أخبار

وقت الباحثين ثمين.. وهذه حلول مبتكرة للحفاظ عليه

نشرت بتاريخ 8 يونيو 2025

باحث متخصص في علم المناعة يقدم بعض النصائح والحيَل التي ستساعد الباحثين على بلوغ قمة الأداء والابتكار.

جون تريجونينج، وريتشارد تيلوتسون

تصميم: Richard L. Tillotson

العلم والفن يجمع بينهما تاريخ طويل ومركَّب. مما يُؤثَر عن تشارلز داروين أنه خلال رحلته البحثية على متن السفينة إتش «إم إس بيجل» HMS Beagle، والتي استمرت خمس سنوات، كان يرسم العصافير بنفسه. وكذلك كانت ماريان نورث، وهي من معاصريه، رسَّامة عظيمة، وعالِمة نبات لا يُشق لها غبار، ولها معرض خاص بها في الحدائق النباتية الملكية في كيو بالعاصمة الإنجليزية، لندن. المحاولات الفنية للعالِمَين، وغيرهما من العلماء، تبرهن على أن العلاقة بين العلم والفن أعمق من أن تكون مجرد تصوير للعالم من حولنا: كلّا، فكلا المجالين يتغيَّا الوصول إلى الحقيقة.

المنظومة التعليمية عادةً ما تغرس فينا الاعتقاد بأن من يرتاد أحد هذين الطريقين ليس في حاجةٍ إلى ارتياد الطريق الآخر. ولكننا أصبحنا ندرك، وبوضوح أكبر يومًا بعد يوم، أن ذات الأدوات (الابتكار، والتفكير النقدي، ومهارات حل المشكلات، وتحدِّي الوضع القائم) لا غنى عنها لكلا المجالين.

التقيتُ بصديقي الفنان الذي يشترك معي في هذا المقال بالرسوم الكاريكاتورية قبل نحو 15 عامًا. كان ذلك في حفل زفاف صديق مشترك. جلسنا نأكل لحم الخنزير المشوي تحت ظل جبل «سكافيل بايك» في منطقة البحيرات المسمَّاة «ليك ديستريكت» في بريطانيا، ونحن نتابع أطفالنا الصغار يلعبون غير بعيد. يجمع بيننا حب لُعبة «الكريكت» والاستماع إلى برنامج إذاعي على «بي بي سي» BBC يركز على هذه اللعبة، اسمه «تيست ماتش سبيشيال» Test Match Special، والخوض في الأحاديث الطريفة. وبينما يتحدث كلٌّ منا عن عمله (ريتشارد تيلوتسون رسام كاريكاتير، وجون تريجونينج باحث في علم المناعة)، إذ بنا نكتشف أن بيننا ممارسات مشتركة تعيننا على استجماع الأفكار. وللتعمق في بحث هذه الفكرة، عقدنا لقاءات مع عدد ممن يعملون في مجالات تتطلب الابتكار، طلبًا للنصيحة في كيفية عبور الحاجز الفاصل بين الفن والعلم.

وفي هذا المقال، جمعنا النصائح التي تلقَّيناها من أناس يشتغلون بالموسيقى، والأدب، والسينما، والكوميديا، بعد تنقيحها وتصفيتها، سعيًا إلى مساعدة الباحثين على الوصول بأعمالهم الإبداعية إلى أعلى مستوًى ممكن.

الاستعداد الذهني بطريقتك الخاصة

أول ما اتفقنا عليه هو أن لكلّ شخص طريقته في الاستعداد الذهني. قدح زناد الابتكار يستلزم وضع الدماغ في حالة خاصة، يُشار إليها أحيانًا بشبكة الوضع الافتراضي1. إنها حالة أحلام اليقظة؛ تلك الحالة التي تنفصل فيها عن الواقع، وتطلق لأفكارك العنان، حتى يتسنى للدماغ أن يربط بين الأشياء بطريقة غير متوقعة.

الإنجازات المبتكرة تتأتَّى عندما يحدث ربط بين مجموعات من الخلايا الدماغية لم ترتبط قبلًا، وأن يحدث هذا الربط بطرق جديدة ولافتة.

ليس في وسعك ما تستطيع فعله لإجبار هذا الربط على الحدوث؛ وهو ما قد يُورثك شيئًا من الإحباط إذا كنتَ مطالبًا بإنجاز عملٍ بعينه في وقتٍ محدد. يقول مؤلف الأغاني الشعبية البريطاني فرانك تيرنر: "العملية الإبداعية بالنسبة لي أقرب إلى صيد السمك: أنتقى بقعةً ما على النهر، وألقي بخيط الصنارة، ثم أجلس منتظرًا ما سيخرج لي. يأتي الصيد غزيرًا في يوم، ويأتي شحيحًا أو لا يأتي في يوم آخر".

إذا أخذنا أفكار تيرنر في تأليف الأغاني إلى كتابة الأوراق البحثية، فربما تظن أن محاولة اقتطاع 30 دقيقة من وقت الكتابة وتوجيهها إلى العمل في المختبر بتفاصيله المختلفة سوف تكون طريقة موفرة للوقت، لكننا نرى أن هذه الطريقة لا تصيب هدفها قط. ذلك أن الفصل الإدراكي بين الاهتمام بالتفاصيل، الذي يتطلبه العمل بالمختبر لكي لا تنسى إن كنتَ قد أضفتَ الكاشف المناسب إلى 96 مادة مختبرية موضوعة في أواني متطابقة، أم لا، وبين حالة التفكير الحر والمتحرر من القيود — هذا الفصل ضروري للوصول بالابتكار إلى ما يُعد ضربًا من المستحيل. لتوفير الوقت، تعلَّم تريجونينج كيف يملأ الفجوة بين العمل المخبري والمهام الإدارية الرتيبة التي تستغرق وقتًا ولا تستلزم إبداعًا.

المكان والزمان

ومما قد يساعدك على تحفيز الذهن وقدح زناده، اختيار المكان المناسب؛ فبعض الأماكن تلائم الإبداع والابتكار أكثر من غيرها. لكن لا تحسب أن مكانًا بعينه يمكن أن يلائم الجميع. كتب تريجونينج قسمًا معتبرًا من المسوَّدة الأولى لكتابه الجديد «حياة للأبد؟» Live Forever وهو يستقلُّ مترو لندن، ربما لغياب المشتِّتات التي تأتي من الإنترنت.

والتوقيت عاملٌ آخر لا يقل أهمية. ثمة فترات تكون إنتاجية المرء أعلى فيها من غيرها. وعندما تحاثنا عن قمة الإنتاجية، وجدنا أن ثمة أوقاتًا من اليوم تتدفق فيها الأفكار بسهولة أكبر. هذا يتوقف أيضًا على الساعة البيولوجية للجسم: فهناك حقًا من نستطيع أن نسميهم أشخاصًا صباحيين، وآخرين مسائيين. فالنمط الزمني (chronotype)، أو التفضيل لوقتٍ بعينه من أوقات اليوم، يتأثر بالطفرات التي تطرأ على الجينات المنظِّمة لوقت عمل الجسم2.

وإذا استبعدنا عاملًا مثل ضوء الشمس، وعوامل أخرى، سنجد أن ساعة الجسم تضبط اليوم جينيًّا بطولٍ يتراوح بين 24.1 ساعة في حالة الصباحيين، و24.3 في حالة المسائيين. وبالاستعانة بخدمة فحص جيني، تقدَّم بقابل مالي، اكتشف تريجونينج أن الوقت "الطبيعي" لاستيقاظه من النوم يكون عند الساعة السابعة و42 دقيقة صباحًا. وهذه التفضيلات الشخصية تنعكس في استبيان عن طبيعة الشخص: هل هو صباحي أم مسائي؟3 جاءت النتيجة بأن تريجونينج، على هذا المقياس، "متوسط"، أما تيلوتسون فـ"صباحيٌّ إلى حدٍّ ما".

وهكذا، فمن المفيد أن تقف على تفضيلاتك، ثم تبني العادات تبعًا لها. تقول هيلين فيدلز، مؤلفة سلسلة الروايات البوليسية «دي آي كلاناش» DI Callanach: "أحرص على أن يكون كوب الشاي أمامي، وأن أستمع إلى قائمة الأغاني نفسها مرارًا وتكرارًا. أعتقد أن هذا يبعث إلى الدماغ رسالة مفادها: هيا بنا! فلتتأهب، لأنك تعرف ما نحن بصدده الآن. وحينئذٍ أكون قادرة على استجماع تركيزي. الأمر أشبه بالعدَّاء الذي يتدرَّب بالخطوات المعتادة قبل أن يخوض السباق".

يحدث في بعض الأيام أنك تتأهب ذهنيًّا على أحسن ما يكون، وتُعد المكان كأحسن ما يكون الإعداد، وتقطع الطريق على جميع مصادر التشتيت، لكنك مع ذلك تخفق في مسعاك. ينتهي بك الحال وأنت جالس وأمامك بضع أوراق مكوَّرة، أو لوحات لم تُمَسّ، أو ملفات نصية فارغة. لكن لا تتعجل الحكم على تلك الأيام، وتقطع بأنها قد بُددت بالضرورة في لا شيء. فمما اتفقنا عليه — نحن كاتبَي هذه السطور — أنه عندما يتوقف قطار الأفكار، نجدها فرصة سانحة للابتعاد عن المكتب. فلتنعم بتمشية، ولو كانت إلى غرفة أخرى بالمنزل. فأحسنُ الأفكار تأتيك عندما تقوم من مكانك.

يقول بِن ويلبوند، الممثل وكاتب السيناريو لمسلسل الأطفال الكوميدي الذي يُعرض على «بي بي سي» تحت اسم «قصص تاريخية رهيبة» Horrible Histories: "الجري يتيح لي فرصة تمحيص الأفكار المبتكرة؛ إنه يمنحني الوقت للتفكير". ذلك أنه عندما يبتعد عن العمل، يستطيع أن يصفّي ذهنه، لتنفتح أمامه مغاليق المشكلة.

وكلانا يفعل الشيء نفسه: يتجوّل تيلوتسون عبر «تلال بينين»، القريبة من منزله في شمال إنجلترا، وهو يقلِّب في رأسه أفكارًا لرسوم كاريكاتورية؛ أما تريجونينج فيعدو في حديقة «هايد بارك» في لندن جريًا وراء السناجب وسعيًا وراء الفرضيات النظرية.

نسخة أوّلية

وكلانا يحرص على اقتناء دفتر كبير، يتخذ منه مساحةً ورقية للعمل. فيه يمكن للأفكار أن تتشابك، بعضها مع بعض. إذا نظرتَ في دفتر الرسم الخاص بتيلوتسون، لن تجده مليئًا بالأعمال الفنية الفخمة على غرار لوحات مايكل أنجلو، وإنما ستجد فوضى من الخطوط والألوان يصبُّ بها أفكاره على الورق، ومحاولات لحل كلمات متقاطعة، ورسومًا سريعة، وقوائم تسوُّق. هذا الطابع العشوائي هو ما يأتيك بالروابط غير العادية.

لستَ مطالبًا دومًا بالتسجيل والرسم، بطبيعة الحال، لكن حريٌّ بك أن تدوّن كل فكرة تخطر لك. يقول الفنان الكوميدي والمؤرخ العسكري آل موراي: "أعتقد في أهمية الاحتفاظ بكل ما أكتبه: الاحتفاظ به في مكان ما، حتى لو تحوَّل بمرور الوقت إلى ما يشبه كومةً عتيقة من الأفكار القديمة، فإن هذه الأفكار يمكن أن تتحول إلى ذهب فيما بعد. وكلما اقتربتَ من استيعاب أفكارك، أصبحتَ أقدر على استيعاب أفكارك القديمة".

فإذا انتقلنا إلى مضمار العلم، سنجد أن التغيرات التكنولوجية يمكن أن تصبَّ في صالحك، بما تتيح من وسائل جديدة لإحياء الأفكار القديمة، وبل وربما تساعدك على تخليق أفكار جديدة. وعندما يشرب عقلك اللاواعي في الربط بين الأشياء لحل مشكلةٍ ما، حبّذا لو تبدأ في استكشاف فكرة أخرى. عادةً ما تتفاعل المشكلتان مع عملية التفكير في بوتقة واحدة، لتخرج من هذا المزيج بإنجازات حقيقية في وقتٍ أقصر.

توسيع الأفق

والتجريب طريقة أخرى لشحذ زناد الإبداع والابتكار. قد يبدو أننا لسنا في حاجةٍ إلى أن نطالب باحثًا بالتجريب، فهو غنيٌّ عن هذه المطالبة، لكننا نميل في بعض الأحيان إلى أن نسلك في التفكير نمطًا خطيًّا أو معتادًا بعض الشيء: كثيرًا ما تكون تجاربنا مدفوعةً — ومحدودةً — بالرغبة في إجراء دراسة أخيرة، نتحسَّب لها كل التحسُّب، لإكمال الورقة البحثية التي بين أيدينا. ربما تكون محظوظًا بالعمل في واحد من تلك التخصصات التي تتيح فرصًا عديدة للتجربة والخطأ. أما إذا كانت أمامك فرصة واحدة سنويًّا في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات (سيرن)، الكائن على مقربة من مدينة جينيف السويسرية، فلا شك أن هامش التجربة والخطأ يضيق إلى حدٍّ بعيد. فإذا لم يكن متاحًا إجراء تجارب حقيقية، فلعلنا بحاجةٍ إلى أن نلجأ إلى التجارب الفكرية. ففي هذه المساحة يمكننا أن نكون أكثر تحرُّرًا، والقفز إلى خارج الحدود المفروضة على نمط التفكير الحالي. وكما قال كاتب الخيال العلمي إيزاك أزيموف في ذات مرة، فإن الكلمة التي تُنبئ عن اكتشاف علمي جديد ليست: "وجدتها!"، ولكن: "يا له من شيء طريف!".

وفي الأخير، علينا أن نقنع بأنه لا توجد أفكار فريدة أو غير مطروقة، ولا بأس في ذلك. وسمة أساسية من سمات الإبداع تتمثل في الدمج بين أفكار مستمدة من مصادر مختلفة. ولما كان الأمر كذلك، فجديرٌ بك أن تتبحَّر في الاطلاع، وأن تبني على المعارف التي تحصِّلها من خارج نطاق تخصصك، وأن تواظب على حضور المؤتمرات، وتتابع العلماء الآخرين على منصات التواصل الاجتماعي. ولعل ما يقابل ذلك في مضمار الفن هو متابعة الاتجاهات الثقافية المعاصرة، وقراءة المزاج العام للمجتمع، ومتابعة الحركة الفنية وأعمال الفنانين الآخرين. من هذا الخضمّ من الأفكار، سوف تتخلَّق أفكارك الخاصة، وتتحدَّد معالم أسلوبك الخاص.

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 28 نوفمبر 2024.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.80