مقالات

Read this in English

كيف تُسهم العوامل البيئية في الإصابة بالسمنة؟

نشرت بتاريخ 24 سبتمبر 2023

هناك أسئلة بلا إجابات حول السمنة تحتاج إلى بحث مُعمّق ومُنفتح عن المُسببات الخفية للمرض وفهم الآليات الجزيئية التي تتحكم في كيفية تناوُل الطعام وحرق الطاقة

محمد السيد علي

يُعد الاعتراف بالتحول في العادات الغذائية من
الأمور الأساسية لفهم مسار السمنة

يُعد الاعتراف بالتحول في العادات الغذائية من الأمور الأساسية لفهم مسار السمنة


Eslam Elhanafy Enlarge image
غالبًا ما يُنظر إلى الشخص المصاب بالسمنة على أنه المسؤول الأول والأخير عما وصل إليه وزنه، إما لكثرة تناوله للطعام، أو لقلة نشاطه البدني، لكن يبدو أن المسألة أكثر تعقيدًا مما نتصور؛ إذ كشفت مراجعة منهجية حديثة أنه بالرغم مما وصل إليه العلم في فهم مُسببات السمنة، إلا أنه لا يزال هناك العديد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية حول الآليات الجزيئية التي تؤدي إلى السمنة.

وذكر الباحثون في دراسة نشرتها دورية "ساينس" (Science)، أن "إحدى القضايا الرئيسية هي الاعتقاد الخطأ بأن السمنة تنتج إما عن الجينات التي نتوارثها أو عن البيئة التي نعيش فيها، لكنها في الواقع مزيجٌ من الاثنين معًا؛ إذ يمكن للجينات أن تجعلنا أكثر تعرضًا للسمنة أو أقل، لكن العوامل البيئية -مثل نظامنا الغذائي ومستوى نشاطنا- تؤدي دورًا حاسمًا في تحديد مَن يصاب بالمرض".

يقول ثوركيلد سورنسن، الأستاذ بقسم الصحة العامة في جامعة كوبنهاجن، والباحث الرئيسي للدراسة: "رغم التقدم المُحرَز حتى الآن في أبحاث السمنة وكيفية تنظيم أجسامنا للدهون، لا تزال لدينا علامات استفهام تحتاج إلى المزيد من البحث لمعالجتها".

يضيف "سورنسن" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": هذه المعرفة المنقوصة تجعلنا نرفض أي تحيُّز حول كون السمنة سببًا ذاتيًّا، أي ناجمة عن فشل التحكم الطوعي في تناول الطعام والنشاط البدني، وبالتالي نأمل معارضة الوصم السائد والتمييز الناتج عن ذلك، والذي يُقلل بشدة من نوعية حياة مصابي السمنة.

عوامل جينية وبيئية

تعتبر السمنة مشكلة معقدة تتأثر بجيناتنا وبيئتنا، لكن حتى الآن لم نحدد بشكل جيد العوامل البيئية والجينية التي تُسهم في السمنة، وفق الدراسة.

ووفق تقديرات أطلس السمنة العالمي، الصادر عن الاتحاد العالمي للسمنة في مارس 2023، فإن أكثر من 4 مليارات شخص (51% من سكان العالم) سيعانون من السمنة بحلول 2035، وستبلغ التكلفة الإجمالية لعلاج الأمراض المرتبطة بالسمنة ما يقدر بـ4.32 تريليونات دولار سنويًّا، وهو ما يعادل تكلفة جائحة "كوفيد-19" في العالم من نفقات الرعاية الصحية في 2020.

يضيف التقرير: ما يثير القلق أنه من المتوقع أن يكون مؤشر كتلة الجسم (مؤشر كتلة الجسم ≥25 كجم / م 2) مرتفعًا لدى أكثر من نصف سكان العالم، وبحلول نهاية هذه الفترة، سيعاني 1 من كل 4 أشخاص من السمنة (مؤشر كتلة الجسم ≥30 كجم/م2) مقارنةً بـ1 من كل 7 أشخاص اليوم، وترتفع معدلات السمنة لدى الأطفال بسرعة خاصة؛ إذ يُتوقع أن تتضاعف المعدلات بين الأولاد بحلول عام 2035 ليصل العدد إلى 208 ملايين، وأن ترتفع بنسبة 125% بين البنات ليصل العدد إلى 175 مليونًا، وإجمالًا، سيعيش أكثر من 1.5 مليار بالغ وحوالي 400 مليون طفل مع السمنة خلال 12 عامًا ما لم تُتخَذ إجراءات مهمة.

يقول "سورنسن": نواجه مشكلات في تحديد الآليات التي تؤثر من خلالها العوامل الوراثية على مؤشر كتلة الجسم، والدور الذي تؤديه في تطور السمنة رغم التقدم المُحرَز حتى الآن في هذه الجزئية، لكن التصاعد السريع لمرض السمنة في معظم أنحاء العالم يجب أن يدفعنا أيضًا نحو دراسة العوامل البيئية المهمة التي تؤدي إلى الإصابة بالسمنة.

ويتابع: رغم معرفتنا بالأسباب الرئيسية لتطور السمنة، مثل توافُر الإمدادات الغذائية والعوامل النفسية والاجتماعية التي قد تؤثر بشكل عميق على مَن يصاب بالسمنة بين السكان، إلا أننا ما زلنا بعيدين جدًّا عن المعرفة التفصيلية والمحددة حول العوامل البيئية الأخرى الأكثر أهميةً التي قد تشارك في تطور الوباء.

اختلاف العوامل في العالم العربي

تحتل الكويت حاليًّا المرتبة الأولى في معدلات السمنة بين البالغين في الشرق الأوسط والعالم العربي بنسبة انتشار 34.28% بين الذكور و47.08 بين الإناث، تليها قطر (33.46% للذكور و44.60% للإناث)، ثم السعودية بنسبة 31.73% للذكور و43.74 للإناث، مع ملاحظة تقدم الأردن على المملكة العربية السعودية في نسبة الإناث المصابات بالسمنة، والتي بلغت 44.60%، وفق تقديرات الاتحاد العالمي للسمنة.

من جهته، يعلق أحمد مصطفى -أستاذ المعلوماتية الحيوية وعلم الجينوم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة- قائلًا: انعكست الزيادة العالمية المثيرة للقلق في معدلات السمنة على مدى العقود القليلة الماضية بشكل ملحوظ في العالم العربي، وقد شهدت هذه المنطقة تفاعلًا فريدًا بين العوامل الوراثية والبيئية التي تسهم في انتشار وباء السمنة.

 انعكست الزيادة العالمية المثيرة للقلق في معدلات السمنة بشكل ملحوظ في العالم العربي

 انعكست الزيادة العالمية المثيرة للقلق في معدلات السمنة بشكل ملحوظ في العالم العربي


Eslam Elhanafy Enlarge image

يضيف "مصطفى" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": رغم أن المكون الجيني قد يكون هو ذاته في جميع أنحاء العالم، إلا أن الاختلافات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي تجعله فريدًا، ويُعد الاعتراف بالتحول في العادات الغذائية من الأمور الأساسية لفهم مسار السمنة في العالم العربي، فقد أدخل النمو الاقتصادي والعولمة التأثيرات الغذائية الغربية، ما أدى إلى إزاحة الأنظمة الغذائية التقليدية الغنية بالحبوب الكاملة والخضراوات والبروتينات الخالية من الدهون جانبًا وإحلال السكريات المكررة والدهون غير الصحية والأطعمة المصنَّعة محلها؛ إذ تجد هذه الأطعمة الغنية بالطاقة -والتي غالبًا ما يتم تسويقها بقوة- استحسانًا بين السكان الحريصين على تبنِّي الاتجاهات الغذائية الحديثة.

في المقابل، يواجه النشاط البدني -الذي يُعد بمنزلة توازن أساسي للتجاوزات الغذائية- تحدياته الخاصة في المنطقة، وفق "مصطفى"؛ إذ يمكن للمعايير الثقافية -وخاصةً تلك المتعلقة بالمرأة- أن تفرض في بعض الأحيان قيودًا على الأنشطة الخارجية، بالإضافة إلى ذلك، فإن المناخ الحار السائد في المنطقة لا يشجع على ممارسة الرياضة والأنشطة في الهواء الطلق.

يقول "مصطفى": تؤدي العوامل البيئية دورًا مهمًّا، إلا أننا لا نستطيع أن نستبعد الاستعداد الوراثي الذي قد يجعل البعض أكثر تعرضًا للسمنة، وفي حين حددت الأبحاث العالمية علاماتٍ وراثيةً مختلفةً مرتبطة بالسمنة، إلا أن هناك حاجة مُلحة إلى مزيد من الدراسات المحلية في العالم العربي، وكشف هذه الخيوط الجينية يمكن أن يقدم نظرةً ثاقبةً حول سبب تأثر بعض شرائح السكان بالسمنة أكثر من غيرها.

نمط الحياة والسمنة المرضية

يؤكد مصطفى الحوتي -استشاري التغذية العلاجية وعلاج السمنة في مصر- أن "هناك عاملًا أساسيًّا ومشتركًا بين الشعوب يُسهم بجزء كبير من حالات السمنة الشائعة، وهو "نمط الحياة" غير الصحي، الذي يركز على مجموعة من العادات والسلوكيات التي يمكن أن تضر بالصحة، وأبرزها كثرة تناوُل الأطعمة السريعة، وعدم ممارسة الرياضة بانتظام، والجلوس لفترات طويلة، وعدم انتظام النوم.

يقول "الحوتي" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": إن نمط الحياة الحديثة أسهم بشكل كبير في تغيير نمط الحياة الصحي الذي كان سائدًا في السابق؛ إذ أصبحنا نعيش حياةً تتطلب الجلوس لفترات طويلة، مثل العمل المكتبي، واستخدام وسائل النقل بكثرة، وفرط الجلوس أمام الشاشات والأجهزة الإلكترونية.

ويتابع: يجب أيضًا عدم إغفال مسببات السمنة المرضية، الناجمة عن الإصابة بأمراض الغدة الدرقية، أو تناوُل بعض الأدوية مثل أدوية الكورتيزون المستخدمة لعلاج الحساسية، وأدوية الهرمونات وأدوية الأمراض النفسية ومضادات الاكتئاب، وكلها تؤدي إلى آثار جانبية أبرزها زيادة الشهية واحتباس السوائل ومن ثم زيادة الوزن، خاصةً أن تحديد السبب الأساسي للسمنة، سواء الناجمة عن نمط الحياة، أو تناول أدوية معينة، أو أي سبب آخر، يُسهم إسهامًا كبيرًا في العلاج.

نظرة مُنفتحة

يرى "سورنسن" أن الهدف الرئيسي من دراسته الحالية هو إلهام الباحثين المهتمين بالموضوع للبحث على نحوٍ متعمق عن المُسببات الخفية للسمنة، والتعمق في فهم الآليات الجزيئية التي تتحكم في كيفية تناوُلنا الطعام وحرق الطاقة.

يجب عدم إغفال مسببات السمنة المرضية الناجمة عن الإصابة بأمراض الغدة الدرقية أو تناوُل بعض الأدوية 
يجب عدم إغفال مسببات السمنة المرضية الناجمة عن الإصابة بأمراض الغدة الدرقية أو تناوُل بعض الأدوية 
Public Domain Enlarge image

ويضيف: يجب أن نكون منفتحين لفهم أسباب السمنة في محاولاتنا المستقبلية، ومستعدين للنظر في الأفكار التي تبدو غريبة، فبالرغم من أن هناك هرمونات -مثل الليبتين، الذي يؤدي دورًا رئيسيًّا في تنظيم استهلاك الطاقة في الجسم، بما في ذلك الشهية والأيض- تشارك في تلك الآلية، إلا أن هناك الكثير مما لا نعرفه عن كيفية استجابة أجسامنا للإفراط في تناول الطعام وتأثير ذلك على أعضائنا وأنسجتنا، وفق النتائج التي توصلت إليها الدراسة.

كما تؤدي أدمغتنا دورًا مركزيًّا في التحكم في سلوكنا الغذائي، لكن كيفية قيامها بذلك استجابةً للإشارات الواردة من أجسامنا والمناطق المحيطة بنا لا تزال لغزًا، ونحن لا نفهم تمامًا كيف تقوم أدمغتنا باختيار ما نأكله، وفق الدراسة.

يقول "سورنسن": تحتاج النظرية الشاملة حول تطور السمنة إلى دمج التغيرات في البيئة الاجتماعية، والإشارات التفاعلية للدماغ مع باقي أعضاء الجسم، ومع الأنسجة الدهنية على وجه الخصوص، وفي العديد من مكونات عملية الأيض في الجسم أيضًا.

ويضيف: من خلال الاستفادة من التقدم الكبير الذي تحقق في السنوات الخمسين الماضية، تُعد دراسة أسباب السمنة مجالًا غنيًّا بالاكتشافات التي يمكن أن تمثل تحولًا لملايين الأشخاص، وتحسين فهمنا للعوامل البيئية وكيفية تفاعُلها مع التركيب الوراثي لتحقيق تقدم في هذا المجال الطبي المهم.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.179