أيهما أكثر ابتكارية: الأفكار وليدة الذكاء الاصطناعي أم وليدة البشر؟
01 December 2024
نشرت بتاريخ 9 أبريل 2018
تكشف أحفورة عظم أصبع عن الهجرة البشرية المعقدة خروجًا من أفريقيا في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية مروجًا عشبية رطبة.
في صحراء النفود، عُثِر على أول اكتشاف أحفوري للإنسان العاقل (Homo sapiens) في المملكة العربية السعودية، وأقدم أحفورة مؤرخة للإنسان الحديث خارج أفريقيا وبلاد الشام. إنها تثبت أن جنسنا قد انتشر إلى ما وراء أفريقيا في وقت أبكر مما كان يُظَن سابقًا.
أمضى مشروع الصحارى القديمة متعدد الجنسيات عدة سنوات في تمشيط صحراء الجزيرة العربية بحثًا عن أدلة على وجود البشر القدماء والظروف البيئية القديمة. وقد آتت جهوده أُكُلَها عندما قام الفريق بالتنقيب في موقع الوسطى واستخرج عظم أصبع للإنسان العاقل، يقدّر عمره بـ85 ألف سنة على الأقل. وقد أُشيرَ إلى هذا الكشف في دراسة نُشرت اليوم في Nature Ecology & Evolution1 .
قائد الفريق مايكل بتراجليا من معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري يصف هذا الاكتشاف بأنه "حلم تحقق" ويقول إنه "يشبه العثور على إبرة في كومة قش".
"تقليديًّا، كان المعتقد أن حركة البشر المعاصرين للخروج من أفريقيا، كانت حركة واحدة سريعة حدثت منذ 60,000 سنة"، وفق قول بتراجليا.
ووفقًا لهذه النظرية، فإن المجموعات المهاجرة كانت ستتحرك على امتداد الخطوط الساحلية، متّبعةً ممر بلاد الشام على طول الحدود الشرقية لحوض البحر الأبيض المتوسط، ومعتاشةً من الموارد البحرية، ومستخدمةً أدوات حجرية في أثناء تحرُّكها عبر أوراسيا.
"الآن، عمر ما عثرنا عليه [لا يقل عن] 85,000 سنة، ويشير إلى أن مجموعات الإنسان العاقل دأبت على مغادرة أفريقيا منذ ما يقرب من 20 إلى 25,000 سنة قبل ما كنا نعتقد"، استنادًا إلى قوله.
يدعم هذا الاكتشاف جدلًا طرحه بتراجليا وفريقه منذ أكثر من عقد، ويفيد بوجود موجات هجرة متعددة خارج أفريقيا، وأن هذه الهجرات تمتد على مدى فترة أطول مما كان يُعرف سابقًا. وهي تشير إلى أن الهجرات المغادرة لأفريقيا حدثت على موجات متتالية وامتدت مدةً طويلة، وربما عبر طريق مختلف يخترق قلب المملكة العربية السعودية؛ القلب الأرضي لكتلة أوراسيا.
أصبحت صحراء النفود في شمالي المملكة العربية السعودية الآن عبارة عن بحر من الرمال القاحلة، لكن الحال لم يكن كذلك دومًا. تكشف صور الأقمار الصناعية عن شبكة من آلاف الجداول والبحيرات القديمة التي تعاقبت على الجزيرة العربية.
قام بتراجليا وفريقه بمسح العديد من قيعان هذه البحيرات، وكان أحدها يمثل موقع الوسطى. "بمجرد أن وصلنا إلى هناك بدأنا في العثور على أدوات حجرية وأحفوريات. وكانت هذه هي البداية"، كما يتذكر.
يقول هيو جراوكت، عالِم الآثار في جامعة أكسفورد والمؤلف الرئيسي للدراسة، إن الفريق اكتشف على الفور "نتوءات من رواسب بيضاء ناصعة، هي عبارة عن رواسب بحيرة قديمة" رسمت لوحةً واضحةً للمناخ الذي كان سائدًا في ذلك الوقت.
كذلك ، كانت هناك مئات من الأحفوريات الحيوانية لأنواع مثل فرس النهر، وحلزونات المياه العذبة الصغيرة، وأدوات صنعها البشر في الموقع. إن أفراس النهر بشكل خاص تعيش في أوساط موحلة، أو على ضفاف الأنهار والبحيرات.
يقول جراوكت: "عندما كان البشر يعيشون هناك قبل 90 ألف سنة ، لم تكن صحراء". أدت الأمطار الموسمية التي هطلت على امتداد الجزء الداخلي من الجزيرة العربية إلى تحويل شبه الجزيرة إلى منطقة رعويّة رطبة تغطيها البحيرات، وتعبرها الأنهار وتملؤها أعداد كبيرة من الحيوانات.
يشرح جراوكت أن البشر المهاجرين "انتقلوا إلى الجزيرة العربية في زمن الطقس الجيد"، وقد ساعدهم تساقُط الأمطار الصيفية. عاشت مجموعات من الصيادين والجامعين حول بحيرة صغيرة -ولكنها دائمة- من المياه العذبة.
في أثناء مسح الموقع، عثر إياد زلموط، عالِم الإحاثة في هيئة المسح الجيولوجي السعودية (شريك في التنقيب عن الأحفوريات)، أحفورة إصبع طولها 3.2 سم ، وسرعان ما اشتبه في كونها بشرية، وفق رواية بتراجليا.
أُرسلت الأحفورة حول العالم إلى مختبرات مختلفة لفحصها بالأشعة المقطعية لتشكيل نموذج ثلاثي الأبعاد.
"قارن أفضل خبراء العالم في عظام الأصابع البشرية الشكل الدقيق للأحفورة بعظام من أشكال أخرى من البشر، مثل إنسان نياندرتال، بالإضافة إلى الأوالي. تُظهر هذه الدراسات بوضوح أن هذا العظم يعود إلى إنسان، يتنتمي إلى جنس الإنسان العاقل مثلنا،" وفقًا لقول جراوكت.
وحُدِّد عمر الأحفورة نفسها مباشرةً بتقنية التأريخ بتسلسل اليورانيوم -التأريخ المباشر طريقة أكثر موثوقيةً من التأريخ استنادًا إلى مواد من الموقع الأثري المحيط، لكنه غير ممكن دومًا.
على أي حال، عمد الفريق أيضًا إلى تأريخ الرواسب الموجودة حول الموقع، وجربوا تأريخ فرس النهر باستخدام تقنيات رنين الدوران الكهربائي وتقنيات التألق المحفزة بصريًّا.
باختبار ثلاث عينات، باستخدام تقنيات مختلفة، والوصول إلى التاريخ نفسه تقريبًا، أصبح بتراجليا "واثقًا جدًّا بعمر الموقع".
وقد تبيّن أن الأصبع الأحفورية هي أقدم بقايا أسلافنا الأوائل الذين وُجدوا خارج بلاد الشام وأفريقيا، وأصبحت نقطةً مرجعيةً جديدة للهجرات البشرية المبكرة عبر الجزيرة العربية.
"حاليًّا يعتقد العديد من الباحثين أنه كانت هناك هجرة صغيرة جدًّا إلى بلاد الشام منذ حوالي 100,000 سنة، ولكنها كانت حركة محلية فقط إلى بوابة أفريقيا، وأن هؤلاء الناس قد ماتوا"، وفق توضيح جراوكت.
ثم، تقترح النظرية أنه كانت هناك هجرة فريدة آجلة منذ حوالي 60,000 سنة.
تشير أحدث الأحافير البشرية من بلاد الشام إلى امتداد تاريخ الهجرات البشرية خارج أفريقيا إلى ما لا يقلّ عن 177,000 سنة تقريبًا2. وتشير النتائج أيضًا إلى وجود الإنسان الحديث قبل نحو 120,000 سنة في شرق آسيا3، لاغيةً القسم الأول من النظرية، ودافعةً تاريخ الهجرة البشرية خارج أفريقيا إلى الوراء.
حتى وقت قريب، وُجِّه اهتمام إحاثي محدود بآثار البشر الأوائل خارج أوروبا. وقد عنى هذا الحصول على أدلة أحفورية قليلة عن البشر الأوائل في الأراضي الواقعة بين بلاد الشام وشرق أوراسيا، وفق تفسير بتراجليا.
ولكن أحفورية موقع الوسطى، توفّر ربطًا أساسيًّا بين بلاد الشام وشرق آسيا، مُظهرةً اتساع رقعة المنطقة الجغرافية التي استهدفتها الهجرة القديمة و"تضيف إلى عدد متزايد من الدراسات التي تبيِّن أن الإنسان الحديث كان موجودًا في آسيا منذ قبل 60,000 سنة"، وفق قول كريستوفر باي، عالِم الإحاثة في جامعة هاواي في مانوا، الذي لم يكن مشاركًا في هذه الدراسة.
يؤكد كلٌّ من بتراجليا وجراوكت أن الهجرة البشرية إلى خارج أفريقيا كانت مستمرة، متَّسعة، وحدثت في موجات متعددة بالتوافق مع الفترات الرطبة في مناخ الجزيرة العربية. "إنها ليست مجرد توسُّع تليه هجرة جديدة إلى خارج أفريقيا. ما نعرضه هو أن القصة أكثر تعقيدًا بكثير"، استنادًا إلى بتراجليا.
في السابق، كان يُعتقد أن شبه الجزيرة العربية بعيدة عن الموقع الأساسي للتطور البشري. "هذا الاكتشاف يضع الجزيرة العربية بقوة على الخارطة باعتبارها منطقة أساسية لفهم أصولنا وانتشارنا نحو بقية أرجاء العالم"، كما يقول.
doi:10.1038/nmiddleeast.2018.46
تواصل معنا: