علاج يبشر بثورة في طب أمراض المناعة الذاتية
02 December 2025
نشرت بتاريخ 28 نوفمبر 2025
سيطر هوس بعدد المنشورات العلمية والاستشهادات البحثية على ميادين العلوم. وفي ضوء طرح ساخر لهذه المشكلة، نتساءل: هل وصلنا إلى أقصى درجات السخف العلمي؟
قبل أكثر من نصف قرن، لاحظ ديريك دي سولا برايس اختصاصي المعلومات أن حجم الأدبيات العلمية يتنامى بسرعة مهولة؛ إذ كان يتضاعف خلال فترة تتراوح ما بين 10 إلى 15 عامًا1 لكن لم يخطر بباله قط أن ملاحظته هذه، لن ينبثق عنها فقط حقل علمي، بل صناعة كاملة مكرسة لوضع الإحصاءات والمقاييس والمعايير والمؤشرات فيما يخص كل جانب من جوانب النتاج البحثي الأكاديمي2. واليوم، لا يعمل الأكاديمي المعاصر على نشر الأبحاث وحسب، بل يعكف مع ذلك على صناعة الأرقام التي يُقيم وفقًا لها نتاجه البحثي. فلا يكتفي بنشر الأبحاث، بل يعمل أيضًا على الحصول على أفضل الدرجات على مؤشر هيرش (مؤشر لقياس عدد الاستشهادات البحثية التي تشير إلى البحوث المنشورة للباحث). كما لم يعد شغله الشاغل الابتكار، بل صار يستهدف الوصول بعدد الاستشهادات بأبحاثه في الأدبيات العلمية إلى أقصاه، مع الحفاظ على معدل إنتاج بحثي "مقبول" في أعين لجان التقييم.
فتكون المحصلة هي إنتاج "درجات على مؤشرات تقييم"، بحسب ما يفيد «إطار عمل تقييم الأبحاث في المملكة المتحدة» UK Research Assessment Framework )اختصارًا REF)، والذي تستخدمه المملكة في رصد وتخصيص ملياري جنيه إسترليني (2.7 مليار دولار أمريكي) لتمويل الأبحاث الحكومية عبر جامعات البلد. كذلك لم يعد للتعاون البحثي مجال على جدول أعمال الباحث، بل صار يستهدف التحالفات الإستراتيجية في تأليف الأوراق البحثية لبناء أكبر شبكة معارف تعظم الاستشهاد بأبحاثه. ومما لا شك فيه، أنه لم يعد يقرأ..فمن لديه الوقت لذلك إن كان على المرء أن يطوع الأرقام لصالحه؟
ظهور مؤشر «هيرش» وطغيان ثقافة الأرقام
بدأ مؤشر «هيرش» كمقترح بسيط وبريء. قبل عشرين عامًا، طرح عالم الفيزياء خورخي هيرش من جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييجو الأمريكية فكرة هذا المؤشر. وقد اتسمت معادلته ببساطتها وجاذبيتها: الباحث الذي يحصل على درجة قدرها n على المؤشر، يكون قد نشر العدد n من الأوراق، التي استُشهد بها على أقل تقدير للعدد n من المرات3. وأشارت ورقة هيرش البحثية الأصلية في هذا السياق إلى أنه "في مجال الفيزياء، يُمكن للدرجة على مؤشر «هيرش»، إن تراوحت ما بين 10 إلى 12، أن تخدم في إرشاد قرارات التعيين لمنصب دائم في هيئات تدريس كبرى الجامعات البحثية".
لكن كما قيل في عبارة شهيرة من مسلسل «لعبة العروش» Game of Thrones، "يا له من زمن بري!".
إذ كان أن فجرت ورقة هيرش تلك هوسًا، ولم تسفر ببساطة عن مؤشر جديد. ففي غضون عقد، انتشر استخدام المؤشر في شتى المجالات العلمية. ولم يلبث أن تحول من وسيلة قياس إلى هدف في حد ذاته. فاللجان العلمية على اختلافها بدأت في فرز المرشحين على أساسه؛ ولجان النظر في الترقيات وضعت حدًا أدنى للدرجات التي ينبغي الحصول عليها به، وأخذ خريجي الجامعات في الرجوع إليه بالوتيرة والقلق نفسه الذي يخامر المرء عند تفقد تطبيق للمواعدة.
سيل من المؤشرات
لكن لم الاكتفاء بمؤشر واحد، حين يمكن وضع عشرات المؤشرات الأخرى؟ نتج عن مؤشر «هيرش» (المعروف أيضًا باسم المؤشر «إتش» h-index) المؤشر «جي» g-index (الذي يعطي وزنًا أكبر للمؤلفات العلمية الأكثر ظهورًا في الاستشهادات البحثية)4، والذي أنتج بالتبعية المؤشر «إي» e-index (لاحتساب الاستشهادات البحثية غير المأخوذة بعين الاعتبار في مؤشر «هيرش»)، والمؤشر «إيه» a-index (الذي يقيس متوسط عدد الاستشهادات البحثية بأبرز الأوراق البحثية للباحث)، والمؤشر «إم» (الذي يضع في الحسبان طول خبرة الباحث). وفي الوقت الحالي، هناك مؤشر «آي 10» i10-index، (الذي يقيس عدد المؤلفات البحثية التي ظهرت في عشرة استشهادات بحثية على الأقل)، و«مؤشر أساس-هيرش» h-core (ويشير إلى أهم مجموعة أوراق بحثية يضعها في الحسبان مؤشر هيرش)، فضلًا عن مؤشر هيرش المعاصر (والذي يضع في الحسبان دالة تضاؤل لأن الاستشهادات البحثية - على ما يبدو - تضمحل وتتضاءل قيمتها على غرار المواد الإشعاعية!).
وكل مؤشر جديد ظهرت معه معادلته الرياضية ومبرره الذي يسوغه، وبَشَر بأن يجسد أخيرًا المعنى الحقيقي للتأثير والإسهام الأكاديمي.
وأنا عن نفسي، أجد أن هذه المؤشرات تشبه محاولة عابثة لحصر مياه محيط بقياس عدد موجاته؛ إذ يبشر كل منها بقياس عدد هذه الموجات بدقة أكبر من سابقه. من هنا، على سبيل المثال، أنتج لنا «إطار عمل تقييم الأبحاث في المملكة المتحدة» "دراسات حالة عن التأثير الفعلي"؛ هي وثائق تصف أثر الأبحاث خارج الدوائر الأكاديمية. أما «مركز التميز في البحث العلمي لأستراليا» Australia's Excellence in Research for Australia، فقد طرح مؤشرات للجودة البحثية بهدف تقييمها بين مختلف المجالات العلمية. أما «بيان لايدن»، فكان عليه أن يذكرنا بأن "التقييم الكمي ينبغي أن يأتي مدعومًا بتقييمات خبراء للجودة البحثية"5، كما لو أنها تذكرة بمضغ الطعام قبل ابتلاعه. وبطبيعة الحال، فإن لهذه المؤشرات ما يبررها بالنظر إلى أنها تضمن مساءلة الجهات البحثية أمام دافعي الضرائب، الذين تؤرقهم حتمًا مؤشرات هيرش، لا التساؤل عما إذا كان العلماء قد نجحوا في علاج السرطان أو في تفسير طبيعة الوعي البشري!
في الوقت ذاته، راقبت جهات النشر الوضع وتعلمت منه. فصار النتاج البحثي محل رقابة دائمة، يُحصى فيها كل استشهاد بحثي، ويخضع فيها كل باحث يستشهد بأعماله للتدقيق، ويصبح كل تعاون بحثي محسوبًا بدقة من أجل الحصول على أفضل الدرجات على هذه المؤشرات.
مؤشر جديد لقياس" الوزن" الحقيقي للأبحاث
أتقدم - وكلي تواضع - باقتراح بوضع مؤشر جديد، يشي نوعًا ما بالمفارقة ها هنا. إنه مؤشر يجسد حقًا الأولوية الأهم في الميدان الأكاديمي: الثقل المادي للمنتوج البحثي. أُطلق على هذا المؤشر الاسم «جيه» J-index، ومعادلته - بعكس غيره من المؤشرات - واضحة وصريحة:
J = W ÷ Y
حيث W تعبر عن الوزن الإجمالي (بالكيلوغرامات) لجميع الكتب التي ألفها العالِم، وY تساوي عدد السنوات التي مرت على حصوله على الدكتوراه.
تأملوا هذه المعادلة البسيطة المنمقة! لم يعد علينا أن نقلق بشأن "عصابات الاستشهادات البحثية" (التي يستشهد فيها مؤلفو الأوراق البحثية بأبحاث بعضهم بعضًا لتعظيم ظهور أسمائهم في مراجع الأدبيات العلمية)، أو خداع منظومة النشر العلمي بالاقتباسات الذاتية. فهذا المؤشر حصين أمام محاولات الخداع تلك، إلا إذا طُبعت الكتب على ورق ثقيل، وهو ما ينبغي التحذير منه عبر توجيهات صارمة حول الوزن المقبول لورق الطباعة. وعلى الجانب المشرق، لن يصر الباحثون على الحصول على طبعة ذات غلاف خفيف، ففكروا كم قد ننقذ من أشجار!
كما أن هذا المؤشر يعترف بحقيقة نعرفها جميعًا لكن نادرًا ما نقر بها، وهي أن البحث الرصين له وزن! ولا شك أن مؤلَّفًا بحثيًا يصدر عن مطبعة جامعة برينستون، بما له من وقارٍ وهيبةٍ وثِقَلٍ ملموس وهوامشٍ علمية وافية، ينبغي أن يُعد أكثرَ قيمةً من عشرات المقالات خفيفة الوزن المبعثرة هنا وهناك في الدوريات كأنها نثارٌ من قصاصات أكاديمية. والباحث الذي يُنتج بانتظام فيضًا لا ينقطع من المؤلفات الأكاديمية الضخمة لا يبرهن فحسب على براعته الفكرية، بل يظهر أيضًا قدرة جسدية معتبرة؛ فحمل مخطوطات بحثية كتلك إلى الناشر ليس بالأمر الهين!
كذلك يضع هذا المؤشر حلًا لمشكلة المقارنات التي لا تنتهي بين المجالات العلمية. ولن تكون بنا حاجة لأن نقاوم فكرة أن اختصاصيي علوم الحاسوب يستشهدون بالمؤلفات البحثية بمعدل مختلف عن علماء التاريخ، أو أن باحثي الطب ينشرون المؤلفات البحثية ضمن فرق، في حين يعمل الفلاسفة بمعزل عن بعضهم بعضًا. وكيلوغرام من الفلسفة سيضاهي وزنًا وقيمة كيلوغرامًا من الفيزياء.
حُمى المؤشرات
إن نتاج الهوس بالمؤشرات هو أننا وحّدنا معايير البحث الأكاديمي إلى حد باتت فيه الإصدارات العلمية يُنظر إليها جميعًا على أنها سواء، بغض النظر عما إذا كانت تمثل أعوامًا من البحث المضني في الأرشيفات العلمية أم عطلة أسبوع قضاها الباحث في التلاعب وتطويع الأرقام لصالحه. ومع اكتساب الحقل الأكاديمي لطابع شبيه بذاك المميز لصناعة الوجبات السريعة؛ ليخضع لمبادئها القائمة على السرعة والكم والمخرجات الثابتة والضوابط البيروقراطية، يصبح من الملائم تشبيه الاستشهادات البحثية بـ"الإضافات الجانبية" لوجبة رئيسة.
وتظهر عندئذ أشكال عديدة للتلاعب بقواعد منظومة النشر الأكاديمي، منها تشكيل "عصابات الاستشهادات البحثية"، و"عصابات المراجعين" الذين يتبادلون الإشادة بأبحاث بعضهم بعضًا في المراجعات البحثية لدعم تطورهم المهني، وغير ذلك من أساليب التحايُل على المؤشرات. لقد خلقنا نظامًا ينصب اهتمامه على الأرقام، إلى حد شجع بغير قصد على الفساد.
وهذا يذكرنا بقصة من أساطير الفلكلور الروسي، عن مصنع سوفيتي طُلب منه إنتاج حصة بالأطنان من المسامير، فأنتج مسمارًا واحدًا ضخمًا. فنحن نحصل على ما تقيسه المؤشرات، لكن كل ما نحصل عليه هو القياس في حد ذاته!
هذا المقال مأخوذٌ من قسم «حديث المهن في نيتشر» Nature Careers، وهو مساحة مخصَّصة لقراء Nature بهدف مشاركة آرائهم وتجاربهم المهنية. نشجع أيضًا مشاركة ضيوفنا لتجاربهم.
اشترك في نشرة «نيتشر بريفينج: كاريرز» Nature Briefing: Careers؛ حيث نقدم لك موجزًا أسبوعيًا مجانيًا لا غنى عنه لمساعدة العلماء في الحقل البحثي وإرشادهم.
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 18 نوفمبر عام 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.199
1. Price, D. J. D. S. Little Science, Big Science (Columbia University Press, 1963).
2. Kulczycki, E. The Evaluation Game: How Publication Metrics Shape Scholarly Communication (Cambridge Univ. Press, 2023).
3. Hirsch, J. E. Proc. Natl Acad. Sci. USA 102, 16569–16572 (2005).
4. Egghe, L. Scientometrics 69, 131–152 (2006).
5. Hicks, D., Wouters, P., Waltman, L., de Rijcke, S. & Rafols, I. Nature 520, 429–431 (2015).
تواصل معنا: