مقالات

لقاء وقتك الثمين كخبير أكاديمي: كيف تضمن تقاضي أتعابك؟

نشرت بتاريخ 26 يونيو 2025

تعتمد الأوساط الأكاديمية على العمالة غير المأجورة، لكن بحسب ما يفيد دريتجون جرودا، على الباحثين التفكير بعناية في ماهية العمل الذي قد يتطوعون للقيام به لصالح المنظمات الربحية.

دريتجون جرودا

حقوق الصورة: MirageC/Getty

قبل عدة سنوات، اتصلت بي زميلة من أيام دراستي الجامعية. كانت تقود فريقًا ضخمًا في وكالة تسويق واتصالات ودعتني لإجراء محادثة معها.  آنذاك، نظّم الرئيس التنفيذي للوكالة، والذي تعرفت عليه من خلال زميلتي، فعالية. وأراد مني تقديم ندوة مستلهمة من أحد إصداراتي حول الكيفية التي قد تنتقل بها مشاعر القلق والتوتر إلى أعضاء فريق العمل من قادته. بدت نبرتها صادقة وتخللها حماس، وارتأيت أن العلاقة بيننا قائمة على معرفة شخصية. من هنا، وافقت على المساعدة في عقد الندوة.

التقينا لثلاث مرات. وعدّلت من المحتوى الذي سأعرضه ليلائم جمهور الندوة. ووضعت الخطوط العريضة للندوة. ورغم أنني أتيت على ذكر أتعابي خلال أول محادثتين لي مع زميلتي، انتظرت إلى اللقاء الأخير لإرسال أتعابي تفصيلًا وكتابةً. عرضت سعرًا رمزيًا، أقل كثيرًا من السعر السوقي لخدماتي، يكاد يكون هدية على شرف علاقتنا الشخصية.

إلا أنني لم أتلق ردًا.

فقررت أن أتبع ذلك بطلب بالتعقيب.

لكنني من جديد لم ألق جوابًا.

ولا عدم استحسان. أو تفاوضًا. أو حتى رفضًا مهذبًا. لم أجد إلا صمتًا مطبقًا.

كان هذا الصمت هو أبلغ رد قد أحصل عليه، ومفاده: أن الوكالة تقدر وقتي فقط إن كنت سأهبه لها مجانًا.

الصالح العام

تجارب كهذه شائعة الحدوث في الأوساط الأكاديمية. فبصفة دورية، تتواصل الشركات ومؤسسات القطاع العام مع الأكاديميين على اختلاف تخصصاتهم طلبًا لخبراتهم أو آرائهم الحصيفة، أو إسهاماتهم. ويصاغ عرض كهذا على أنه "فرصة". فأحيانًا ما تلوِّح المؤسسات للأكاديميين بوعود بـ"الشهرة"، أو بوعود واهية بتعاوُن بحثي مستقبلي، أو بعروض بتقديم خدمات بأسعار مخفضة أو مجانًا. لكن المقابل المادي لا يُطرح تقريبًا أبدًا ضمن المعروض.

وصراحةً، هذا "عمل بالسخرة". وفي كثير من الأحيان، يُصاغ عرض العمل على هذا النحو بصورة متعمدة. ومما لا شك فيه أن الباحثين كثيرًا ما يسهمون بأعمال تطوعية لخدمة المجتمع الأكاديمي؛ فالبيئة البحثية تعتمد على إسهام الجميع، بداية من لجان مراجعة الأوراق البحثية، إلى عملية مراجعة الأقران (وهو ما قد يثير قضايا ذات صلة بتلك التي أسلط عليها الضوء هنا، وإن اختلفت بعض الشيء). وكثير منا يعتنق هذه الفكرة الوردية القائلة بأن علينا الإسهام بمعارفنا مجانًا كجزء من هدف أسمى. وأن العمل في حد ذاته مُجز.

من ثم، نُحمل أنفسنا فوق طاقتها. فننشر الأبحاث، ونعمل بالتدريس، ومراجعة الأوراق البحثية، وتقديم المشورة البحثية، وننخرط في أنشطة وفي تقديم خدمات، وكل هذا في الوقت الذي نلهث فيه وراء أموال المنح لندافع عن حقنا في الوجود.  والضغوط "ستكون" أشد وطأة في حال الباحثين ممن في مقتبل حياتهم المهنية. إذ يبدو لهم أن رفض أي ما يُطلب منهم، بمنزلة انتحار مهني. والأدهى، أن عديدًا من الباحثين يرون أن طلب مقابل مادي قد يظهرهم بمظهر المتعنت أو المتطلب.

لكن في كل مرة نقبل بها بأداء مهمة خارج إطار العمل التقليدي دون مقابل مادي، نعزز منظومة بالية. فنعلِّم المؤسسات ألا تتجشم الإنفاق نظير الرؤى المستنيرة التي يقدمها الأكاديميون. وندني معايير احترامنا المهني المتعارف عليها. ونسهم، سواء بعلم أو دون علم، في انتهاك حقوقنا. ناهيك عن تكلفة الفرصة البديلة التي نتكبدها بسبب الوقت الذي نتبرع به (أي خسارة الفرصة للقيام بشيء مختلف بذلك الوقت).

والعمل التطوعي ليس كله سيء. فثمة قضايا جديرة بمساندتها وأناس جديرون بمساعدتهم. غير أن على الباحثين توخي الانتقائية ودعم القضايا التي تتسق مع مبادئهم. فالعمل دون مقابل ينبغي أن يكون الاستثناء لا القاعدة.

وإليك بعض الخطوات التي يمكنك اتخاذها لتغيير هذه السردية، والتي ساعدتني في الحفاظ على وقتي وقيمتي كمحترف.

حدد أتعابك بوضوح

وضع قائمة واضحة بالخدمات التي تقدمها وأتعابك مقابلها يرغمك وأي شريك محتمل على التعامُل بمهنية مع مهمتك، حتى وإن كانت هذه القائمة وثيقة قصيرة توضح ما تتقاضاه نظير أي محاضرة أو ورشة عمل أو جلسة استشارات. عدِّل أسعارك حسب الحاجة لدى التعامُل مع المنظمات غير الربحية أو في المشروعات التي تُعنى بالصالح العام. لكن لا تجعل القاعدة هي أن عملك "بالمجان".

عند تحديد أسعارك، تحقق مما تتقاضاه جامعتك في المنح الخارجية لقاء الوقت الذي تنفقه، وهو سعر يتراوح عادة ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف أجرك في الساعة. واستشر زملاءك ممن في مناصب مماثلة، أو حاول معرفة ما يتقاضاه الاستشاريون في مجالك من أصحاب الخبرة المماثلة لك. أنشأت وثيقة أسعار بسيطة من ثلاث مستويات لأنشطتي، يمكنني بسهولة مشاركتها عند مفاتحتي بعرض عمل، تتألف من: المستوى الأساسي (نظير العمل كمحاضر أو محاضر زائر)، والمستوى المتوسط (نظير ورشة عمل لنصف يوم)، والمستوى الشامل (نظير الانخراط في أنشطة تفاعلية لعدة أيام أو العمل كاستشاري في علاقة مستمرة).

حدد أتعابك مبكرًا

قم بمفاتحة أصحاب عرض العمل بأتعابك قبل أن تتورط كثيرًا به، بحيث يمكنك الانسحاب منه بسهولة إن شئت. ويُمكن لسؤال بتهذيب وحزم في وقت مبكر من المناقشات، مثل "ما الميزانية التي حددتموها لذلك؟" أن يُجنبك تجاهُل الرد عليك لاحقًا. فإن تملص أصحاب عرض العمل من الرد عليك، فهذا يخدم كجرس إنذار. اتبع الاتفاقات الشفهية برسالة بريدية إلكترونية موجزة توضح طبيعة العمل المطلوب منك وأتعابك المتفق عليها، واطلب مصادقة مكتوبة على هذا الاتفاق قبل المضي فيه. بهذه الخطوة البسيطة، أكون تقريبًا قد تخلصت من المشكلة الممثلة في احتمالية انقطاع الاتصال بي بعد أداء المهمة.

 

اطلب دعمًا من مؤسستك

رغم أن عديدًا من المؤسسات تشجع على الانخراط في الأنشطة المجتمعية، فهي تختلف فيما بينها في شكل الدعم الذي تقدمه في هذه الحالة. بعض المؤسسات تملك مكاتب تبادُل معارف أو أقسامًا مماثلة، يمكنها تسهيل هذه الترتيبات، وتولي زمام المفاوضات المالية الصعبة بالنيابة عنك. وإن رفضت مؤسسة ما أن تسدد لك أتعابك بعد إنجازك للمهمة المتفق عليها، فمطالبة قسم الشؤون القانونية في مؤسستك بمراسلتها قد تكون أداة شديدة الفاعلية.

وأفضل من تعاملت معهم من الشركاء المؤسسيين يجعلون مناقشة الأتعاب جزءًا من المفاوضات المبدئية. ويسألونك عن الأجر الذي تتقاضاه. ولا يجفلون عن المضي في الاتفاق عندما تذكر أتعابك. فهم ينظرون بعين الاحترام إلى الخبرة، ويراعون أن تقديمها لا يقتصر على مشاركة المعارف، بل يتطلب أيضًا بذل الوقت والجهد، ويكلِّف فرصًا. وهكذا يكون الاحترام المُتبادل.

فمكافأة المرء نظير أتعابه تدل على المهنية، وتحافظ على رفعة معايير الحقل الأكاديمي بأسره. وعلينا أن نحطم الفكرة الزائفة القائلة بأن جميع الأكاديميين يتبرعون بوقتهم مجانًا. فالغالبية لا تفعل ذلك، وإن صح أنها تفعل ذلك، فهذا يأتي على حسابها الشخصي.

لذا، في المرة القادمة التي يتواصل فيها معك شخص يجري على لسانه معسول الكلام وقد غمره الحماس، وكله لهفة للانتفاع بخبراتك، أو بأبحاثك أو لتسليط الضوء عليك في فعالية يستضيفها، لا تجاريه.

سل السؤال الذي سيضع النقاط على الحروف، ألا وهو: ما المقابل؟

doi: https://doi.org/10.1038/d41586-025-01516-y

هذا المقال مأخوذٌ من مجتمع Nature Careers، وهو مساحة مخصَّصة لقراء Nature بهدف مشاركة آرائهم وتجاربهم المهنية. نشجع أيضًا مشاركة ضيوفنا لتجاربهم.

هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 2 يونيو عام 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.95