دليلك إلى إجراء بحث ميداني جيد في منطقة نائية

في عامي 2023 و2024، قضينا نحن الثلاث فترتين ميدانيتين، مدة كل منهما خمسة أسابيع، على جزيرة سيبل، تلك الجزيرة الأطلسية التي تخلو من الأشجار، وتتبع مقاطعة نوفا سكوشا الكندية. كان أول استيطان بشري لهذه الجزيرة في العام 1801، عندما أُنشئ عليها مركز إنقاذ لمساعدة البحّارة الذين تحطمت سفنهم. والجزيرة مكسوَّة بالأعشاب والشجيرات التي توفر الغذاء للحيوانات التي تسكنها، وقوامها نحو 450 من الخيول الوحشية التي تنحدر أصولها من سلالة مجهولة أُدخلت إلى الجزيرة في منتصف القرن الثامن عشر. كذلك أُنشئت على سطح الجزيرة محطة للأرصاد الجوية في تسعينيات القرن التاسع عشر، وأصبحت الجزيرة هدفًا للدراسات البيولوجية بدءًا من سبعينيات القرن الماضي.

وصلت اثنتان منا (فيكتوريا كروزير وجاستين أميندوليا) إلى الجزيرة لغرض جمع البيانات الخاصة بمشاريع الدكتوراه الخاصة بهما، في حين كانت أوليفيا أندريس طالبة بحث جامعية ضمن برنامج تدريب صيفي. كانت الأبحاث التي تجريها فيكتوريا وأوليفيا تتناول الخيول الوحشية؛ وكانتا تواصلان العمل على مدار 16 ساعة يوميًا لإجراء دراسات استقصائية ومسوح ميدانية إلى جانب الأعمال المخبرية. على الجانب الآخر، كانت مهمة جاستين تنقسم إلى قسمين: فقد كانت في الفترة الصباحية تجمع عينات من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في الغلاف الجوي وتعالجها، ثم تعكف على مراقبة مُعداتها البحثية على مدار ما تبقَّى من ساعات اليوم.

يمكن القول إن جزيرة سيبل جزيرة طويلة، إذ يبلغ طولها أضعاف عرضها (نحو 25 ضعفًا)؛ كما أن سواحلها المترامية تُعد مسرحًا لأكبر تجمع لتكاثر حيوانات الفقمة الرمادية Halichoerus grypus في العالم، بالإضافة إلى التنوع الحيوي الكبير من الطيور البحرية. يتغير طقس الجزيرة في الغالب فجأة ودون سابق إنذار؛ إذ من الممكن أن ينتقل من الحرارة الشديدة إلى الضباب الكثيف. أما سكانها من البشر فيبلغ عددهم في المتوسط صيفًا نحو 15 شخصًا، بينهم موظفون فيدراليون وباحثون وأكاديميون زائرون.

تعد "البلدة" القائمة على جزيرة سيبل المحطة الرئيسة لـ«هيئة المتنزهات الكندية» Parks Canada. وتشمل مجموعة المباني المقامة هناك، والتي يعود معظمها إلى أربعينيات القرن العشرين، المساكن المشتركة التي أقمنا فيها. كذلك يحوي المبنى السكني المخصص لإقامة الزوار جميع وسائل الراحة المنزلية؛ حيث تتوفر فيه الكهرباء والمياه الجارية وخدمة الإنترنت اللاسلكي وخدمات غسل الملابس، الأمر الذي يخفف من وطأة العزلة وأيام العمل الطويلة.

بعد أن أمعنا النظر في التجارب المشتركة التي خضنا غمارها على سطح هذه الجزيرة، فكرنا في تجميع سلسلة من النصائح التي يمكن أن تساهم في إرشاد الباحثين الذين يستهلون مشوارهم المهني، لا سيما أولئك الذين يخوضون تجربة العمل الميداني في الأماكن النائية، وهي بيئة عمل مليئة بالضغوط والتحديات. وتشمل هذه النصائح كيفية إدارة المسائل اللوجستية للمرة الأولى، وإصلاح المعدات الميدانية التالفة، وإدارة عمل الفريق بكل تفاصيله عن قرب. ومن موقعنا هذا، نود أن نشجع جميع الباحثين الذين يقطعون الخطوات الأولى في مشوارهم المهني، ويستكشفون تجربة العمل الميداني، على الأخذ بزمام المبادرة. وبالنظر إلى أن الحدود الفاصلة بين العمل والحياة عادةً ما تذوب خلال أداء المهام الميدانية، من الممكن أن تأخذ تلك المبادرات أشكالًا مختلفة عما هو متعارف عليه. على سبيل المثال، يمكن للباحثين التطوع لأداء مهام مثل طهو الطعام، أو التحقق من ظروف الطقس تمهيدًا ليوم العمل التالي، أو حتى المبادرة بتنظيف المكان إذا لاحظوا أن هناك حاجة إلى ذلك.

لا تُبالغ في تعقيد الأمور

لا شك أن الوصول إلى موقع العمل الميداني في الأماكن النائية والبعيدة أمر ينطوي على قدر من الصعوبة؛ إذ أنه يتطلب في العادة عقد شراكات ملائمة وتقديم طلبات للحصول على التصاريح والتمويل اللازم، إلى جانب تأكد الباحث من جاهزيته واستعداده لإجراء أبحاثه في الموقع المعني. لذا ننصح كل باحث بألا يقسو على نفسه. على سبيل المثال، ليس من السهل التنبؤ بظروف العمل الميداني؛ فمن الوارد ألا تتمكن من تنفيذ جميع ما خططت له سابقًا نتيجة لأسباب عديدة تتراوح بين المرض وبين سوء الطقس. لذا عليك أن تضع صحتك وسلامتك في المقام الأول لكي تتجنب أي نوع من الإرهاق البدني.

كنا محظوظين للغاية بقضاء فترتين في موقع العمل الميداني، الأمر الذي أتاح لنا فهمًا أفضل للبروتوكولات الخاصة بجمع العينات وبالظروف البيئية المحيطة. كما ساعدنا ذلك في تقليل احتمالية ألا نتمكن من تحقيق ما نرنو إليه من خلال مشاريعنا البحثية. على سبيل المثال، كان الجهد الذي تقوم به فيكتوريا جزءًا من مشروع طويل الأمد لمراقبة الخيول الوحشية يقوم على جمع البيانات من خلال التقاط الصور الفوتوغرافية وأخذ عينات من البراز دون القيام بأية إجراءات تداخلية ودون إزعاج الحيوانات أو الاحتكاك بها. أمضت فيكتوريا موسمها الميداني الأول في اكتساب الخبرات اللازمة لنظام الدراسة الخاص بها؛ وهو ما ألهمها في توجيه مشروعها للحصول على الدكتوراه من خلال طرح أسئلة جديدة باستخدام البيانات التي جمعتها على مدار السنوات السبع عشرة الماضية.

كذلك ننصح الباحثين في أي مشروع ميداني بالعمل وفق الإمكانات المتاحة لهم. كان بإمكان جاستين أماندوليا عند تصميم برنامجها الميداني جمع البيانات من أي مكان على سطح الجزيرة، إلا أنها اختارت بدلًا من ذلك الاستفادة من البنية التحتية المتاحة؛ لأن ذلك لم يتطلب إقامة أية إنشاءات إضافية. اعتمدت جاستين نهجًا محليًا في جمع العينات من شأنه أن يقلل من تنقلها عبر أنحاء الجزيرة ويتيح لها أن تستخدم مبنى كيمياء الهواء الكائن في البلدة الرئيسة للجزيرة لجمع العينات. وعلى الرغم من أن قرار الباحثة بعدم جمع العينات من أماكن عديدة على سطح الجزيرة قد أدى إلى خفض عدد المتغيرات المراد قياسها، فإن تبسيطها للأمور مكَّنها من وضع أطر سليمة لمشروعها تقوم على الحصول على بيانات موثوقة مع تقليل الأثر على البيئة المحيطة. لذا يمكننا أن نقول إننا قد اتبعنا في المشروعين اللذين باشرناهما على سطح الجزيرة نهجًا يدعم فلسفة "عدم ترك أي أثر"؛ وهو ما يتعين أن يكون أساسا لعمل العلماء الميدانيين.

التصوير الميداني للعلوم

مما تجدُرُ الإشارة إليه أننا كنا ندعم بعضنا بعضًا في توثيق تجاربنا الميدانية. تضمن ذلك الاستيقاظ عند بزوغ الفجر من أجل التقاط صور فوتوغرافية لعمليات جمع الجسيمات البلاستيكية الدقيقة أو التنقل عبر الجزيرة لتوثيق البيانات التي نجمعها بشأن الصفة البيولوجية للخيول الوحشية.

كذلك استثمرنا الوقت في صياغة قصص تحكي عن أبحاثنا وتصوير بعضنا بعضًا في ميدان العمل بهدف مشاركة النتائج مع جمهور المتلقين في بلادنا من خلال الندوات والمقالات والمبادرات الثقيفية والتوعوية. على سبيل المثال، التقطت جاستين صورًا فوتوغرافية عديدة لأوليفيا وفيكتوريا أثناء عملهما الميداني واستُخدمت تلك الصور في مقال يحتفي بتجربة أوليفيا بصفتها باحثة تنتمي إلى السكان الأصليين. كذلك ساعدت فيكتوريا وأوليفيا جاستين في توثيق تجربتها العلمية لاستخدامها في جولتها الافتراضية، التي كانت جزءًا من المنحة التي حصلت عليها من جمعية ناشونال جيوجرافيك.

علاوة على ذلك، شاركت جاستين معارفها في مجالي التواصل العلمي والتصوير الفوتوغرافي؛ كما استطعنا كفريق واحد أن نكتسب فهمًا أفضل للكيفية التي يمكن من خلالها صياغة القوس السردي لقصة مؤثرة إلى جانب تصوير لقطات تكميلية. كذلك أصبحنا أكثر كفاءة كفريق في مجال توصيل العلوم من خلال التعاون فيما بيننا لتوثيق جهودنا البحثية الميدانية حتى نتمكن من مشاركة تجاربنا العلمية بعد انتهاء وقتنا في العمل الميداني. لا شك أن مشاركتك لأبحاثك لا تلهم الآخرين فحسب؛ وإنما تساهم أيضًا في تعزيز سيرتك المهنية وسمعتك في مجال عملك.

تعزيز الروابط الشخصية

أرسَيْنا فيما بيننا روتينًا يوميًّا يغطي الفترة التي نقضيها خارج ساعات العمل. يبدأ هذا الروتين بشرب قهوتنا الصباحية على طاولات النزهة التي تصطف في مقر المحطة (التي تعرف أيضًا بالساحة العامة) وينتهي بمشاهدة غروب الشمس معًا على الشاطئ وقد أحاطت بنا الخيول الوحشية والفقمات الرمادية. كان عددنا قليلًا جدًا على سطح الجزيرة إلى الحد الذي جعل إقامة علاقات صداقة بيننا أمرًا حتميًّا.

جدير بالذكر أنه على الرغم من أن تلك اللحظات كانت تبدو بسيطة، فإنها كانت في الوقت ذاته ضرورية ومهمة لأجل صحتنا النفسية خلال تلك الفترة المليئة بالتوتر والعزلة. فالابتعاد عن الأصدقاء والعائلة لأسابيع طويلة ومتواصلة، إلى جانب قضاء معظم اليوم بمفردك، من الممكن أن يكون أمرًا مرهقًا من الناحية الوجدانية؛ لأنه من السهل جدًا أن تؤدي بك تلك المشاعر إلى فرط التفكير والقلق.

وبحكم أننا لا زلنا في مستهل حياتنا المهنية كباحثين علميين، يمثل العمل الميداني فترة من الراحة خلال مرحلة غير مستقرة من حياتنا. فخلال تلك الفترة نكون قد وصلنا إلى منتصف برامجنا الدراسية أو نسعى جاهدين إلى تأسيس أنفسنا في مجالنا المهني؛ ومن ثمَّ، يمكن أن تترك هذه الفترة من التأمل والتفكير بشأن المستقبل آثارًا وجدانية جسيمة في حياتنا. كذلك من بين الاكتشافات التي توصلنا إليها خلال تلك الرحلة أننا كنا نتصرف على سجيتنا أثناء تلك المرحلة الحساسة من حياتنا؛ وقد سهّل علينا ذلك تكوين روابط عميقة تتجاوز نطاق العلاقات السطحية. لذا نشجع الباحثين الآخرين على اغتنام هذه الفترة واعتبارها بمثابة فرصة للتغلب على التحديات بروح الجماعة في ظل أجواء تتميز بالصدق والصراحة، حتى لو لم يكن من المؤكد أنهم سيقابلون نفس هؤلاء الرفاق في مهمة ميدانية من جديد.

كانت مشاركتنا للحظات الاكتشاف واحدة من أجمل الأوقات التي لم نتوقعها في العمل الميداني؛ فذات ليلة، خرجنا معًا في رحلة ميدانية لم نكن قد خططنا لها مسبقًا لمشاهدة النجوم لساعات تحت السماء الصافية لتلك الجزيرة الواقعة في شمال المحيط الأطلسي. ورغم الظلام الدامس، أضافت حرارة المشاعر الناتجة عن مشاركة تلك اللحظات العميقة في هذه البيئة القاسية، رغم قصرها، ثراءً لتجربتنا في العمل الميداني؛ كما أثْرَت علاقات الصداقة التي تكونت فيما بيننا على ظهر تلك الجزيرة.

_{* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 28 يناير 2025.}

اشترك للحصول على النشرة الإلكترونية المحدّثة كل أسبوعين لكي تبقى على اطلاع بكافة المستجدات على الموقع.