صدوع في أعماق الأرض تُمزق المدن وتبتلع المنازل وتشرد أعدادًا هائلة من البشر
02 September 2025
نشرت بتاريخ 2 سبتمبر 2025
يُواجه مئات الآلاف من السكان خطر النزوح قسرًا من منازلهم نتيجة لتزايد اتساع "الأخاديد" في بعض المدن عبر مختلف أنحاء القارة الإفريقية.
حقوق الصورة: Ruben Nyanguila/Anadolu via Getty
أفادت دراسة1 منشورة مؤخرًا أن بعض مدن القارة الإفريقية بدأت تشهد ظاهرة غريبة تتمثل في تكوُّن شقوق عملاقة تُعرَف بـ "الأخاديد" داخل تلك المدن، فتبتلع في جوفها المنازل والأعمال التجارية، وهو ما يحدث أحيانًا بين عشيةٍ وضحاها ودون أية مقدمات.
ووفقًا للفريق البحثي وراء الدراسة التي نُشرت نتائجها في دورية Nature، فإن متوسط عدد النازحين قد ناهز 118,600 شخص في جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها في الفترة ما بين عامي 2004 و2023.
ويُقدِّر باحثون أنه في حال عدم اتخاذ إجراءات عاجلة، من المحتمل نزوح مئات الآلاف من الأشخاص في جميع أنحاء القارة السمراء خلال السنوات العشر القادمة، ويشمل ذلك أكثر من 770 ألف نسمة، يقطنون المناطق المتوقع أن تشهد التوسع المرتقب لتلك الأخاديد في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
يقول ماتياس فانميرك، وهو أحد الباحثين المشاركين في الدراسة واختصاصي علم الجغرافيا بجامعة لوفين الكاثوليكية في لوفين، بلجيكا: "أرى أن هناك نوعا من الاستهانة بهذا الخطر، كما أن هناك نقصًا شديدًا في الأبحاث التي تتصدى لهذه الظاهرة". ويضيف الباحث أن ذلك الخطر ناجم عن "مزيج من العوامل الطبيعية والبشرية"، إلا أنه من الخطأ الزعم بأنه "لا يمكن على الإطلاق تحاشي تلك الأضرار".
توسُع الأخاديد
تنتشر ظاهرة زيادة اتساع الأخاديد في المدن المقامة فوق تربة رملية والتي تفتقر إلى العدد الكافي من شبكات الصرف الجيدة. فعندما تهطل الأمطار الغزيرة، تتراكم المياه على الطرق وفوق أسطح المنازل. وعندما لا تعمل شبكات تصريف المياه بالكفاءة المطلوبة أو لا تكون بالعدد المناسب، تشق المياه طريقها نحو الأراضي المتروكة دون حماية، فتبدأ في شق حفر عميقة من الممكن أن تمتد لمسافات تبلغ مئات الأمتار. وبمرور الوقت، تبدأ هذه الأخاديد في ابتلاع المنازل والبنى التحتية الأخرى في جوفها، بل ربما ينجم عنها أحيانًا حدوث وفيات.
استخدم فانميرك وفريقه البحثي صورًا ملتقطة بالأقمار الصناعية في الفترة ما بين عامي 2021 و2023 لاكتشاف 2922 أخدودًا داخل الحيز العمراني لـ 26 مدينة من أصل 47 مدينة، وتمتد هذه الأخاديد على طول مسافة تبلغ نحو 740 كيلومترًا. قارن الفريق الصور المذكورة بصور قديمة ملتقطة جوًا محفوظة في المتحف الملكي لإفريقيا الوسطى في بلجيكا، ووجدوا أنه في عقد الخمسينيات من القرن الماضي لم يزد عدد تلك الأخاديد عن 46 أخدودا فقط. ويقول فانميرك: "أتاح لنا ذلك الاكتشاف أول مؤشر واضح على أنه يمكن بالفعل أن نعزو هذه الظاهرة إلى التوسع العمراني المستمر".
كذلك وجد الباحثون أنه في 99% من الحالات، زاد اتساع الأخدود بما لا يقل عن 10 أمتار مربعة في الفترة ما بين عامي 2004 و2023. جدير بالذكر أن طول الأخدود يبلغ في المتوسط 253 مترًا وعرضه عند أوسع نقطة 31 مترًا، وأن جميع الأخاديد تقريبًا متصلة بشبكة الطرق. يقول فانميرك: "لا يمكن أن تتسرب المياه أو تتغلغل داخل التربة، ومن ثمَّ، فإنها تتركز على طول هذه الطرق التي تصبح في المحصلة قنوات كبيرة تتحول إلى أنهار".
أدمج الباحثون فيما بعد بيانات الكثافة السكانية مع خرائط الأخاديد المشار إليها. ومن ثمَّ تمكنوا من تقدير متوسط عدد الأشخاص الذين اضطروا إلى النزوح من مساكنهم من جراء تلك الأخاديد خلال الفترة المذكورة، والذين بلغ عددهم 118,600 شخص، مع زيادة معدلات النزوح بأكثر من الضعف بعد عام 2020.
يقول جاي إيلومبي ماوي، الباحث في علم الجيومورفولوجيا من جامعة بوكافو الرسمية في جمهورية الكونغو الديمقراطية وأحد المشاركين في تأليف الدراسة، إن اتساع الأخاديد قد يكون كارثيًا، بل وفتاكا؛ إذ إن العائلات التي تعيش بالقرب منها غالبًا ما تفتقر إلى بدائل آمنة.
في نوفمبر من عام 2019، زار الباحثون كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية وإحدى أكثر المدن تضررًا، إذ يوجد بها 868 أخدودا تمتد على طول مسافة إجمالية تصل إلى 221 كيلومترًا. وهناك التقوا بأم لعدة أطفال يقع منزلها بالقرب من حافة أحد الأخاديد. وبعد يومين من هذا اللقاء، لقي عديد من هؤلاء الأبناء حتفهم أثناء محاولتهم الاحتماء بمنزل أحد أقاربهم، عندما انهار ذلك الأخدود فجأة. وتوفي في ذلك الحادث ليلتها ما لا يقل عن 40 شخصًا في العاصمة كينشاسا.
حاجة ملحة إلى الاستثمارات
مع زيادة حركات التوسع العمراني التي تشهدها مدن القارة الإفريقية، من المرجح أن تزداد المخاطر الناجمة عن اتساع الأخاديد. كذلك من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان القارة بمعدل ثلاث مرات تقريبًا بحلول عام 2050، ومن المحتمل أن تزداد شدة هطول الأمطار في المناطق الاستوائية من أفريقيا بنسبة تصل إلى 15% في العقود المقبلة.
حقوق الصورة: Matthias Vanmaercke
لكن مؤلفي الدراسة يشيرون إلى أن الإجراء الأكثر فعالية والأقل تكلفة يتمثل في منع تكوُّن الأخاديد من البداية بدلا من العمل لاحقًا على الحيلولة دون اتساعها بعد تكونها؛ فهذه العملية الأخيرة ربما تكلف ما يزيد على مليون دولار أمريكي لكلّ أخدود. وهنا يقول فانميرك: "من المرجح أن يكون التدخل بشكل مدروس جيدًا وفي الوقت المناسب هو الحل السحري لهذه المعضلة. غير أن المشكلة تتمثل في النقص الشديد في الأموال والموارد، وهو في العادة ما يجعل أي إجراء يُتخذ في هذا الإطار إما غير كافٍ أو متأخر على أوانه.
تقول آنا ميجيك، الباحثة المتخصصة في علم الهيدرولوجيا من جامعة إمبريال كوليدج لندن، إنه ينبغي على الحكومات ومنظمات القطاع الخاص مضاعفة استثماراتها في الإجراءات التدخلية التي تشمل، على سبيل المثال، توفير أنظمة كافية ومناسبة لتصريف المياه. إلا أن هناك عراقيل عديدة، لعل أبرزها ارتفاع تكلفة تلك العمليات وصعوبة تبني حلول طويلة الأمد.
تقول جينا زيرفوجل، اختصاصية علم الجغرافيا من جامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا، إن على الحكومات إعطاء الأولوية للبنية التحتية المستدامة. وتضيف الباحثة: "من الضروري فهم دور البيئة والموارد في المدن، ولا سيما التربة والمياه تحديدًا؛ ومن ثمَّ فإنه من الأهمية بمكان إشراك الخبراء في تلك المجالات". وترى زيرفوجل أنه لا شك أن إشراك المجتمعات المتضررة في تخطيط الإجراءات التدخلية" سيسهم إسهامًا كبيرًا في فهم الرؤى الخاصة بقاطني تلك المجتمعات، سواءً فيما يتعلق بتجربة التعايش مع تلك الأوضاع أو بالحلول المُحتمل تنفيذها".
وأخيرا تقول زيرفوجل: "كلما أسرعنا في ضخ الاستثمارات، سيكون ذلك أفضل؛ لأننا نعي تمامًا أن أي تأخير في هذا الصدد ستكون عواقبه وخيمة".
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 27 أغسطس عام 2026.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.150
تواصل معنا: