مقالات

فجوات معرفية حول أمراض الشيخوخة في مصر

نشرت بتاريخ 8 سبتمبر 2023

بيانات المسح الحالية في مصر تفتقر إلى توثيق الظروف الجسدية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية لكبار السن ومراقبتها

محمد السيد علي

يتفاقم تنوع عمليات الشيخوخة بسبب التفاوت
الاجتماعي والبيئي الكبير في مصر

يتفاقم تنوع عمليات الشيخوخة بسبب التفاوت الاجتماعي والبيئي الكبير في مصر


hadynyah/ E+/ Getty Images Plus Enlarge image
"العالم يشيخ"، عبارة أطلقتها منظمة الأمم المتحدة، محذرةً من أن الشيخوخة تُمثل تحولًا ديموجرافيًّا كبيرًا يستلزم فهمًا متعمقًا للتحديات والفرص التي ستواجه العالم مستقبلًا، خاصةً أن 16% من عدد سكان العالم (واحدًا من كل ستة أفراد في العالم) سيكونون أكبر من سن 65 سنة بحلول عام 2050.

وعادةً، ترتبط شيخوخة السكان -الناجمة بالأساس عن انخفاض الخصوبة وزيادة متوسط العمر المتوقع- بالبلدان الأكثر تقدمًا، خاصةً في أوروبا، لكن هذا التحول الديموجرافي يُمثّل أيضًا تحديًا للبلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل ومن بينها مصر.

وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية، ارتفع عدد السكان الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة من مليار نسمة في عام 2020 إلى 1.4 مليار نسمة في الوقت الحالي، وسط توقعات بارتفاع العدد إلى 2.1 مليار نسمة بحلول 2050، وأن تؤوي البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل ثلثي سكان العالم البالغة أعمارهم 60 عامًا فما فوق خلال الـ27 عامًا القادمة.

الشيخوخة في مصر

أما في مصر، فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع من 58 إلى 69 عامًا للرجال، ومن 62 إلى 73 عامًا للنساء بين عامي 1980 و2020، ومن المتوقع أن يبلغ 74 عامًا للرجال و79 عامًا للنساء بحلول 2050، وفق دراسة حديثة نشرتها دورية "نيتشر إيدجينج" (Nature Aging).

وكشفت الدراسة وجود فجوات معرفية في البيانات التي تصف كيفية تأثير الشيخوخة على البلدان العربية المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل، وفي مقدمتها مصر، مضيفةً أن "بيانات المسح الحالية في مصر تفتقر إلى توثيق الظروف الجسدية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية ومراقبتها لدى كبار السن من المصريين، ورصد تنوعها ومساراتها على مدار الحياة، ولا ترصد تأثير قضايا مثل تغير المناخ والفوارق بين الجنسين وعدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية على صحة كبار السن بشكل مناسب".

وتؤثر الموارد المالية المحدودة في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل بشكل غير متناسب على كبار السن؛ إذ إنهم أكثر تعرضًا للبطالة و/أو الأمية، ويحتاجون إلى دعم كبير مع تقدم السن، ويعاني كبار السن في مصر من معدلات عالية من الإعاقة والمراضة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الفقر من خلال ارتفاع معدلات النفقات الطبية الباهظة، ويبرز ذلك بشكل خاص بالنسبة للنساء في مصر؛ إذ إنهن يعشن أطول من الرجال، وبلغت النسبة الإجمالية المقدرة بين الجنسين 85 رجلًا مقابل 100 امرأة لمَن تبلغ أعمارهم 60 عامًا فما فوق في عام 2010، وتميل هذه النسبة بشكل أكبر نحو النساء مع تقدم العمر بمعدل يبلغ 68 رجلاً فقط مقابل 100 امرأة عند عمر 80 سنة أو أكثر.

وفي محاولة لسد تلك الفجوة المعرفية، أعلن فريق البحث إطلاق دراسة طويلة الأمد خلال 2024، حول الشيخوخة الصحية في البلاد.

يشير محمد سلامة -الأستاذ المشارك في معهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وقائد فريق البحث- إلى أن مصر كانت تُعرف في السابق بأنها "دولة شابة"، إلا أن هذا الوضع سيتغير في المستقبل القريب وستزيد أعمار السكان بشكل كبير أسوةً بأوروبا، وهذا التوقيت يُعد مثاليًّا لإطلاق هذه الدراسة في مصر استعدادًا لما هو قادم.

يقول "سلامة" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": يصاحب بلوغ هذا السن مشكلات صحية واجتماعية واقتصادية مختلفة كليًّا عنها في باقي الفئات العمرية، وبالتالي لا بد أن نستعد بخطط وسياسات للتعامل معها، لكن تنقصنا هذه المعرفة حاليًّا، ونأمل أن تسد الدراسة المرتقبة هذه الفجوة المعرفية وتُمكِّننا من الاستعداد بشكل أفضل لمواجهة تحديات شيخوخة السكان في مصر.

يضيف "سلامة": تكتسب هذه الدراسة أهميةً خاصةً في ظل محدودية الموارد في مصر، وهذا يحتاج إلى توجيه تلك الميزانية المحدودة إلى قطاعات بعينها مثل الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، بناءً على دراسات موثقة؛ كي يستفيد منها كبار السن، وتعتبر مصر مثالًا مثيرًا للاهتمام بشكل خاص؛ إذ تُعد أكبر دولة عربية أو شرق أوسطية من حيث عدد السكان، وكذلك ثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان في أفريقيا.

وبالرغم من أن المصريين لا يزالون من فئة الشباب، إلا أنه من المتوقع أن يستمروا في النمو، ويزداد عدد كبار السن، ما يؤدي إلى شيخوخة السكان السريعة، وبحلول 2050، يُتوقع أن يبلغ عدد إجمالي سكان مصر 160 مليونًا بمتوسط عمر 29.7 عامًا، ويتضمن ذلك 22 مليونًا (13.8٪) من البالغين الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا أو أكثر.

اختلاف العوامل

مع زيادة أعمار سكان البلدان الغنية، انتبهت العديد منها لأهمية إجراء مُسوحات الشيخوخة الصحية، وهي دراسات طويلة الأمد لرصد التغيرات الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تحدث مع تقدم العمر، ورصد أبرز العوامل التي تقود إلى الشيخوخة الصحية، بالإضافة إلى تقييم السياسات العامة التي تؤثر على صحة كبار السن، وقياس التغييرات في صحة كبار السن ورفاهيتهم مع تقدم العمر، وتطوير سياسات وبرامج جديدة يمكن أن تساعد في تحسين رعاية كبار السن ورفاهيتهم.

وبالرغم من أن دراسات الصحة والتقاعد التي أُجريت حول العالم قد خرجت بنتائج ثرية، وفق "سلامة"، لكنها لا يُمكن بأي حال أن تطبق على السكان في مصر والبلدان العربية، نظرًا للاختلافات الواسعة في الثقافة والتعليم والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والجينية والبيئية، ونُظم الرعاية الصحية.

يقول "سلامة": هنا تأتي أهمية الدراسات التي تُجرى في كل بلد على حدة؛ لأنها تعكس الوضع الحقيقي الذي يعيشه السكان، والذي يؤثر بطبيعة الحال على أوضاعهم المعيشية والصحية، ما دفع لبنان -على سبيل المثال- إلى بذل جهود بحثية لدراسة هذه الفئة العمرية.

رصد العوامل البيئية

من جهته، يرى فراس قبيسي -الباحث بقسم الكيمياء الحيوية وعلم الوراثة الجزيئي بالجامعة الأمريكية في بيروت، وغير المشارك في الدراسة- أن "ما يميز هذه الدراسة أنها تُركز على رصد تأثير العوامل البيئية -وفي مقدمتها تغيُّر المناخ وتلوث المياه والتصحر واستخدام المبيدات بكثافة- على صحة كبار السن في مصر".

يقول "قبيسي" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": من المتوقع أن توفر نتائج الدراسة رؤىً ثاقبة حول خطط تأمين رعاية صحية واجتماعية جيدة لكبار السن في المستقبل، وأتمنى أن تكون بدايةً لانطلاق دراسات مماثلة في البلدان العربية والأفريقية، وخاصةً التي تعاني من الفقر والحروب مثل النيجر والصومال والسودان، والبلدان ذات الكثافة السكانية المرتفعة والتي تشهد تنوعًا كبيرًا في سكانها مثل الجزائر؛ لأن نتائج تلك الدراسات مُهمة بشكل خاص لوزارات الشؤون الاجتماعية في كل دولة.

وأشار إلى أن لبنان بدأ جهودًا بحثية متواضعة على مستوى الجامعات، لكن تلك الدراسات تُجرى على عينة صغيرة ما بين 100-200 شخص، ورغم أهميتها فإن نتائجها يشوبها القصور؛ لأنها لا تعبر عن الشعب اللبناني بجميع فئاته كما سيحدث في الدراسة طويلة الأمد التي أعلن الفريق البحثي إطلاقها خلال عام 2024.

تنوع السكان

وفق الدراسة، فإن الاختلافات في العمر والجنس ليست سوى عنصر واحد من عناصر التنوع الكبير لسكان مصر؛ إذ إن هناك عنصرًا آخر هو مزيج مصر الفريد من الثقافات والأسلاف العربية وشرق الأوسطية وجنوب البحر المتوسط والأفارقة.

ويتفاقم تنوع عمليات الشيخوخة بسبب التفاوت الاجتماعي والبيئي الكبير في مصر، ويتيح هذا التنوع فرصًا لدراسة المسارات السببية؛ فعلى المستوى البيولوجي، ترتبط شيخوخة الفرد بتراكُم الأضرار الجزيئية والخلوية الناجمة عن عوامل بيئية واقتصادية واجتماعية قابلة للتعديل، تختلف اختلافًا كبيرًا بين الأفراد في مصر، ويُعد فهم التفاعل بين الصحة والجنس والحالة الاجتماعية والاقتصادية وفقر الشيخوخة أمرًا بالغ الأهمية لتحديد أولويات السياسات الصحية والاجتماعية والاقتصادية.

وتشير نتائج الدراسة إلى أن نسبة مَن يعيشون بمفردهم في مصر ارتفعت من 9.9% في عام 1998 إلى 21.6% في عام 2018، وانخفضت نسبة الأفراد الأكبر سنًّا الذين يعيشون مع أطفال أو أحفاد من 69.8% إلى 46.7%، مما يعكس تفضيلًا متزايدًا للعيش الانفرادي بين كبار السن في مصر.

تغير المناخ

يتحمل كبار السن في مصر عبئًا كبيرًا من الأمراض، ومنها الاكتئاب والخرَف والضعف الإدراكي المرتبط به، والتي من المحتمل أن يكون سبب العديد منها عوامل بيئية قابلة للتعديل مثل تغير المناخ، وفق الدراسة.

وتتمتع مصر بأكبر زيادة في أيام الحرارة مقارنةً بأي دولة في أفريقيا، وفي ظل التأثيرات المفترضة الأخيرة للعوامل البيئية، بما في ذلك تلوث الهواء والمبيدات الحشرية وملوثات المياه وندرة المياه المتوقعة، فإن كبار السن المصريين معرضون بشكل خاص للآثار الصحية المحتملة لتغيُّر المناخ.

وتُعد التقارير الأخيرة عن ارتفاع معدلات الوفيات في أثناء موجات الحر وارتفاع عدد السكتات الدماغية أمثلةً واضحة على التأثير المباشر للتغيرات المناخية على الحالة الصحية لكبار السن، لذلك فإن غياب تمكين المجتمع لكبار السن في مصر سيحد من استعدادهم للحوادث المستقبلية، وفق الدراسة.

وأضاف الباحثون أنه لم يُدرَس رد فعل كبار السن تجاه مشكلات تغير المناخ في مصر والمنطقة، ما يتطلب تقييمًا متعمقًا، كما أن النقص الواضح في قواعد بيانات أو سجلات المرضى الفعالة يحد من التخطيط المناسب واتخاذ القرارات القائمة على الأدلة.

ويمكن للتبايُن المكاني والاجتماعي والاقتصادي في جميع أنحاء مصر أن يسهِّل اكتشاف المسارات السببية التي قد تساعد في التخفيف من الأضرار الناجمة عن تغيُّر المناخ وخلق معرفة جديدة فيما يتعلق بالشيخوخة الصحية في البلاد.

دراسة "الصحة" بمصر

ستكون الدراسة الطولية التي أعلن الباحثون إطلاقها العام القادم (2024)، والمعروفة باسم (AL-SEHA)، أول دراسة جماعية تمثيلية على المستوى الوطني حول الشيخوخة في مصر، وستكون الأولى من نوعها في دولة عربية ضمن الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل.

يقول "سلامة": الدراسة المرتقبة هي امتداد لدراسات الصحة والتقاعد الأخرى حول العالم، ومنها مشروع (SHARE)، وهو عبارة عن مسح متعدد التخصصات، انطلق في أوروبا منذ 2004، لرصد تأثير الجوانب الاقتصادية والديموجرافية والنفسية والاجتماعية والصحية على حياة الأفراد الذين تزيد أعمارهم عن 50 عامًا، في محاولة لتوفير حياة أكثر صحةً لكبار السن خلال فترة الشيخوخة.

وأضاف في حديثه لـ"نيتشر ميدل إيست": أطلقت على هذه الدراسة اسم "الدراسة الطولية للشيخوخة الصحية في مصر" (AL-SEHA)، وسيُجرى بدعم وتعاوُن مع القائمين على مشروع (SHARE)، وبتمويل من المعهد العالمي لصحة الدماغ، ويمكن أن تكون نواةً لإجراء دراسات مماثلة لها في بلدان عربية أخرى.

وتابع: ستنطلق الدراسة بمشاركة 20 ألف شخص تزيد أعمارهم على 50 عامًا، سيمثلون جميع المحافظات، وستتم متابعتهم كل عامين من خلال استبانة مترجمة ومعتمدة من مشروع (SHARE) لكن مع تغييرات في الأسئلة لتتوافق مع البيئة المصرية.

وعن موعد انتهائها، أفاد بأن فترة المتابعة ستستمر 10 سنوات حدًّا أدنى، وستركز المتابعة على رصد الجوانب الطبية، والتغيُّرات التي طرأت على حياة المشاركين طوال عامين، مضيفًا: ستوفر الدراسة فهمًا أفضل للعوامل التي قد تؤدي إلى أمراض الشيخوخة لدى المصريين، علاوةً على تقييم تأثير تغيُّر المناخ على السكان، ما سيضيف إلى المعرفة العالمية بمحددات الرفاهية والإعاقة المرتبطة بالشيخوخة.

وبناءً على الاختلافات الواسعة في التعليم، والفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، والبنية التحتية وتغطية التأمين الصحي، فإن الدراسة ستساعد الباحثين في جميع أنحاء العالم على فهم وتقييم العوامل التي تساهم في عدم المساواة الصحية والحصول على الرعاية الصحية في مصر.

طب الشيخوخة

ووفق الباحثين، فإن "تضمين مصر في شبكة مكونة من حوالي 12 دراسةً حول الشيخوخة على المستوى الدولي سيجعلها أول دولة عربية في هذه الشبكة، وهو أمرٌ شديد الأهمية لدولة مثل مصر تضم مجموعةً سكانيةً شديدة التنوع تعاني من قدر مثير للقلق من عدم المساواة الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وتتحمل عبئًا مزدوجًا من الأمراض المعدية وغير المعدية، والتي من المحتمل أن يكون سبب العديد منها عوامل بيئية مثل التعرض القوي لتغير المناخ".

من جهتها، تؤكد هدى يسري عبد الله -مدرس الوراثة الطبية ومدير وحدة البيولوجيا الجزيئية بمركز التميز الخلوي والجزيئي بكلية الطب بجامعة قناة السويس المصرية- أن تخصص "طب الشيخوخة" أصبح مطلوبًا بشكل كبير في معظم الدول العربية بفضل التغيرات في العمر المتوقع، وذلك لعلاج المشكلات والاضطرابات التي تحدث في هذه المرحلة.

تقول "هدى" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": خلال العقد الحالي حرصت دول عربية -من بينها مصر- على إجراء دراسات بحثية، وتقديم خدمات مميزة لتحسين نوعية الحياة لفئة كبار السن، من خلال توفير الخدمات الطبية والعلاجية المتطورة وعمل مبادرات لتحسين الخدمات الطبية المقدمة لهم.

وتضيف: تكتسب الدراسة المُرتقبة أهميةً خاصة، ليس فقط بالنسبة لكبار السن في مصر وحدها، بل يمكن أن تستفيد منها دول عربية أخرى، نظرًا لتقارب العادات والموقع الجغرافي والتركيبة الوراثية، مقارنةً بالدول الغربية، وبذلك نكون قادرين على وضع إستراتيجية مدروسة لحل المشكلات الصحية في مرحلة الشيخوخة.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.157