أخبار

أسباب دعتني إلى نشر كتاب طبي للأطفال

نشرت بتاريخ 17 يونيو 2025

 

وُلد شغف سولين رعد بدراسة الأحياء، عندما عجز طبيب عن تفسير حالة طبية لها في صغرها. واليوم، نشرت هذه الباحثة المتخصصة في الخلايا الجذعية كتابًا موجَّهًا للأطفال المصابين بمرض خلقي نادر.

سولين رعد، مؤلفة ومديرة العمليات بشركة «تليسكوب ثيرابيوتكس» Telescope Therapeutics.

Credit: Illustration by Mariam Al Kotob

منذ أن وعيت على العالم، وأنا أجد الجسد البشري مبهرًا. في الثامنة من عمري، أُصبت بمرض شلل بِل، وهو شلل مؤقت يسبب ضعف عضلات الوجه. قد ينشأ هذا المرض عن طريق الإصابة بعدوى فيروسية، إلا أنه حتى الآن لا نعرف بدقة أسبابه. أتذكر جيدًا محاولة الطبيب تفسير حالتي الطبية لأمي، وفور أن غادرنا مكتبه، سألت أمي عما قصده بقوله إن سبب المرض غير معروف، فقالت: "ما زلنا نجهل بعض الأمور عن أجسامنا".

كانت تلك اللحظة فارقة في حياتي، إذ أدركت أن العلم يعجز إلى تلك اللحظة عن فك بعض الألغاز؛ ما أثار فضولي. ولم يلبث علم الأحياء أن أصبح مادتي الدراسية المفضلة. في المرحلة الثانوية، صادفت مقالًا عن الخلايا الجذعية. وفكرة إعادة برمجة الخلايا البالغة (من الجلد أو الدم) لتعود إلى صيرتها الأولى كخلية جذعية، قادرة على التمايُز للتحوُل إلى أي نوع آخر من الخلايا، دفعتني إلى السعي وراء بناء مسيرة مهنية في مجال أبحاث علم الأحياء.

انضممت إلى فريق مختبر لدراسة الخلايا الجذعية، حيث عكفنا على دراسة عدد من الآليات التي يُحتمل أنها تقف وراء مرض خلقي نادر يسمى رَتَقُ المَريء والناسور الرُغامِي المَريئِيّ (ويشار إليه بالاختصار EA/TEF). يصيب هذا المرض سنويًا واحدًا من كل 2500 طفل حديث الولادة حول العالم، ويبقى السبب وراءه غير معروف بدقة.

يُولد الأطفال المصابون بهذا المرض بمريء غير متصل جيدًا بالمعدة. وخلافًا للطبيعي، يتصل المريء لديهم بالقصبة الهوائية. ويعاني حديثو الولادة المصابون به من الاختناق، والسعال، وضيق التنفس، واليرقان الأزرق (تلوُن الجلد بلون أزرق بسبب نقص الأكسجين).

يمكن علاج الأنماط الشائعة من هذا المرض جراحيًا في الأيام الأولى من حياة الطفل. ومع أن الأطفال المصابين به قد يحتاجون بصفة متكررة بعد الجراحة إلى توسعة للمريء، أو يواجهون إصابة متكررة بالالتهاب الرئوي، فهم يعيشون بوجه عام حياة طبيعية.

وقد ركزت أبحاثي لنيل درجة الدكتوراه على فهم أسباب هذا التشوُه الخلقي النادر. وحتى أظل على اتصال بالواقع في أبحاثي، نصحني المشرف على دراساتي لنيل درجة الدكتوراه بالمواظبة على زيارة عيادة لعلاج هذا المرض. وهناك، أُتيحت لي فرصة لقاء الأطفال المصابين وذويهم، ما سمح لي بتأسيس علاقة بناءة معهم وساعدني على الوصول إلى فهم أعمق للأسباب التي تكسب أبحاثي أهميتها. وبعد عدة زيارات للعيادة وعدة محادثات مع الأطفال فيها، أدركت أن معرفة الكثير من الأسر التي التقيتها بالمرض محدودة. ولرفع الوعي بهذا المرض، انضممت على منصة فيسبوك لمجتمع للمصابين بهذا المرض، وأخذت على مدار شهر يناير (وهو شهر التوعية بهذا المرض) في نشر معلومات يوميًا عنه. ومع تزايُد التفاعُل مع منشوراتي، سنح لي الوصول إلى فهم أعمق للتحديات التي تواجه هذا المجتمع، وقررت تأليف كتاب للأطفال عن مرض رَتَقُ المَريء والناسور الرُغامِي المَريئِيّ. بدت تلك الفكرة امتدادًا طبيعيًا لأبحاثي، لكنني كنت في حيرة إزاء النقطة التي علي أن أبدأ منها.

لذا، في مسودة، كتبت أفكاري المبعثرة حول المرض. ومن هنا، أدركت أن الطريقة المثلى لمباشرة تأليف الكتاب هي بفتح حوار مباشر مع الأسر المتضررة من المرض. وقد رحب بعض آباء الأطفال المصابين بالفكرة. على سبيل المثال، أذكر أنني في زيارة لإحدى المراهقات المصابات بالمرض، تحدثنا سويًا عندما جلسنا معًا عن معاناتها، وعما قد ترغب في إضافته للكتاب.

كما انخرطت في تعاوُن وثيق مع فريق من الخبراء الطبيين المساهمين في رعاية المصابين بهذا المرض في مستشفى سانت جاستين في ولاية مونتريال الكندية، حيث جمعتني عدة لقاءات مع ممرضة أطفال متخصصة في علاج المرض، ومع اختصاصي تغذية، واختصاصي أمراض جهاز هضمي، واختصاصي أمراض تنفسية، وكثيرين غيرهم. كنتيجة، في الوقت الذي كنت فيه واثقةً من الجوانب العلمية، أدت إسهاماتهم إلى تغطية الجانب الإكلينيكي من المرض. ومشاركتهم لم تكسب الكتاب طابعًا مشوقًا فحسب، بل ضمنت أيضًا موثوقيته ودقته وتعبيره عن تجارب إكلينيكية واقعية.

كذلك ساعدني محرر كتب أطفال على تنقيح لغة الكتاب حرصًا على بساطته وسهولة فهمه للأطفال. أردت في الوقت نفسه إثراء الكتاب بعدد من المصطلحات الطبية. من هنا، استخدمت مثلًا لفظة "المريء" بدلًا من تسمية هذا العضو بـ"أنبوب تغذية"، وعوضًا عن المغالاة في تبسيط بعض المفاهيم، حرصت على استخدام مصطلحات طبية مثل "القصبة الهوائية"، و"تضيُق المسالك الأنبوبية".

كذلك تعاونت مع المحرر لتحقيق التوازن بين البساطة وإثراء الحصيلة اللغوية من المصطلحات الطبية. ارتكز هذا المشروع على تمكين الأطفال المصابين بالمرض، بحيث يتسنى لهم فهم حالتهم المرضية أثناء مناقشتها مع الطبيب. وخلال تلك التجربة. ظللت تلك اللحظة التي جلست فيها في مكتب الطبيب في طفولتي، عاجزة عن فهم ما يقال، حاضرة في ذهني. لذا، سعيت إلى توعية الأطفال بالمرض، وإشراكهم، وتمكينهم حتى يصبحوا أكثر اطمئنانًا أثناء رحلة علاجهم.

أما الخطوة التالية، فكانت البحث عن مصمم رسوم توضيحية، ليجعل الكتاب ينبض بالحياة. من هنا، تعاونت مع مصممة لضمان أدق تعبير عن الشخصيات والبِنى التشريحية والوظائف العضوية التي يصورها الكتاب.

بعدئذ، بدأت البحث عن جهة مموِّلة لنشر الكتاب. فشاركت الفكرة مع مجتمع المصابين بالمرض، وكانت ردة الفعل التي تلقيتها عارمة. أطلقت حملة على منصة «جو فاند مي» GoFundMe، ونجحت في جمع تمويلات كافية لإتمام تأليف الكتاب.

وبعد العمل مع مصمم جرافيك لتضمين الرسوم التوضيحية والنصوص، صار كتابي أخيرًا جاهزًا. فتواصلت مع عدد من دور النشر، وبعثت لها برسائل بريدية إلكترونية وحاولت الاستعانة بدوائر معارفي، لكن لأن الكتاب استهدف شريحة معينة من القراء، لم يجذب المشروع إلا اهتمامًا ضعيفًا. عندها أيقنت بأن علي أن أسلك نهجًا مختلف.

فاقترح علي صديق استخدام منصة نشر ذاتي على الإنترنت. وهو نهج ثبتت بساطته وسهولته، حتى إنه لم يتحتم علي الترويج كثيرًا للكتاب. كان مجتمع المرضى متلهفًا للوصول إلى الكتاب. وسرعان ما انهالت علي طلبات شراء الكتاب من شتى أنحاء العالم.

وبدأ عدد من الآباء يراسلونني بصور أطفالهم وهم يقرؤون الكتاب لأصدقائهم في المدرسة، ويقدمونه في فقرات مدرسية، أو يقرؤونه قبل النوم، أو يستخدمونه لشرح طبيعة المرض لأفراد من أسرهم. هؤلاء الأطفال شعروا أخيرًا بالاهتمام بقضيتهم وبأنهم يمتلكون صوتًا فيها، وبأن هناك من يفهمهم، وباتوا يفهمون مرضهم أكثر من أي وقت مضى. 

عندما أفكر في الأمر، أجد أن هذا الكتاب تجاوز كونه مشروعًا. لقد كان بالنسبة لي رسالة لمساعدة هؤلاء المرضى وتحسين حيواتهم بالتوعية بصورة أفضل بمرضهم. أحلم بأن يُصبح هذا الكتاب في متناول كل من الأطفال المصابين وأسرهم، بالإنجليزية والعربية والعديد من اللغات الأخرى حول العالم.

 

هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور في مجلة نيتشر الشرق الأوسط بتاريخ 8  مايو 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.87