أخبار

لا غنى للمجال البحثي عن الكوادر الفنية

نشرت بتاريخ 12 أغسطس 2025

الفنيون جزء لا يتجزأ من المنظومة البحثية، وقد حان الوقت لتقدير عملهم.

كيلي فيري

تقول كيلي فيري: البحث العلمي لا يتم من دون كوادر فنية. 

تقول كيلي فيري: البحث العلمي لا يتم من دون كوادر فنية. 
حقوق الصورة: Kelly Vere

حتى سن الثامنة عشرة، لم أكن أعرف حتى معنى كلمة «فني». كنتُ قد تخرّجت لتوي من المدرسة الثانوية، وعازمةً على الالتحاق بالجامعة، لكنني كنت بحاجة إلى عمل كي أستطيع تحمّل تكاليفه. استوقفني إعلان عن وظيفة لفني طبي مبتدئ في قسم المناعة بجامعة نوتنجهام في المملكة المتحدة. كانت وظيفةً مدفوعة الأجر، وتوفّر دعمًا للرسوم الدراسية لمتابعة الدراسة، فبدت لي طريقًا واعدًا، فتقدّمت لها.

حصلت على الوظيفة، وقد غيّرت حياتي.

انضممتُ إلى مجموعة بحثية، أقدِّم من خلالها الدعم للطلبة الجامعيين وطلاب الدراسات العليا في المختبر، وأسهم في إنجاز الأبحاث، بينما أتابع دراستي للحصول على شهادة في علوم الطب الحيوي، بدعم من جهة عملي. كان التوفيق بين عملٍ بدوام كامل ودراسةٍ بدوام جزئي أمرًا صعبًا، لكن ما كنت أتعلمه في الجامعة ساعدني على التقدّم في عملي، كما أن المعرفة العملية التي اكتسبتها في العمل أضفت على دراستي جانبًا حياتيًا تطبيقيًا.

لفت نظري منذ أيام العمل الأولى مدى أهمية الدور الذي يلعبه الفريق الفني في نجاح الأبحاث. كانت كبيرة الفنيين تبدو وكأنها تعرف كل شيء: كل منهجية، وكل جهاز، وكل بروتوكول، وكل مادة كيميائية. كان الجميع يعتمد عليها، سواءٌ أكانوا طلبة، أو باحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراه، أو أساتذة. ومع ذلك، بدا أنه خارج مجموعتنا البحثية، لم يكن أحد يعلم بوجودها (أو بوجودي، أو بوجود كثير من المهنيين الفنيين الآخرين).

لازمتني تلك المفارقة: كيف يمكن لمجموعة أن تكون بهذه الأهمية للتدريس والبحث، ومع ذلك تبقى في الظل، ويبقى عملها متواريًا عن الأعيُن؟

وبعد مرور خمسة وعشرين عامًا، أصبحتُ اليوم مديرة للاستراتيجية الفنية، مسؤولة عن الإشراف على التوجّه الاستراتيجي، وتخطيط القوى العاملة، والتطوير المهني لمجتمع الفنيين في جامعة نوتنجهام، الذي يضم 550 شخصًا. كما أقود جهودًا وطنية لتغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى الفنيين، ولدعمهم في منظومة البحث والتعليم في المملكة المتحدة.

على مدى العقد الماضي، بدأ يزداد الالتفات إلى أهمية الكفاءات الفنية والاستثمار فيها في المملكة المتحدة. ومع ذلك، لا تزال التحديات التي واجهتها عندما كنت فنِّيةً مبتدئة — من ضعف الظهور، وغموض مسارات التطوّر المهني، وغياب نهج استراتيجي لتخطيط القوى العاملة — تمثّل تحديات تواجه الفنيين حول العالم. وقد شاركتُ في كتابة رسالة نُشرت في مجلة Nature عام 2016، دعت إلى الاعتراف بدور الفنيين في البحث، وحثّت القطاع على إعادة التفكير في كيفية دعم الخبرة الفنية وتقديرها.

وما زلت أعمل على تغيير هذا الواقع — بدعمٍ من عددٍ يتزايد يومًا بعد يوم من الأفراد والمؤسسات والجهات المانحة.

لماذا التغيير؟

البحث العلمي لا يمكن أن يتم من دون المهنيين الفنيين. فمن المعلوماتية الحيوية والهندسة البرمجية، إلى تصميم الأدوات والكيمياء التحليلية، يشكّل الفنيون العمود الفقري للبحث في الجامعات، وهم على القدر ذاته من الأهمية في قطاعات مثل الرعاية الصحية، والصناعة، والطاقة، والصناعات الإبداعية. وسواءٌ أكنَّا نتحدث عن تطوير اللقاحات، أو بناء النماذج الأولية، أو دفع عجلة التقنيات النظيفة، نجد أن المهنيين الفنيين يقودون الابتكار في شتى مناحي الاقتصاد. وفي الأوساط الأكاديمية، يدرّب الفنيون الجيل القادم من الباحثين من خلال التعليم العملي، وتنمية المهارات، والإرشاد اليومي. وفي المملكة المتحدة، يتزايد عدد المؤسسات التي تعمل على رفع مستوى الوعي وإحداث تغيير في الثقافة السائدة وطريقة تقدير الطاقم الفني.

على سبيل المثال، تلتزم المؤسسات الأكاديمية الموقِّعة على «الالتزام حيال الفنيين» Technical Commitment — وهو مبادرة أطلقتها عام 2017 — بالشراكة مع الكوادر الفنية لديها لتحسين ظهور تلك الكوادر، والاعتراف بدورها، فضلًا عن التطوير المهني، والاستدامة. وقد وقَّع على ذلك الالتزام أكثر من 120 جامعة ومعهدًا بحثيًا. وأطلقت بعض هذه المؤسسات، مثل جامعتي ليفربول ووارويك، مسارات ترقية مهنية للفنيين، صُمّمت على نحوٍ يحاكي نظيراتها في السلك الأكاديمي. في هذه البرامج، تستند الترقية إلى الخبرة الفنية، ومقومات القيادة، والمساهمة في الأبحاث أو التدريس أو الابتكار. ومن المقرّر أن تطلق جامعة نوتنجهام برنامجًا مماثلًا العام المقبل. كما استحدثت مؤسسات أخرى مناصب «أستاذ ممارس» للفنيين ذوي الخبرة العالية. هذه أدوات استراتيجية تهدف إلى استقطاب الأفراد ذوي المهارات المتقدّمة والاحتفاظ بهم، ممّن يُشكّلون الركائز الأساسية للبحث — وهي بمثابة رسالة قوية مفادها أن المسارات المهنية الفنية مُقدَّرة، وأن الكفاءات الفنية تستحق الاستثمار فيها.

زخم عالمي

انطلقت هذه المساعي في المملكة المتحدة، لكنها سرعان ما تحولت إلى حركة عالمية متنامية؛ إذ بدأت مؤسسات في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا تعترف بمشاكل مماثلة في أنظمتها. في عام 2023، أصبحت جامعة سيدني في أستراليا أول جهة توقّع على «الالتزام حيال الفنيين» خارج المملكة المتحدة، وتبعتها مؤسسات أخرى. ونحن الآن نبني مجتمعًا عالميًا للممارسة من خلال شبكة «يونيفرسيتاس 21» Universitas 21 — وهي شبكة دولية تتألف من جامعات بحثية رائدة لتبادل الخبرات، وبناء الشراكات، ودعم التعاون الدولي بشأن المهن الفنية.

خلاصة تجربتنا

إذن، ما الذي نحتاج إليه حتى نثبِّت دعائم هذا التغيير؟

أولًا، لا بدّ من المهارات القيادية، لا من الفنيين وحدهم، بل من صنّاع القرار في المؤسسات أيضًا. لقد حظيتُ بدعم قوي من زملاء كبار في نوتنجهام أدركوا أهمية هذا العمل، وكذلك من جهات مانحة وأطراف فاعلة خارجية. وقد تطلّب الأمر طريقةً مدروسة في عرض المسألة: إذ قدّمنا تطوير القوى العاملة الفنية لا كمشكلة يجب حلّها، بل كفرصة لتعزيز البحث، وتحسين الكفاءة، واكتشاف الطاقات الكامنة.

كان الانخراط في العمل التوعوي والتنظيمي بالنسبة لي خروجًا عن المألوف؛ لكنني أدركتُ اليوم أن التقدّم الحقيقي غالبًا ما يتحقّق على هذا الصعيد.

وأنا في طريقي إلى بلوغ تلك الغاية، تعلمت — وما زلت أتعلم — كيف أقنع الآخرين، وأتواصل بشكل استراتيجي، وأتنقّل بين الأنظمة المؤسسية المعقّدة، مع الحفاظ على فهمٍ يومي لتحديات الفنيين العملية.

ثانيًا، نحتاج إلى الأدلة. فقد وفّرت لنا «لجنة موهبة» TALENT Commission — وهي مراجعتنا لعام 2022 لوضع الطاقم الفني في منظومة البحث العلمي — البيانات، والقصص، والمصداقية التي نحتاجها لعرض القضية أمام الجهات المانحة، وصنّاع السياسات، وقادة الجامعات.

وثالثًا، نحتاج إلى مجتمع. وقد تجلّى هذا الشعور بالظهور بوضوح في وقتٍ سابق من هذا العام، عندما شارك معهد المهارات والاستراتيجية الفنية في المملكة المتحدة في استضافة أول مؤتمر تنظمه الجمعية الملكية مخصّص للمهنيين الفنيين منذ تأسيسها قبل 365 عامًا. وقد جمعت هذه الفعالية — التي عُقدت تحت عنوان «تقدير المواهب الفنية وتطويرها: استراتيجيات للنمو والتقدّم» — قادة في مجالات البحث والصناعة والسياسات، لمناقشة التحديات التي تواجه المهنة، واستكشاف استراتيجيات لبناء المهارات، وتعزيز الظهور، وتطوير القيادة. وكانت مشاركة شركة «رولز رويس» Rolls-Royce البريطانية في استضافة المؤتمر دلالة على الاعتراف المشترك بأن الكفاءات الفنية تقع في القلب من أنشطة الابتكار؛ لا في الجامعات وحدها، بل في مختلف القطاعات الصناعية.

وفي المملكة المتحدة، بدأت الإصلاحات التي طالت «إطار التميز البحثي» (REF) — وهو النظام الذي يُستخدم لتقييم جودة البحث في الجامعات — تعترف تدريجيًا بالطيف الأوسع من الأدوار التي تدعم البحث. كما ساعدت مبادرات مثل «إطار التميز البحثي الخفي» في تسليط الضوء على إسهامات الفنيين، ومهندسي البرمجيات البحثية، والمتخصصين في البيانات، ممّن لا غنى عنهم وغالبًا ما تُغفَل أدوارهم. وقد شاركتُ بنشاط في الحوارات المتعلقة بإصلاح «إطار التميز البحثي»، وأشغل حاليًا عضوية اللجنة الاستشارية المعنية بالتنوع، للمساهمة في تشكيل مقاربة تقييمية أكثر شمولًا، تُنصف التنوع الحقيقي في المواهب. لا يزال الطريق في بدايته، لكن الاتجاه مبشّر.

النجاح.. ما هو؟ وكيف السبيل إليه؟

إذا كنت باحثًا في بداية مشوارك، فامنح نفسك وقتًا لتتعرّف إلى زملائك الفنيين، وإلى ما يقدّمونه لبحثك. واحرص على بناء شراكات، لا مجرّد أنظمة لسير العمل. وإن كنت تفكّر في مسار مهني فني، فاعلم أنه قد يكون مجزيًا، ومهمًا، مثله تمامًا مثل المسار الأكاديمي التقليدي.

بالنسبة لي، النجاح يعني نظامًا بحثيًا يحظى فيه الفنيون بحظهم من الظهور، والتقدير، والاستثمار؛ بحيث لا يكونون مجرّد مساعدين، بل قادة أيضًا.

النجاح عالَمٌ يمكن فيه لفنيٍّ في بداية الطريق، كما كنتُ يومًا، أن يرى أمامه مسارًا مهنيًا واضحًا وواعدًا — فيه التقدّم، والتقدير، وفيه فرصة للمشاركة في بناء مستقبل البحث.

النجاح مجتمعٌ عالمي لا يتساءل عمّا إن كانت الكفاءات الفنية مهمّة — بل يسأل كيف يمكن دعمها وتطويرها والاحتفاء بها.

لم نصل بعد، لكننا على الطريق.

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 9 يوليو 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.132