مقالات

2% فقط نسبة مشاركة الأفارقة في التجارب السريرية لأمراض القلب

نشرت بتاريخ 16 أغسطس 2023

مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا استحوذت على 82.1% من هذه التجارب.. و37 دولة أفريقية لم تُسهِم في أي تجربة سريرية حول العالم

محمد السيد علي

BSIP/Universal Images Group via Getty Images Enlarge image
قبل حوالي ثلاثة عقود، كانت أمراض القلب وتصلب الشرايين نادرةً في أفريقيا، وكانت الأمراض المعدية مثل الملاريا والسل السبب الرئيسي للوفاة، لكن الحال تبدل مع تغيُّر خريطة الأمراض في القارة السمراء، تراجعت الأمراض المعدية نتيجة برنامج التحصين، وأصبحت أمراض القلب والأمراض المُزمنة هي السائدة بسبب تغير النظام الغذائي وزيادة الإقبال على الأطعمة المُصنّعة والوجبات السريعة، وزيادة معدلات السمنة.

وتُعد أفريقيا مساهمًا رئيسيًّا في العبء العالمي لأمراض القلب والأوعية الدموية؛ ففي 2019، سُجلت أكثر من مليون حالة وفاة بالأمراض القلبية الوعائية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومثَّل هذا الرقم 5.4٪ من الوفيات العالمية المرتبطة بأمراض القلب و13٪ من جميع الوفيات في القارة.

ويمثل هذا التحول في خريطة الأمراض تحديًا كبيرًا للأنظمة الصحية في أفريقيا التي تعاني من نقص الموارد، ما يجعل من الصعب تقديم الرعاية الصحية اللازمة للمصابين.

الدراسات السريرية

بالرغم من توافُر علاجات عدة لأمراض القلب، لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحسين فاعلية هذه العلاجات، وتطوير علاجات جديدة، ولا يأتي ذلك دون إجراء دراسات سريرية تُحدد ما إذا كان العلاج الجديد آمنًا وفعالًا، بالإضافة إلى تحديد أفضل طريقة لاستخدامه.

ويُؤكد العاملون في مجال الرعاية الطبية حول العالم أهمية الدراسات السريرية التي تُجرى على البشر؛ لأنها تُوفّر أدلةً علميةً حول فاعلية العلاجات الجديدة، وتساعد الأطباء على اتخاذ قرارات أفضل بشأن علاج مرضاهم.

لكن المفارقة أن قارة أفريقيا -التي يسكنها 1.4 مليار نسمة وتمثل أمراض القلب عبء المرض الأكبر لسكانها- تسهم بحوالي 2٪ فقط من التجارب السريرية العالمية المنشورة في مجال طب القلب، وفق دراسة نشرتها دورية (Circulation: Cardiovascular Quality and Outcomes).

وتسلط الدراسة الضوء على التفاوت المذهل بين العبء العالمي لأمراض القلب والأوعية الدموية والمساهمة المحدودة للبلدان الأفريقية في البحوث السريرية في هذا المجال.

يقول سمير كباديا، رئيس قسم أمراض القلب والأوعية الدموية في مستشفى كليفلاند كلينك بالولايات المتحدة، وكبير مؤلفي الدراسة: "أجرينا مراجعة شاملة لإنتاج الدول الأفريقية من الدراسات السريرية في أبحاث طب القلب، التي تركز على قياس فاعلية الأدوية والتدخلات الجراحية المختلفة لدى مرضى القلب على مدى ثلاثة عقود، وهذا النوع من الدراسات يُعتبر أعلى درجات الأدلة العلمية التي تُستخدم في الطب عمومًا".

يضيف "كباديا" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": ما دفعنا إلى هذا هو أن معظم الدراسات السريرية التي تُجرى في تخصصات الطب المختلفة، تخرج عادةً من الدول الغربية، وأفريقيا التي يسكنها 1.4 مليار نسمة يخرج منها عدد ضئيل للغاية من التجارب السريرية.

ويتابع: قديمًا كانت الأمراض المعدية هي المسيطرة في أفريقيا، لكن حاليًّا حدث تغيُّر في طبيعة الأمراض الموجودة في القارة، وأصبحت الأمراض غير المعدية هي المسبب الأكبر للوفيات ودخول المستشفى، وعلى رأسها أمراض القلب.

ثلاثة عقود

للوصول إلى نتائج الدراسة، راجع الباحثون إنتاج جميع الدول الأفريقية البالغ عددها 54 دولة من التجارب السريرية في الفترة من 1990 إلى 2019، استنادًا إلى قاعدة البيانات الشهيرة "ببمد" (PubMed)، لرصد أعداد تلك التجارب في كل دولة وخواصها.

ووفق الدراسة، أُجريت 179 تجربة سريرية في البلدان الأفريقية في الفترة بين عامي 1990 و2019، وهو رقم كان ضئيلًا للغاية؛ إذ مثّل 2% فقط من التجارب السريرية لطب القلب التي أُجريت خلال هذه الفترة، في حين أُجريت الـ98% الباقية في بقية مناطق العالم وفي مقدمتها أوروبا وأمريكا الشمالية.

يقول عبد الرحمن أبو شوك -الباحث المصري بمستشفى كليفلاند كلينك وكلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية، والمؤلف الأول للدراسة- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": من المهم جدًّا التعامل مع مشكلة انخفاض مشاركة الأفارقة في التجارب السريرية؛ إذ إن نتائج الدراسات الغربية قد لا تنطبق بالضرورة على الشعوب الأفريقية نظرًا لطبيعة الاختلافات الجينية والثقافية بين السكان في الدول المختلفة.

أما ناصر طه -أستاذ أمراض القلب بجامعة المنيا في مصر- فيرى أن نتائج البحث تُعد مؤشرًا خطيرًا؛ إذ تسلط الضوء على الوضع الحرج الذي تعيشه قارة أفريقيا فيما يتعلق بأبحاث أمراض القلب.

يقول "طه" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": بالرغم من تواضُع نسبة مشاركة المرضى الأفارقة في التجارب السريرية التي تُجرى بالتعاون مع مراكز متعددة، إلا أن النتائج يتم تعميمها على جميع المرضى بالقارة، وهذا يؤكد الحاجة الماسة إلى إجراء تجارب سريرية تخص مرضى أفريقيا وحدهم، وبأعداد كبيرة، للخروج بنتائج أكثر دقةً فيما يتعلق بفاعلية الأدوية ومدى ملاءمتها للمرضى الأفارقة.

مصر في المقدمة

كشفت الدراسة اختلافًا كبيرًا بين دول أفريقيا من حيث عدد التجارب؛ إذ أُجريت 147 تجربة (أي ما يعادل 82.1% من هذه التجارب) في ثلاث دول فقط هي مصر (60 تجربة) وجنوب أفريقيا (55) ونيجيريا (32)، ولم تسهم 37 دولة (68.5٪) في أي تجربة سريرية منشورة طوال مدة الدراسة، في حين سجلت الدراسات من جنوب أفريقيا أعلى درجات التأثير، تليها مصر ونيجيريا.

يقول "أبو شوك": هذه النتيجة الصادمة تكشف غياب التوزيع العادل وتكافؤ الفرص بين بلدان أفريقيا، وبالنظر إلى تقييم جودة التجارب الأفريقية مقارنةً بالدراسات التي تُجرى في الغرب، نجد أنها كانت تواجه مشكلات عدة، أبرزها قلة عدد المرضى، وانخفاض المراكز الطبية المشاركة، التجارب الأفريقية تُنشر في مجلات ذات معامل تأثير ضعيف، ولا يمكن الحكم على جودتها نظرًا لغياب التفاصيل الخاصة بالتجارب، أو غياب التوزيع الجيد للمرضى وفق ضوابط  "التجربة السريرية العشوائية" التي يتم فيها توزيع المرضى على مجموعتين، وغياب الرؤية الواضحة للتحليل الإحصائي للتجارب، وكلها عوامل تؤدي إلى تراجُع فرص الخروج بتطبيقات علاجية فعالة بناءً على ما يُنشر من أبحاث.

وفيما يتعلق بالتمويل، وجد الباحثون أن 35.7% فقط من التجارب حصلت على تمويل من مؤسسات حكومية أو شركات أدوية أو مؤسسات غير ربحية، ما يشير إلى تراجُع تمويل الدراسات السريرية في أفريقيا، ويؤكد أن زيادة التمويل يمكن أن تُسهم في ارتفاع عدد التجارب السريرية في القارة السمراء، كما أن التعاون بين الدول الأفريقية وأوروبا وأمريكا في الأبحاث السريرية ضئيل.

بارقة أمل

لكن الجانب المضيء في النتائج أن الأبحاث السريرية زادت خلال العقد الأخير (2010-2019)، ما قد يوحي بأن أفريقيا ربما تسير على الطريق الصحيح، لكن بخُطىً بطيئة، وفق "أبو شوك".

من جهته، يشير أحمد بنداري -أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية المساعد بكلية الطب بجامعة بنها في مصر، والمشارك في الدراسة- إلى أن النتائج تسلط الضوء على الحاجة المُلحة إلى تعزيز الدعم والتمويل والتعاون لسد الفجوة في أبحاث القلب والأوعية الدموية بين أفريقيا والمناطق الأخرى.

يقول "بنداري" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": إن الآثار المترتبة تستدعي اهتمامًا عاجلًا، ونعتقد أنها تستحق وعيًا أوسع وتغطيةً صحفيةً أكبر لإحداث التغييرات الضرورية اللازمة لدعم الأبحاث السريرية والرعاية الصحية في أفريقيا، ولا يأتي ذلك دون تعزيز بيئة بحثية مواتية، تجعل التجارب السريرية التي تقودها أفريقيا مساهمًا رئيسيًّا في تعزيز فهمنا لأمراض القلب والأوعية الدموية وإدارتها على نطاق عالمي.

بدوره، يرى محمود حسنين -أستاذ أمراض القلب بكلية الطب بجامعة الإسكندرية المصرية- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست" أن "تراجُع التمويل ليس سببًا وحيدًا لانخفاض التجارب السريرية في أفريقيا؛ إذ تُعد البيروقراطية أحد أكبر المعوقات، فالمشاركة في تجربة عالمية بمصر مثلًا تحتاج إلى موافقات كثيرة من جهات عدة، ما يستغرق شهورًا، بالإضافة إلى انخفاض أعداد المراكز الطبية المتميزة بالقارة، يتطلب ذلك زيادة ميزانيات البحث العلمي، وتأهيل المراكز الطبية، وتحويل نظام بيانات المريض من الورقي إلى الإلكتروني، لتسهيل استخراج البيانات، وإجراء الإحصائيات وسرعة الحصول على النتائج.

توصيات

وخرجت الورقة البحثية بمجموعة من الحلول لزيادة عدد الدراسات السريرية في القارة، أبرزها زيادة التمويل القادم من الحكومات؛ إذ أوصى الاتحاد الأفريقي الدول بإنفاق ما يزيد على 1% من ميزانيتها على البحث العلمي، وهناك دول قليلة للغاية -أبرزها جنوب أفريقيا- وصلت إلى هذا الهدف، بالإضافة إلى زيادة التمويل القادم من المؤسسات، بهدف رفع الكفاءة المادية للبحث العلمي بالقارة.

وأكد "بنداري" ضرورة زيادة الاستثمار في تدريب الباحثين في أمراض القلب والأوعية الدموية، بما يتجاوز أطباء القلب، لتقوية القوى العاملة البحثية في أفريقيا، وتخصيص مزيد من الموارد للبحث والتطوير في البلدان الأفريقية، بما يتسق مع العبء المحلي للمرض والتوصيات الدولية.

وأوضح أن هناك تأثيرًا محتملًا لمبادرات مثل "سجل التجارب السريرية لعموم أفريقيا"، التي تستهدف تحسين البنية التحتية البحثية والتعاون، بالإضافة إلى ضرورة التدخلات متعددة الأوجه لمعالجة العوائق التي تحول دون إجراء البحوث السريرية في القارة، بما في ذلك الأطر التنظيمية، واعتماد السجلات الطبية الإلكترونية، والنشر المفتوح، والشراكات المؤسسية،  وتكثيف التعاون بين البلدان الأفريقية والغربية، من حيث نقل الخبرات وتصميم الدراسات وتمويلها، ورفع التعاون مع دور النشر الشهيرة في مجال طب القلب، لانتشار العلم وزيادة التطبيقات، وهذه العوامل يمكن أن تزيد من أعداد الأبحاث السريرية التي تخرج من أفريقيا وجودتها.

وأكد "أبو شوك" ضرورة زيادة عدد الأطباء الذين يُجرون الدراسات السريرية في البلدان الأفريقية، مضيفًا أن "أفريقيا فيها 2000 طبيب قلب فقط، أما الولايات المتحدة الأمريكية، التي يقدر سكانها بـ25% من سكان أفريقيا، ففيها أكثر من 25 ألف طبيب قلب".

مظلة أفريقية

ويرى "طه" أن زيادة أعداد التجارب السريرية في القارة تتطلب -بجانب توفير التمويل- تعاون البلدان الأفريقية لإنشاء مركز أبحاث القلب على مستوى أفريقيا، بالإضافة إلى إنشاء جمعية أفريقية لأمراض القلب، وهذه الجمعية لا يعوضها وجود جمعيات عريقة لأمراض القلب في عدد من بلدان القارة، وعلى رأسها الجمعية المصرية لأمراض القلب.

واقترح أن تكون الجمعية والمركز جزءًا من المبادرة المركزية الأفريقية المعروفة باسم (Afrocentrism)، وهي نموذج فكري يسعى إلى تسليط الضوء على الهوية والمساهمات الخاصة للثقافات الأفريقية في تاريخ العالم، وأن يكون هناك مركز متخصص لأبحاث القلب في قارة أفريقيا يعمل على توجيه هذا التمويل، وفق تقييم احتياجات أمراض القلب ووضعها على الأرض في جميع بلدان قارة أفريقيا، وإدارة تمويلات التجارب السريرية التي يمكن أن تأتي من منظمة الصحة العالمية وشركات الأدوية، والإشراف على إجراء التجارب، ونشر نتائجها في كُبريات المجلات العالمية.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.134