رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 28 مايو 2024
مرَّ على مصر مئة عامٍ أو يزيد، وعلماؤها يقفون من تاريخ بلدهم موقف المتفرِّج، تاركين إياه ليرويه علماء أوروبا والولايات المتحدة. وفي هذا التحقيق الصحفي المصوَّر، تبحث مجلة Nature في خبايا المتحف الضخم الذي صمَّمه معماريون غربيون، وموَّلته اليابان، وتديره المؤسسة العسكرية المصرية.. وكيف لهذا المتحف أن يُبدِّل هذه الصورة.
Photography by Rehab Eldalil for Nature
على بُعد كيلومترين اثنين إلى الشمال من أهرامات الجيزة، وعشرين دقيقة بالسيارة من وسط مدينة القاهرة، يقومُ صرحٌ هائل، يفتح بابًا على الماضي. إنه المتحف المصري الكبير، الذي سيكون لدى افتتاحه كليًّا أكبر متحف في العالم مخصَّص لمعروضات حضارة واحدة. بُني المتحف على مساحةٍ تبلغ 500 ألف متر مربع، أي ما يعادل مساحة 80 ملعب كرة قدم. وغير بعيد، أُنشئ «مطار سفنكس الدولي» ليستقبل زوَّار الأهرامات والمتحف. ومن المقرر أن يُفتتح المتحف بجميع أقسامه افتتاحًا رسميًّا – بعدما افتُتح قسمٌ صغيرٌ منه في السابق – في وقتٍ لاحقٍ من العام الجاري.
لدى دخول الزوار إلى المتحف، يكون في استقبالهم تمثالٌ عملاق للملك رمسيس الثاني، ثالث ملوك الأسرة التاسعة عشرة في مصر القديمة، والذي تربَّع على كرسي العرش قرابة سبعة عقود. تضيء الشمس وجه هذا التمثال، الذي يتوسَّط البهو المسمَّى بالبهو العظيم، ويُقدَّر عمره بنحو 3200 سنة، مرتين في العام. وقد قُصد بهذه اللفتة محاكاة ظاهرة تعامُد الشمس على وجه تمثال آخر للملك رمسيس الثاني، يسكن معبد أبو سمبل في النوبة، إلى الجنوب الغربي من أسوان، حيث تضيء الشمس وجه التمثال مرتين في العام أيضًا: مرةً يوم ميلاده، ومرةً يوم اعتلائه عرش مصر.
إلى اليسار من البهو العظيم، يوجد الدَّرَج العظيم. يرتقي الزائر هذا الدرج، الذي يتألَّف من 108 درجات، ترتفع به 26 مترًا، تحُفُّه التماثيل والقِطَع الأثرية المتراصَّة على الجانبين، والتي تحمل معاني ومغازي تتصل بالشعائر الدينية القديمة، وطقوس الدفن، والطقوس الجنائزية. وما إن يبلغ الزائر قمة الدرج، حتى يجد نفسه أمام مشهد بانورامي لهضبة الجيزة، بأهراماتها الخالدة. هذا المشهد – والمتحف على جملته – قُصد من ورائهما تغيير نظرة العالم إلى مصر، ونظرة مصر إلى العالم.
"إنه متحف عالمي، يضارع المتحف البريطاني ومتحف اللوفر"، هكذا وصفَتْه شيرين فرانجول-بروكنر، وهي معمارية شاركت في تأسيس مكتب «أتيلير بروكنر» Atelier Brückner، في مدينة شتوتجارت الألمانية، الذي وضع تصميمات أجزاء رئيسية في المتحف من الداخل. أما مونيكا حنّا، عالمة المصريات بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، والمقيمة في أسوان، فترى أن المتحف يمثل فرصةً واعدةً لإلهام وتدريب جيل جديد من قادة البحث العلمي المصريين.
حصل المتحف على تمويل مقداره 950 مليون دولار أمريكي من اليابان، في صورة قرض واجب السداد. وتتولى الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة المصرية مهمة الإشراف على أعمال التصميم والتشغيل، بما في ذلك الأنشطة البحثية التي تتمُّ بين جنبات المتحف. وفي ظل هذا التداخل بين الاختصاصات، وتعدُّد الأطراف الفاعلة، يتساءل كثير من الباحثين عن دور هذا المتحف، المكرَّس لتاريخ مصر، في رسم ملامح مستقبلها.
كبير حقًا
لا يكاد الزائر يجتاز باب المُتحف، إلا وينطبع في نفسه – أول ما ينطبع – أنه إنما يدلف إلى صرحٍ عملاق بحق. يُنتظر أن يُعرض في المتحف ما يربو على 50 ألف قطعة أثرية تعود إلى مصر القديمة، منها نحو 30 ألفًا لم يسبق عرضها قط.
في القلب من هذه المعروضات، مجموعة الملك الذهبي «توت عنخ آمون»، الذي حكم مصر بين عامي 1332 و1323 قبل الميلاد، قُرب نهاية عهد الأسرة الثامنة عشرة. اكتُشفت مقبرته في وادي الملوك قبل مئة سنةٍ ونيّف، لكن محتوياتها الكاملة، التي يبلغ عددها نحو 5 آلاف قطعة أثرية، ستُعرض في المتحف لأول مرة، ومنها: كراسي العرش الذهبية، وخواتم، وتمائم وتعاويذ سحرية، وصناديق مزخرفة، وعربات حربية، إضافةً إلى قناعه الذهبي الشهير. لم يُعرض من هذه المجموعة من قبلُ سوى الثلث، وذلك في المتحف المصري بميدان التحرير، وسط القاهرة. وسوف تُعرض المجموعة كاملةً في صالتي عرض، من تصميم بروكنر، رُوعي فيهما أن تعكسا جوانب من حياة «الملك الصبي»، ولمحات من الأزياء التي رَفَل فيها الملوك إبَّان تلك الحقبة.
وإلى ذلك، يحتضن المتحف مركزًا لأبحاث ترميم الآثار، هو من بين الأكبر على مستوى العالم. افُتتح المركز في 2010، وفي عام 2017، استقبل نحوًا من 40 ألف قطعة أثرية، لتخضع للترميم، تمهيدًا لنقلها إلى مكانها الجديد. ومن بين الأهداف المرصودة للمُتحف، ومركز الترميم الذي يشتمل عليه، تشجيع النشاط البحثي المحلِّي الذي يتناول الآثار المصرية، مستهدفًا إنتاج عشرين ورقة بحثية في العام، تتنوَّع ما بين علم الآثار، وأنشطة الحفظ والترميم.
يعمل بالمركز 144 باحثًا وأخصائيَّ ترميم، 66 منهم نساء، يتوزَّعون على 17 مختبرًا متخصصًا، أنشئت في قبو المتحف، على عمق 10 أمتار أسفل سطح الأرض. وهم يعتمدون في الترميم أساليب تتيح لهم ترميم القطع الأثرية دون إتلافها. وتشمل أعمال الترميم المومياوات، وقِطَعًا مصنوعة من الحجر، وأخرى من المعدن، وثالثةً من الجلد، ومنها أيضًا المنسوجات، ومنها ما هو مصنوع من الزجاج والبردي. وهم في هذا كله لا يكتفون بالترميم، وإنما يشملون كل قطعة بالدراسة والتحليل، لمعرفة تاريخها، والوقوف على أهميتها الثقافية. وهدفٌ آخر، لا يغيب عن باحثي المركز، هو تحديد الظروف البيئية – من ضوءٍ ورطوبة وحرارة – التي تلائم حفظ كل قطعة، وتحُول دون تلفها، أو تدهوُر حالتها1. يقول طارق توفيق، عالم الآثار بجامعة القاهرة، والمدير السابق للمتحف: "تراكمت لدينا معارف هائلة".
يتمحور عملهم بصفة أساسية حول كنوز توت عنخ آمون، التي لم يسبق دراسة نحو 70% منها. ترى مارلين دو ماير، مساعدة مدير قسم الآثار والمصريات بالمعهد الهولندي الفلمنكي بالقاهرة، أن هذا "الكشف الأثري، على شهرته الواسعة، لم يحظَ بما يستحق من الاهتمام البحثي؛ فمعظم محتويات المقبرة لم يُنشر عنها ورقة بحثية واحدة".
Photography by Rehab Eldalil for Nature
درعٌ قيد الفحص
في يوم زيارة Nature إلى المتحف، كان باحثو مختبر المواد العضوية بمركز أبحاث الترميم غارقين في العمل حتى آذانهم. من بين المنجزات التي استطاع الفريق إحرازها، ترميم درع من مقتنيات الملك توت عنخ آمون. وسوف يُعرض الدرع، المصنوع من القماش وجلد الحيوان، لأول مرة في المتحف الجديد.
إنه درعٌ فريد، وسرُّ تفرُّده يكمن في أنه المثال الأوضح والأكثر اكتمالًا على الدروع التي كانت تُستعمل في منطقة شرق المتوسط إبان العصر البرونزي المتأخر (الذي امتد بين عامي 3300 و1200 قبل الميلاد). على مدى سنوات طويلة، لم يكن الباحثون يرون الدروع المستخدمة في مصر القديمة إلا في رسوم المعارك المسجَّلة على جدران المعابد.
صُمِّم الدرع بحيث يحمي صدر الملك وظهره، ليكون أشبه بإزارٍ لا أكمام له. وقد صُنع في الأصل من نحو 4 آلاف قطعة صغيرة من جلد الحيوان، تتخذ كل واحدةٍ منها شكلًا درقيًّا، أقرب ما يكون إلى ورقة الشجر، وهي مضفَّرة معًا لتعطي في مجموعها شكلًا أقرب إلى قشور السمك.
لم يبق من الدرع إلا ربعه، وعندما وصل إلى المختبر، كان في حالة يُرثى لها. أدى تخزينه في مكانٍ عالي الرطوبة، فيما سبق، إلى تعرُّض مكوناته لتلوُّث ميكروبيولوجي، وترتَّب على ذلك أن انبعثت منه رائحة عفن. وقد تعرَّف مدير مختبر المواد العضوية، صفوت محمد سيد، ومعه فريقه، على ثلاثة أنواع من الفطريات، ونوعين من البكتيريا على سطح الدرع وفي ثناياه، إضافةً إلى أنواعٍ مختلفة من الجدران الخلوية. وقد ضمَّنوا هذه النتائج في دراسةٍ نُشرت في وقتٍ سابق من العام الجاري2.
عندما اكتُشف الدرع في عام 1922، لم يُولَ اهتمامًا كبيرًا، لكنه دُهن بخليط من زيت الخروع، ومادة السيلولويد، وشمع البرافين، في محاولة للحيلولة دون تدهور حالته، إلا أنها لم تُكلَّل بالنجاح. واقع الحال أن هذه المعالجة ألحقت بالدرع ضررًا أكبر؛ إذ تكوَّنت على سطحه طبقة رقيقة بيضاء، كما ورد في الدراسة آنفة الذكر. واستعان باحثو المتحف بالعديد من أساليب الترميم بُغية إصلاح الدرع، وفصل قِطَعه الملتصق بعضها عن بعض.
سبق أن عمدت سليمة إكرام – الباحثة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي غير مرتبطة بالمتحف بعلاقة عمل – عمدت رفقةَ زملائها إلى تحليل سُمك هذه القِطَع التي يتألَّف منها الدرع3، وخلصت من تحليلها إلى أنها صُنعت من جلد ماشية غير معالَج. هذه المادة، وإن لم تمنح الملك الحماية التي تمنحه إياها صفائح البرونز، لابد أنها كانت تمنحه قدرًا أكبر من المرونة والقدرة على الحركة في المعارك، مقارنةً بالدروع المعدنية. ولكن لم يتبيَّن بعدُ ما إن كان توت عنخ آمون يلبس هذا الدرع في حياته، أم أنه مما يندرج في باب المقتنيات الشعائرية التي أودِعَتْ في مقبرته عند الدفن.
عندما فحص صفوت سيد، يعاونه فريق الترميم، الدرع بالأشعة تحت البنفسجية، لم يجدوا بُقَعًا دموية، أو أي شيء يدلُّ على آثار ضربات بالأسلحة2. فكان أن صمَّموا درعًا يحاكي الدرع الأصلي، وصوَّبوا نحوه السهام من مسافاتٍ متفاوتة، لقياس مستوى الحماية التي يوفِّرها الدرع، إلا أن النتائج لم تُنشر بعد. من بين هذه السهام، سهمٌ صوِّب من مسافة 12 مترًا، بسرعةٍ بلغَتْ 120 كيلومترًا في الساعة، ولم يخترق الدرع. فلمَّا رُمي السهم من على بُعد مترين اثنين، اخترقه. ومع ذلك، أفاد الباحثون في حديثهم إلى Nature بأن تعرُّض الملك للهجوم من مسافةٍ قريبة كهذه كان في أكبر الظن أمرًا مستبعدًا. وعليه، فإن "خلوَّ الدرع من بُقَع الدم وثقوب السهام لا يقطع في حد ذاته بأن توت عنخ آمون لم يلبسه في معاركه، وإنما يدلُّ على أنه لم يُصَب"، حسبما ذكر بوب برير، عالم المصريات في جامعة لونج آيلاند بمدينة نيويورك الأمريكية.
ينشغل فريق الترميم كذلك بالعمل على قطعة أخرى لم يسبق عرضها: إحدى سترات توت عنخ آمون، وهي منسوجة من الكتان المصبوغ. وصلت هذه السترة إلى المتحف تالفة، بفعل الرطوبة والحرارة العاليتين داخل المقبرة. ويبحث الفريق في ثنايا السترة عن أية دلائل على الإهلاك والبِلَى، أو أية آثار لموادَّ كيميائية ربما تكون قد استُخدمت في غسلها، ساعين من خلال ذلك إلى الإجابة عن السؤال: هل كان الملك الصبي يرتدي هذه السترة في حياته، أم أنها لا تعدو كونها زيًّا جنائزيًّا؟
الإلهة النسر
لأول مرة، سيكون الزوَّار على موعد مع قلادة مرمَّمة، تتخذ شكل الإلهة «نِخْبِت»، أو الإلهة النسر، عُثر عليه حول عنق مومياء توت عنخ آمون. خضعت القلادة للدرس4 على أيدي باحثي مركز الترميم، ومنهم عبد العزيز المرازقي، أخصائي الترميم بمختبر المواد اللاعضوية. صُمِّمت القلادة بحيث تفرد الإلهة النسر جناحيها على جانبي عنق الملك، دلالةً على الحماية. ويعتقد الباحثون أنها كانت قلادة جنائزية، أي أن الملك لم يكن يلبسها في حياته.
باستخدام العديد من وسائل التصوير والتحليل، استطاع أخصائيو الترميم بالمركز الكشف عن الشكل واللون الأصليَّيْن للقلادة. واكتشفوا أن القلادة فُقد منها بعض الخرزات الزرقاء التي وُثِّقَتْ لدى العثور عليها في عام 1925، قبل أن تودَع في صندوق صغير بأحد مخازن المتحف المصري بميدان التحرير. كما تبيَّن أن القلادة قد سقط منها بعض قِطَع الزجاج الحمراء والفيروزية المعتمة، وأن العديد من صفائحها ذهبية اللون فُقدَتْ منها قِطَع صغيرة من الذهب الخالص.
ومما لاحظه فريق الترميم، أيضًا، أن الصُّنَّاع القدماء نقشوا أرقامًا على ظاهر خرزات القلادة. فما كان من الباحثين إلا أن فكَّكوا القلادة، ثم أعادوا تجميع أجزائها وفقًا للترتيب الذي وضعه الصائغ المصري القديم.
إبحارًا إلى الحياة الأخرى
رَسا في المتحف المصري الكبير، في الآونة الأخيرة، مركبان أثريَّان يعودان إلى الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر، وهو من ملوك الأسرة الرابعة في الدولة القديمة، حَكَم مصر قبل نحو 4600 عام. وأحد المركبين لم يسبق عرضه للجمهور قط. وكان عالم الآثار المصري، كمال الملّاخ، هو مَن اكتشف المركبين، المصنوعين من خشب الأرز اللبناني، غيرَ بعيدٍ من الهرم الأكبر، جهة الجنوب، وكان ذلك في العام 1954.
عُثر على المركبين وأحدهما في حالةٍ جيدةٍ نسبيًا، فعُرضَ بعد إعادة بنائه في متحف أقيم على مقربة من الهرم الأكبر. ويُعتقد أنه أقدم هيكل خشبي باقٍ حتى يومنا هذا لسفينة أو شيءٍ يشبه السفينة في العالم أجمع. وفي عام 2021، نُقل المركب، المعروف بمركب خوفو أو مركب الشمس، ويزن 45 طنًّا، ويبلغ طوله 44 مترًا، وعرضه 6 أمتار، إلى موقعه الحالي داخل المتحف في صندوق معدنيٍّ ضخم5، صُمِّم لهذا الغرض خصِّيصًا. وهكذا، فلم يكن من عجبٍ أنه نُقِل على مهلٍ شديد، ليستغرق نقله – لمسافةٍ لا تستغرق في العادة أكثر من عشرين دقيقة – يومًا كاملًا. وكان نقلُهُ حدثًا عالميًّا بثَّته الشاشات على الهواء مباشرةً. ولم يكد المركب يبلغ مستقَرَّه الجديد، حتى شرع الفريق في تشييد الهيكل الذي سيكون مقرَّه الجديد.
أعدَّ برير ورفاقه نموذجًا للمركب، طوله متران، وأودعوه في حوضٍ مملوء بالماء، في محاولةٍ للوقوف على طبيعته، والغرض من بنائه. وانتهوا من تجربتهم هذه إلى استبعاد أن يكون الملك خوفو قد ركب البحر بهذا المركب في حياته. يقول برير: "ليس فيه سارية ولا شراع. أما المجاديف التي عُثر به عليها فليست من القوة بحيث يمكن أن تحرِّكه". ورجَّحت الدراسة التي أعدَّها الفريق أن المركب لم يكن في واقع الحال إلا عبَّارة جنائزية، مصمَّمة لعبور نهر النيل. يقول برير: "استُخدم المركب لنقل جسمان الملك خوفو من البرّ الشرقي [للنهر]، أرض الأحياء، إلى البر الغربي، أرض الموتى".
أما المركب الثاني، فقد فكَّكه قدامى المصريين، ودفنوه مفكَّكًا إلى الجنوب من الهرم الأكبر، وغطّوه ببلاطات ضخمة من الحجر الجيري. وقد تشكَّلت بعثة أثرية مصرية يابانية مشتركة، نجحت إلى الآن في استخراج 1700 قطعة من قِطَع المركب الخشبية، وتعكف حاليًّا على ترميم المركب وإعادة بنائه7.
وجد الباحثون، ضمن ما وجدوا، 8 مجاديف للتوجيه، و52 مجدافًا للتسيير، وبعض الأجزاء النحاسية المستقلة؛ ما يعزز الاعتقاد بأن هذا المركب ربما كان يُستخدم للإبحار، حسبما أفاد عيسى زيدان، الذي يرأس الفريق المسؤول عن ترميم المركب الثاني. يقول: "لا يبعُد أن يكون المركب الثاني قد استُخدم في جرِّ الأول". وأغلب الظن أن المركب كان يحتاج إلى أكثر من خمسين رجلًا لإنزاله إلى النهر، وفقًا لدراسة أعدَّتها كانان يوشيمورا، الباحثة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة7.
شأنٌ عسكري
رغم كل هذه الإنجازات، وغيرها كثير، لا يذهب بك الظن أن طريق المُتحف المصري الكبير كانت ممهَّدة، أو أن رحلته كانت سهلة. طُرحَت فكرة إنشاء المُتحف، أوَّل ما طُرحَت، في تسعينيات القرن المنصرم، عندما بدا جليًّا أن المتحف المصري بقلب القاهرة أصغر من أن يستوعب 7 آلاف زائر يوميًّا.
حصلت الحكومة المصرية على قرض من اليابان لتشييد متحف جديد. ثم كان أن أُقيمت منافسة، أشرفت عليها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والاتحاد العالمي للمعماريين، تقدَّم إليها نحو 1550 مكتبًا هندسيًّا من 83 دولة بتصورات تصميمية. وقع الاختيار في عام 2003 على مكتب «هينيجان بينج أركيتكتس» Heneghan Peng Architects، وحُدِّد العام 2009 موعدًا لإتمام المشروع.
غير أن المشروع توالت عليه التأخيرات، وتعاقبت الإدارات، وإن كان ذلك لأسباب خارجة عن الإرادة. حدث، أولًا، أن اجتاحت مظاهرات الربيع العربي، التي اندلعت في وجه الحكم الاستبدادي، دولًا عدَّة في منطقة الشرق الأوسط بين عامي 2010 و2012. وفي العام 2016، أُسنِدَتْ مهمة الإشراف على مشروع المتحف إلى فريق من المهندسين يرأسه لواء مهندس من الجيش المصري، يُدعى عاطف مفتاح. وما هي إلا أعوام قلائل حتى حلَّت بالعالم جائحة «كوفيد-19»، وما لحق بها من أزمة اقتصادية طاحنة.
لا يندُر أن تتولى المؤسسة العسكرية إدارة المشاريع الكبرى في البلدان التي تتسم أجهزتها الحكومية بالضعف. متحدثًا إلى Nature، قال مفتاح: "فيما مضى، كان للسفينة أكثر من رُبَّان، وكانت تدور حول نفسها، عوضًا عن المسير في خط مستقيم. أما الأمر بالنسبة لي، بوصفي رجلًا عسكريًّا، فهو مهمة، والمهمة لابد أن تُنجَز، وتُنجَز بنجاح".
أما برير، فلا يرى غرابةً في تدخُّل الجيش، شارحًا موقفه بالقول إن "المؤسسة العسكرية منخرطة في كل شيء في مصر". وأضاف برير أن الجيش يمتلك شركات، والمتحف سيكون، كما يبدو، كنزًا ثمينًا. وممّا يُذكر في هذا الصدد أن السياحة بالنسبة إلى مصر تُعد مصدرًا رئيسيًّا للعملة الصعبة وفُرَص العمل، وسط أوضاع صعبة وتحديات جمَّة يمرُّ بها الاقتصاد المصري، إذ جلبت السياحة للخزينة العامة خلال العام المالي 2022-2023 نحوًا من 13.6 مليار دولار. ويُتوقع أن يُدِرَّ المتحف ما يقرب من 55 مليون دولارٍ كل عام، هي قيمة تذاكر الدخول لنحو 5 ملايين زائر في العام الواحد.
تساءل بعض الباحثين الذين تحدَّثَتْ إليهم Nature عن مدة بقاء المتحف ومركز الترميم تحت إدارة الجيش. ذكر زاهي حواس، وزير الآثار المصري الأسبق، أن الجيش يقدِّم الدعم في مرحلة تشييد المُتحف، وأنه سيترك إدارته بمجرد افتتاحه رسميًّا. يقول: "لا يمكن تخطيط أعمال المتحف عن طريق عسكريِّين".
وثمة آخرون، طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم، يساورهم القلق؛ قلقٌ مردُّه إلى تجارب الجيش السابقة مع المتاحف في مصر. وكان المتحف المصري، المقام في ميدان التحرير منذ 122 عامًا، قد استُخدم كمكان احتجاز لعدد من المتظاهرين المشاركين في مظاهرات الربيع العربي، في عام 2011. ومن جانبه، رفض مفتاح الإجابة عن الأسئلة التي وجَّهتها إليه Nature بشأن موعد انسحاب الجيش من إدارة المتحف الجديد بعد افتتاحه.
Credit: Andre Pain/EPA/Shutterstock
كتابة تاريخ مصر
من بين المرامي البعيدة للمتحف الجديد، العمل على استعادة زمام الأمور – ولو جزئيًّا – في مجال علم المصريات؛ وهو المجال الذي طالما كان مرتبطًا بالماضي الاستعماري. أكثر الكشوف والأبحاث الأثرية التي رأت النور خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تمَّت على أيدي أوروبيين وأمريكيين، خلال فتراتٍ كانت مصر فيها محكومةً بغير المصريين، أو واقعةً تحت سلطة جهاتٍ خارجية.
تقول مونيكا حنا: "نعم، استطعنا الاحتفاظ بمجموعة توت عنخ آمون، لكنَّ الاستعمار جرَّدنا من القدرة على إنتاج معارف عن ماضينا". والحقُّ أن علماء الآثار الغربيين، الذين صاغوا السردية السائدة عن تاريخ مصر القديم، صاغوها على نحوٍ جعلها مستغلقةً أو تكاد على المصريين؛ بالنظر إلى أن أكثر ما كُتب عنها كُتب بلغاتٍ أوروبية. وحتى المصطلح «مصريات» – الذي يغطي حِقَبًا من تاريخ البلد لا تشمل العصرين المسيحي والإسلامي – صكَّه علماء أوروبيون.
من المعروف أن مقبرة توت عنخ آمون اكتُشفت في وادي الملوك، قرب الأقصر، في نوفمبر من عام 1922، على يد عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر. حينها، أعطى جورج هربرت – الذي كان شخصية أرستقراطية إنجليزية مرموقة، وراعي بعثة كارتر الأثرية – أعطى حقوق نشر خبر اكتشاف المقبرة لصحيفة «ذا تايمز» The Times اللندنية حصرًا، واختصَّها بالخبر دون سائر الصحف. يقول برير: "لم يسمع صحافيو مصر بهذا الكشف إلا من خلال «التايمز»، وأحدث ذلك ضجةً كبرى".
يذهب بعض الباحثين إلى أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون كان بداية النهاية للاحتكار الاستعماري الذي كان مضروبًا على علم المصريات. ومع ذلك، استغرق الأمر من جامعة القاهرة قرابة خمسين عامًا أخرى، حتى فتحت كليةً مستقلةً للآثار في العام 1970، وأتبعتها بقسم لدراسات الترميم بعد مُضي سبع سنوات أخرى. وحتى يومنا هذا، يُلاحظ أن عدد الأبحاث الأثرية التي تخرج من مصر لا يُقاس بمثيلتها التي تُجرى في البلدان الغنيَّة. إلا أن فريق المتحف المصري الكبير أكَّد في تصريحاتٍ لمجلة Nature عزمه على تغيير هذه الصورة.
إعادة علم المصريات إلى مصر
يرى الباحثون في مصر أن افتتاح المُتحف لابد أن يصحبه وضع خطة لإعادة الآثار التي خرجت من البلاد، بما في ذلك المواد الأرشيفية. فعلى الرغم من أن مصر سنَّت قوانين لمنع تصدير التُّحَف الأثرية إلى خارج البلاد منذ العام 1835، لم يَحُل ذلك دون خروج الكثير من الكنوز المصرية القديمة، التي غدت اليوم متناثرةً في أكثر من 350 مؤسسة، موزعة على 27 دولة، تشمل قارات العالم المأهولة الخمس8.
ترى حنّا أن "المشكلة الحقيقية إنما تكمن في أن هوارد كارتر أخرج جميع البيانات الخاصة بهذا الكشف [من مصر]، وأودعها في معهد جريفيث"، التابع لجامعة أوكسفورد، بالمملكة المتحدة. وتقول: "أعتقد أنه لابد من إعادة هذا الأرشيف من معهد جريفيث، ليكون جزءًا من معروضات مقبرة توت عنخ آمون". وأضافت حنّا: "ليس في وسعنا إنتاج معرفة عن الماضي بغير الاتكاء على هذه الأرشيفات؛ إذ بدونها، سنتعامل مع مجرد أشياءٍ عُثر عليها في باطن الأرض، لا مع [آثار] مستخرَجة بعناية، وموثَّقة بدقة".
توجَّهَتْ Nature بسؤال يخصُّ هذا الأرشيف إلى ريتشارد باركنسون، نائب مدير معهد جريفيث، فقال إن الأرشيف في حالةٍ رثَّة، لكنه قرَّر في الوقت نفسه أن "المُطالبات بإعادة الأشياء إلى موطنها مُرحَّب بها دائمًا". وصرَّح بأن الأرشيف جرى تحويله إلى صيغة رقمية، وهي مُتاحة للجميع، وإن تكُن الصور جودتها منخفضة، مضيفًا أن بإمكان المتحف توفير صور جديدة عالية الجودة، يتيحها بالمجَّان للباحثين المصريين.
تُنادي مونيكا حنّا كذلك بإدخال تغييرات منهجية على مجال علم المصريات، تتجاوز المشاريع الفردية، أو مؤسسات على شاكلة المتحف المصري الكبير. تقول: "نزع الصبغة الاستعمارية عن علم المصريات لا يستلزم بالضرورة تشييد متحف كبير، ولكن إرساء السياسات الخليقة بتمكين الأكاديميين من تنفيذ أعمال التنقيب والاستخراج، والإسهام في بناء معرفتنا بالماضي. وهذا غير حاصل على أرض الواقع".
وأضافت: "ما لم يكن لدينا من الاستقلال المالي ما يعيننا على تنفيذ أعمال الاستخراج، ومشاريع الترميم، ومشاريع إدارة المواقع، وغير ذلك من المشاريع الأثرية، لن يكون في مقدورنا تنقية علم المصريات من هذه النزعة الاستعمارية".
تنظر سليمة إكرام إلى المتحف المصري الكبير بعين التفاؤل. تقول: "المتحف، بما فيه من مختبرات متقدمة، وعلماء على أعلى مستوًى من التمكُّن، يُفسح للباحثين مجالات التعاون، ويمنحهم فرصة إنجاز أعمالهم. إلا أن الجهد البحثي لا ينبغي أن يقتصر على المسائل البرَّاقة التي تلفت الأنظار وتحبس الأنفاس، وإنما تتجاوزها إلى طرح أسئلة بحثية حقيقية، والقدرة على التصدي لهذه الأسئلة، من أجل إحراز تقدُّم ملموس في هذا المجال، وتعميق معرفتنا بمصر القديمة".
على أن الكثيرين، ومنهم سليمة إكرام، يرون أن السعي إلى صياغة سردية وطنية لعلم المصريات لا ينبغي أن يأتي على حساب الباحثين غير المصريين، أو أن توصَد دونهم أبواب البحث. تقول إكرام: "دراسة مصر القديمة ليست قصرًا على ثقافة أو مجموعة بشرية بعينها؛ فالمعرفة والعلم والبحث العلمي أسمى من أن تحدَّها حدود الأوطان".
يصف طارق توفيق المتحف بأنه "قفزة هائلة إلى الأمام على طريق البحث العلمي، على الصعيدين الوطني والعالمي. وأمامه فرصة سانحة ليقود البحث العلمي في مضمارَي علم المصريات والترميم إلى اتجاهات جديدة في مصر، بالتعاون مع الجهات المعنية بهذين المجالين في شتى ربوع العالم". ويقول حواس: فيما مضى، "كانت زمام علم الآثار في أيدي الأجانب، أما الآن فقد أصبحت في أيدينا".
كتبه: ميريام ندّاف
حرَّره: إحسان مسعود
محرر ثان: آن هاجارت
تصوير: رحاب الدليل، لصالح Nature
تحرير الصور: توم هوتون
تصميم الخرائط: بول جاكمان
* هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور بدورية Nature بتاريخ 22 مايو 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.166
References
1. Kamal, H. M., Elkhial, M. M. & Tawfik, T. S. Stud. Conserv. 63 (Suppl. 1), 138–145 (2018).
2. Mohamed Sayed, S., Metawi, R., Alshoky, A. & Kamal, H. J. Gen. Union Arab Archaeol. 9, 110–126 (2024).
3. Veldmeijer, A. J., Hulit, L., Skinner, A. & Ikram, S. J. Anc. Near-East. Soc. Ex Oriente Lux 48, 125–156 (2022).
4. Elmarazky, A., Kharboush, N., Abdrabou, A. & Kamal, H. in Proc. 20th Int. Counc. Mus. Comm. Conserv. Trienn. Conf. (Valencia, Spain) abstr. 140 (ICOM-CC, 2023).
5. Hamza, N. et al. in Proc. 20th Int. Counc. Mus. Comm. Conserv. Trienn. Conf. (Valencia, Spain) abstr. 183 (ICOM-CC, 2023).
6. Brier, B., Morabito, M. G. & Greene, S. J. Am. Res. Center Egypt 56, 83–99 (2021).
7. Yoshimura, K. A Comparative Study between Khufu’s First and Second Boats in Respect of their Materials, Archaeological Conditions, and Conservation. Master’s thesis, American Univ. Cairo (2022).
8. Stevenson, A. Scattered Finds: Archaeology, Egyptology and Museums (UCL Press, 2019).
تواصل معنا: