد يعبر الحاجز الدموي الدماغي، ليسنح له بعدئذ استهداف خلايا في مناطق عدة من الدماغ لتنظيم بعض الآليات الجسمانية. وقد وجدت أبحاث سابقة لفريق هيني أن الإنسولين في الدماغ يمكن أن يساعد في كبح إنتاج الجلوكوز وتحفيز امتصاصه في الأنسجة العضلية، وهو ما يؤشر على دوره المهم في التحكم في الأيض وإنتاج طاقة الجسم بأكمله. غير أن فحوص تقصي هذه العلاقة بين الإنسولين في الدماغ وأيض الجسم اقتصر إجراؤها في السابق على الشباب اليافعين.

كذلك فقد عرقل تذبذُب مستوى الهرمونات الجنسية خلال الدورة الشهرية إجراء الأبحاث حول التغيرات في مستويات الإنسولين بين من يختبرون الدورة الشهرية، إذ إن بعض الآليات الجسمانية مثل تهيُأ الرحم لاحتمالية الحمل، قد تطلق تغيرات في آلية تحكم الجسم في أيض الجلوكوز. من هنا، في تجربة إكلينيكية، ألحق فريق هيني البحثي إحدى عشرة امرأة أفدن بانتظام دورتهن الشهرية، وبلغ وسيط أعمارهن 24 عامًا. بعدئذ، درس الفريق البحثي بين المشاركات في التجربة التغيرات التي تطرأ لديهن خلال مرحلتين من الدورة الشهرية، هما مرحلة الحوصلة ومرحلة الجسم الأصفر. وفي المرحلة الأولى، مرحلة الحوصلة، يُعِد الجسم بويضات الإخصاب التناسلي للتبويض. وتبدأ هذه المرحلة عادة في اليوم الأول من الدورة الشهرية وتنتهي بانتهاء التبويض. أما مرحلة الجسم الأصفر، فتبدأ بعد التبويض، وتحدث مع سفر البويضة إلى داخل الرحم، حيث تتأهب لاحتمالية إخصابها. وهذه المقاربة الدراسية، على حد تعبير هيني، "تبين أنها فكرة رائعة"، معللًا لذلك بقوله: "لاحظنا اختلافات كبيرة بين كلتا المرحلتين من الدورة الشهرية".

ثبَّت الفريق البحثي مشابك لقياس الإنسولين في المشاركات بالتجربة، وهي أدوات تُعد المعيار الذهبي لقياس درجة استشعار الجسم لهذا الهرمون. وقاست المشابك هذه الدرجة بعدما أمد الباحثون المشاركات بجرعة من الإنسولين أو من عقار وهمي من خلال بخاخ أنف على عدة جلسات. كذلك حقن الباحثون المشاركات وريديًا بجرعة من الإنسولين. وساعدت هذه الطريقة على إمداد الدماغ سريعًا ومباشرة بكميات كبيرة من الإنسولين. وقد خضعت كل من المشاركات لأربع جلسات، اثنتان منها خلال مرحلة الحوصلة، واثنتان منها خلال مرحلة الجسم الأصفر.

وتبين تزايد استشعار وتأثر الدماغ بالإنسولين لدى المشاركات خلال مرحلة الحوصلة، في الفترة التي تبدأ فيها عادة الدورة الشهرية. وتلاشت هذه الاستجابة ما إن بدأت النساء طور الجسم الأصفر، وهو ما يشير إلى حدوث تغيُر في مستويات مقاومة الجسم للإنسولين.

وتشير هذه النتائج إلى أن عملية مقاومة الإنسولين الدماغية قد تضفي صعوبة على عملية تنظيم إنتاج الطاقة في سائر الجسم. ويُحتمل كذلك أن هذه المقاومة تتداخل مع أدوار الإنسولين الأخرى مثل التحكُم في الشهية. ويٌذكر هنا أن دراسات سابقة للسمنة وداء السكري قد وجدت علاقة بين تزايد مستويات الإنسولين ودرجة استشعاره من ناحية والشعور بالشبع وانخفاض الشهية من ناحية أخرى. أما مقاومة الإنسولين من جهة أخرى، فيُعتقد أنها تحفز زيادة اشتهاء الطعام. ورغم أن الفريق البحثي لم يجر بالشكل المتعارف عليه فحوصًا ترصد مقدار تناوُل المشاركات في الدراسة للطعام، يرى هيني أن نتائج الدراسة قد تفسر سبب اشتهاء الطعام في النصف الثاني من الدورة الشهرية.  وإن صح هذا، فهذا من شأنه أن يؤيد ما أفادت به أبحاث من تزايد اشتهاء الطعام خلال مرحلة الجسم الأصفر.

وللتثبُت من صحة نتائجه، عمد الفريق البحثي إلى إجراء تجربة أخرى باستخدام ما يُعرف باسم تقنية التصوير العصبي أو التصوير الشعاعي للجهاز العصبي، بهدف إلقاء نظرة عن كثب أكبر على النشاط الدماغي خلال فترة الدورة الشهرية. وفي هذه التجربة الجديدة، التي ضمت 15 من المشاركات الأخريات بلغ وسيط أعمارهن 23 عامًا، أظهر التصوير الشعاعي للجهاز العصبي نمطًا مماثلًا من استشعار الإنسولين والاستجابة له، لا سيما في منطقة تحت المهاد الدماغية التي تنهض بدور مركز التحكم في امتصاص الطعام وأيضه.

غير أن أحد مواطن قصور الدراسة تكمن في صغر حجم عينة المشاركات بها، وهو ما من شأنه أن يحيد بصحة نتائج أية دراسة مماثلة. على أن الإبقاء على مشاركة عدد كبير من الأشخاص في مثل هذه الدراسات التجريبية الرصدية تعترضه تحديات، لا سيما أن ذلك يتطلب خضوع المشاركين للتجارب عدة مرات، بحسب ما توضح ألكساندرا ديفيليسيانتونيو، التي لم تشارك في الدراسة، وتعمل في معهد فيرجينيا للتقنيات باحثة في علم الأعصاب، ومتخصصة في دراسة آليات تحكم الدماغ في التفضيلات الغذائية. فبحسب تعبيرها: "ينتهي الباحثون دائمًا بعدد أقل من المشاركين لارتفاع تكلفة التجارب وما تستغرقه من وقت". إلا أنه تجدر الإشارة أيضًا إلى أن مدى استشعار الإنسولين والاستجابة له اللذين رُصدا لدى جميع المشاركات كانا "لافتين"، بتعبير نيلز كرومر، المتخصص في علم الأعصاب من جامعة بون في ألمانيا، والذي لم يشارك في الدراسة لكنه كتب افتتاحية لمجلة Nature، صاحبت مقال نشرها في المجلة. وتؤكد نتائج الدراسة بحسب قوله الحاجة إلى دراسة أوسع نطاقًا مستقبلًا، يمكنها أن تأخذ بالحسبان عوامل أخرى تؤثر في أيض الطاقة، من بينها السمنة، واستخدام موانع الحمل أو اعتلالات الغدد الصماء الكامنة التي ترتبط بمقاومة الإنسولين مثل داء تكيُّس المبايض.

وفي الوقت الحالي، ربما كانت نتائج الدراسة تلفت فحسب إلى آلية عصبية قد تفسر اختلاف الشهية للطعام خلال الدورة الشهرية، بحسب ما يشير كرومر، الذي يقدم لنا طرحًا آخر وهو أن دوائر منطقة تحت المهاد التي تلعب دورًا في أيض الطاقة قد يتداخل عملها مع الدوائر المنسقة للاستجابة للمحفزات السلوكية، مثل محفزات البحث عن الطعام. ويضيف كرومر: "قد يفسر هذا بعض التغيرات (في الدورة الشهرية) التي استعصى تحديد الآلية التي تقف وراءها". كذلك يُحتمل أن دائرة تحت المهاد يرتبط عملها بآلية يُعرف بالفعل أنها تحفز الدماغ لاشتهاء الطعام، تفيد ديفيليسيانتونيو بأن لها علاقة كبيرة بإفراز هرمون مادة الدوبامين المسؤولة عن تحقيق الشعور بالمتعة وتحفيز السلوكيات الساعية إليها، مثل التهام وجبة المرء المفضلة. غير أن ديفيليسيانتونيو تضيف أنه من المحتمل أن عوامل وآليات أخرى بالجسم تلعب دورًا في هذا الصدد، من بينها عمليات الجسم التي تحدث خلال الدورة الشهرية وتؤثر بدورها في اشتهاء الطعام. من هنا، ثمة حاجة إلى مزيد من الأبحاث للوصول إلى فهم أفضل للآليات التي تحفز الشعور بالجوع والتوق للطعام خلال الدورة الشهرية.

*ملحوظة من المحرر (22/9/2023): حررت هذه الجملة بعد نشرها لإبراز الانتماء الأكاديمي لمارتِن هيني.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.199