صدوع في أعماق الأرض تُمزق المدن وتبتلع المنازل وتشرد أعدادًا هائلة من البشر
02 September 2025
نشرت بتاريخ 1 سبتمبر 2025
التحليل الجينومي لمومياء تعود إلى 4500 عام يكشف عن أصول شمال إفريقية وعراقية، وذلك في وقتٍ تُطلق فيه مصر مشروعًا طموحًا لفك شفرة الحمض النووي لمئتي مومياء و100 ألف مواطن.
حقوق الصورة: يحيى جاد
أزاحت دراسة حديثة الستار عن التركيب الجيني لمصريٍّ قديم عاش قبل نحو 4500 عام، وكشفت أنّ حمضه النووي يجمع بين أصولٍ شمال إفريقية وعراقية. ومن المنتظر أن ينفض «مشروع الجينوم المصري» الغبار عن مزيدٍ من أسرار الماضي.
على مدار تاريخها الممتدّ لخمسة آلاف عام، كانت مصر دومًا بوتقةً تنصهر فيها شتّى الجماعات العِرقية التي استقرَّت فيها واتخذت منها وطنًا.
يقول يحيى جاد، أستاذ علم الوراثة الجزيئية والمشرف العلمي على مختبر الحمض النووي القديم في المتحف القومي للحضارة المصرية، وهو شريك أساسي في تنفيذ «مشروع الجينوم المصري»1: "المصريون المعاصرون جماعة على درجة عالية من التنوع، بالنظر إلى أن معظم المجموعات الجينية — ما عدا أبناء جنوب شرق آسيا — قد اندمجت معنا واختلطت بنا على امتداد تاريخنا، سواء كلاجئين أو غزاة أو مهاجرين".
أظهرت الدراسات الجينومية أنّ نحو 80% من الأصول الجينية للمصريين القدماء كانت تعود إلى شمال إفريقيا، وأن 20% منها كانت غرب آسيوية. أمّا المصريون المعاصرون فيحملون مزيجًا جينيًّا أكثر تنوُّعًا، بحيث أصبحت نسبةٌ من هذا المزيج تعود إلى أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء؛ وهو ما يجعل مصريي اليوم أقرب من جماعات أخرى كثيرة إلى ما يمكن وصفه بالمزيج الجيني العالمي، لا سيّما بالمقارنة مع المجموعات التي كان أسلافها أكثر عزلةً2.
ومع ذلك، فإنّ الجماعات السكانية في شمال إفريقيا لا تحظى بتمثيل وافٍ في قواعد البيانات الجينية التي تُبنى عليها كثير من الدراسات المتعلقة بالأمراض. وقد بيّنت دراسة أُجريت عام 2020 أنّ الفوارق الجينية بين المصريين والأوروبيين قد تحُول دون إمكان تعميم مخاطر الأمراض الجينية لإحدى هاتين الجماعتين على الأخرى، وكشفت عما بينهما من تفاوُت في درجات المخاطر متعددة الجينات؛ مما يُبرز أهمية المراجع الجينومية متعددة الأعراق، على غرار المرجع الجينومي المصري3.
يقول جاد: "يهدف مشروع الجينوم المصري إلى سدّ هذه الفجوة، وعلاج الخلل الناتج عن ضعف تمثيل الأفارقة في البيانات الجينومية العالمية".
انطلق المشروع عام 2021 عبر تحالف وطني يضمّ عددًا من الجهات، في مقدمتها «المركز المصري للبحوث الطبية والطب التجديدي». ويهدف إلى بناء قاعدة بيانات مرجعية للجينوم المصري، وإعداد جيل جديد من علماء الجينات المدرَّبين على استخدام أحدث الأجهزة التي زُوِّد بها المشروع. ويتألف من أربع مجموعات دراسية متميزة في مجال علم الجينوم: الجينوم القديم، وجينوم الأمراض، وجينوم السكان، وجينوم الرياضة. وهو يستهدف تعيين التسلسل الجيني لـ100 ألف مصري إضافةً إلى مئتي مومياء.
وأوضح خالد عامر، الباحث الرئيس في مشروع الجينوم المصري والمدير السابق لمركز البحوث الطبية والطب التجديدي، أنّ أوّل بنك حيوي وطني قد أُنشئ بالفعل، وجُمِع فيه حتى الآن أكثر من 3 آلاف عيّنة، وجرى تعيين التسلسل الجينومي الكامل لأكثر من 1870 عينة منها. كما أخذ الباحثون 1152 عيّنة من 372 أسرة، بغرض إخضاع الأفراد والأُسر التي تعاني أمراضًا وراثية نادرة للفحص والتحليل. وبموازاة ذلك، يعكف الباحثون على تعيين التسلسل الجينومي لمجموعة من المومياوات يبلغ عددها 22 مومياء.
في شهر يوليو الماضي، نشرت مجلة Nature نتائج الدراسة التي عمد فيها فريقٌ من الباحثين إلى تحليل رُفات رجل عاش بين عامَي 2855 و2570 قبل الميلاد؛ وكانت تلك المرّة الأولى التي ينجح فيها الباحثون في تعيين تسلسل جيني كامل لمصري من تلك الحقبة، وخرجوا من دراستهم بالكثير من الاكتشافات عن أصوله الجينية.
يقول لينوس جيردلاند-فلينك، الباحث بجامعة أبردين الذي شارك في الإشراف على الدراسة وتأليفها بالمراسلة: "جينوم هذا الرجل يحتوي على كمية كبيرة نسبيًا من المادة الوراثية أتاحت الوصول إلى أسلافه الجينيين". كشفت الدراسة أنّ أصول الرجل كانت في معظمها شمال إفريقية، غير أنّ 20% من أصوله الجينية تعود إلى المناطق التي تُعرف في عالم اليوم بالعراق وما حوله من مناطق؛ ما يشي بأن هجراتٍ تمَّت في الزمان القديم بين مصر وشرق الهلال الخصيب. ويُرجح الباحثون أنّه كان ذا عينين بُنيّتين وشَعرٍ بُنيّ وبشرة داكنة. وعُثر على علامات تدل على أنه كان مصابًا بالتهاب المفاصل التنكُّسي، أو ما يُعرف بالفُصال العظمي، وعلامات دالةٍ على الإجهاد العظمي عمومًا؛ ما يشير إلى أنّه ربما كان صانع فخار.
إذا كان فرد واحد قد أتاح كل هذه البيانات، فإنّ تحليل مئتي مومياء يعتزم مشروع الجينوم المصري دراستها، من شأنه – كما يقول الباحثون – أن يُسهم إسهامًا كبيرًا في تعميق فهمنا للعالم القديم.
يضيف جيردلاند-فلينك: "تكشف الدراسة عن إمكان وجود استمرارية جينية على المستويين المحلي والإقليمي". وتؤكد الدراسة أنّ غياب الدراسات الجينية المماثلة "لا يزال يمثل عائقًا أمام فهمنا للاستمرارية السكانية وتدفّق الجينات بالتحدار في المنطقة".
وتضيف أديلين موريس جاكوبس، التي شاركت في تأليف الدراسة بالمراسلة، أنّ الجينومات القديمة تساعدنا على فهم ماضينا التطوّري على نحو أفضل، بما في ذلك تطوّر الأمراض واستجابة أجسامنا لها.
ويقول جاد: "نحن نتاج التفاعل بين جينومنا وبيئتنا، ومن ثمّ فإنّ دراسة رحلة الجنس البشري على الأرض أمرٌ لا غنى عنه لفهم حاضرنا".
غير أنّ ذلك يصطدم بجملة من التحدّيات؛ فبعد وفاة الإنسان تعمل الإنزيمات على تكسير الحمض النووي، مما يجعل تحليله أكثر صعوبة. وكذلك فقد تتعرّض الرُّفات للتلوّث على يد مَن يتعاملون معها على مرّ السنين، أو بسبب الميكروبات ومواد التحنيط المستخدمة. وإلى جانب ذلك، لا يستطيع العلماء استخلاص عينات بحرّية من الرفات ذات الأهمية التاريخية الكبرى، مثل المومياوات الملكية، ولا سيما من منطقة الجمجمة حيث يُحفظ الحمض النووي على نحوٍ أفضل.
وتحظى تقنيات أخذ العينات واستخراج الحمض النووي وتعيين التسلسل الجينومي بأهمية محورية في تجاوز بعض هذه التحديات. يقول جيردلاند-فلينك إنّ مجال دراسة الحمض النووي القديم قد راكم معرفة جماعية حول الكيفية الأدق لأخذ عينات من هيكل عظمي قديم، على النحو الذي يزيد فرص الحصول على الحمض النووي. وهو يأمل في أن تتوثق أواصر التعاون مع «مشروع الجينوم المصري» لتبادل الخبرات في ذلك الشأن.
تتولى مجموعة دراسة الأمراض في «مشروع الجينوم المصري» دراسة المتغيرات الجينية المرتبطة بالسرطان، والأمراض المنتشرة والمُعدية والنادرة في المجتمع المصري. ويهدف المشروع إلى إرساء قاعدة للطبّ الموجَّه والطب الدقيق؛ وهو الهدف الذي يقول عامر إنه أمرٌ جوهري للمشروع، ولابتكار علاجات دقيقة وفعّالة تلبي احتياجات هذه الجماعة السكانية على وجه التحديد.
* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمنصة «نيتشر أفريكا» Nature Africa بتاريخ 20 أغسطس 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.149
تواصل معنا: