عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 19 أبريل 2024
دراسة شارك فيها باحثون بجامعة نيويورك أبو ظبي: تسخير تكوين الميكروبيوم ونشاطه لتحسين صحة المرجان وقدرته على مقاومة الإجهاد.
على مدار العشرين عامًا الماضية، جابت السيدة "إليكا أنزليم" بحار الأرض ومحيطاتها من أجل المرجان، وخلال العام الماضي، زارت "أنزليم" البحر الأحمر لاستكشاف الشعاب المرجانية؛ فلطالما تعجبت السيدة الأربعينية من الألوان النابضة بالحياة والأشكال البحرية الصاخبة المعقدة التي تسكن هذه المدن تحت الماء.
بالنسبة لها، لم يكن الغوص مجرد هواية، بل أسلوب حياة، ومصدر إلهام، وملاذًا شعرت فيه بالحياة، لكن فرحتها يشوبها إحساس عميق بالغضب والإحباط؛ فمع كل عملية غوص، كانت تشهد التأثير المدمر للنشاط البشري على الشعاب المرجانية.
تقول "أنزليم" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست" إنها رأت شعابًا مرجانية مبيضة وهامدة، متشابكة في شباك الصيد المهملة ومختنقة بالحطام البلاستيكي ومدمرة بسبب التغير المناخي.
وتضيف: شاهدت على مدار السنوات فقدان التنوع البيولوجي مع انهيار النظم البيئية للشعاب المرجانية، التي تحولت من أنظمة كانت مزدهرة ذات يوم إلى أراضٍ قاحلة.
تُعد الشعاب المرجانية أكثر النظم البيئية البحرية تنوعًا بيولوجيًّا على وجه الأرض؛ إذ توفر موطنًا لنحو 30% من جميع الأنواع البحرية، لكن يهددها الصيد والتلوث والتوسع الحضري، وارتفاع درجة حرارة المحيطات وتحمُّضها، ونقص الأكسجين، وغيرها من الأنشطة.
غطاء الشعاب المرجانية
منذ خمسينيات القرن الماضي، فُقد حوالي نصف غطاء الشعاب المرجانية، ووفقًا للتقديرات الأخيرة، قد تختفي 90٪ من الشعاب المرجانية العالمية حتى في ظل سيناريو الاحترار الأكثر تفاؤلًا بمقدار 1.5 درجة مئوية، وفق "أمين رشدي"، الباحث بمختبر الأحياء الدقيقة البحرية بجامعة نيويورك أبو ظبي، والمشارك في دراسة مرجعية تبحث في الكيفية التي يُمكن بها إنقاذ ما يُمكن إنقاذه من المرجان.
ووفق الدراسة التي نشرتها دورية "نيتشر ريفيوز ميكروبيولوجي" (Nature Reviews Microbiology)، تنخرط الشعاب المرجانية في العديد من عمليات التعايُش مع الكائنات الحية الدقيقة، مثل البكتيريا والفطريات والفيروسات وغيرها من الكائنات الحية الدقيقة التي تمثل معًا ما يُعرف بالميكروبيوم.
وتشير الدلائل إلى أن تكوين الميكروبيوم ونشاطه يرتبطان بصحة المرجان، ويمكن تسخيرهما لتحسين قدرته على المقاومة.
لكن تنوع الشعاب المرجانية يَزيد من صعوبة دراستها؛ إذ تستضيف كائنات حية دقيقة متنوعة، تتضمن البكتيريا والفيروسات، التي تختلف داخل المستعمرات المرجانية وفيما بينها، ووفقًا للنطاقات المكانية والزمانية.
وبرغم التحديات، فإن فهم أدوار الكائنات الحية الدقيقة الفردية أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز جهود الحفاظ على الشعاب المرجانية.
الميكروبيوم
يقول "رشدي": هناك تفاؤل بأن فهم وظائف الميكروبيوم قد يعزز بقاء المرجان، فعلى سبيل المثال، أظهرت التدخلات التي تستهدف الميكروبيوم في البيئات المختبرية نتائج واعدة في حماية الشعاب المرجانية ومساعدتها على التعافي من ضغوطات درجات الحرارة المرتفعة مثلًا.
ويؤدي الميكروبيوم المرجاني دورًا محوريًّا في صحة المرجان وعمله، وتعتبر العلاقات التكافلية بين الشعاب المرجانية والكائنات الحية الدقيقة -مثل الارتباط مع الطحالب التعايُشية من فصيلة المكافلات (Symbiodiniaceae)- أساسيةً لبقاء الشعاب.
وبينما تُظهر بعض الشعاب المرجانية ميكروبيومًا مرنًا يتكيف مع الظروف المتغيرة، فإن البعض الآخر يحافظ على مجتمعات ميكروبية مستقرة مقاومة للاضطرابات البيئية، ويختلف مفهوم الميكروبيوم الأساسي -الذي يُعرَّف على أنه مجموعة من الأصناف الميكروبية المرتبطة باستمرار- باختلاف الأنواع المرجانية والسياقات البيئية، مما يسلط الضوء على الحاجة إلى مناهج مصممة خصوصًا لأبحاث الميكروبيوم.
يقول "رشدي": تنخرط الشعاب المرجانية الصحية في تكافل وظيفي مع مجموعة من الكائنات الحية الدقيقة المفيدة عند الإجهاد (مثل ارتفاع درجه الحرارة)، ويتم تغيير خصائص التجمع الميكروبي، وتنتشر مسببات الأمراض والبكتيريا الانتهازية وتتناقص أعداد الكائنات الحية الدقيقة على نحوٍ ملحوظ، وبمجرد أن يصبح المرجان معرضًا للخطر، يمكن للبكتيريا الضارة احتلال المنافذ المتاحة واستغلال مواردها، مما يؤدي إلى ظهور الابيضاض وأمراض المرجان.
ويُضعف ذلك الحالة الصحية للمرجان فيصبح عُرضةً للإصابة بالأمراض، ويفقد قدرته على التكاثر ويموت، ما يؤثر سلبًا على النظام البيئي من أسماك وكائنات بحرية ترتبط حياتها بالشعاب المرجانية.
إعادة تأهيل صحة المرجان
يقول "كريستيان فولسترا" -أستاذ علوم الأحياء بجامعة "كونستانس" الألمانية- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": التدخلات النشطة القائمة على الميكروبيوم -مثل علاج الميكروبات أو توفير البروبيوتيك- يُمكنها إعادة تأهيل صحة المرجان عبر ضبط الميكروبيوم وإعادة برمجته، ما يحميه من آثار التغيرات المناخية"، فتقليل الظروف المسببة للضغط يحافظ على العلاقات التكافلية ويستعيدها، ويثبط الارتباطات المرضية التي تُسبب ابيضاض المرجان، وفق "فولسترا".
من جهته، يقول "شادي أمين"، الأستاذ المشارك بجامعة نيويورك أبو ظبي، والمؤلف المشارك في الدراسة: "إن التقدم التكنولوجي يعزز فهمنا للتفاعلات بين الكائنات المرجانية والكائنات الحية الدقيقة، ويطور حلولًا عمليةً للحفاظ على الشعاب المرجانية".
يضيف "أمين": رغم التحديات التي تواجه دراسة المرجان، فإن استخدام تقنيات الجينوم المختلفة يُمكنها الإسهام في تجميع العديد من الجينومات عالية الدقة للمرجان وعشرات إلى مئات البكتريا المرتبطة بالمرجان، ودراسة التعبير الجيني لآلاف الجينات، مما يساعد في فهم آليات التفاعل بين البكتيريا النافعة والحفاظ على المرجان.
وتتضمن إحدى الإستراتيجيات استخدام طفرات الجينات المعطلة، وهي بكتيريا معدلة وراثيًّا خالية من جينات وظيفية محددة، لنمذجة الأنواع المضيفة، ومن خلال تلقيح هذه الطفرات في مضيفات حيوية (مستنفدة للبكتيريا) أو مضيفة عديمة البكتيريا (خالية من البكتيريا)، يمكن للباحثين تحديد التفاعلات الرئيسية بين البكتيريا المضيفة والمرجان.
وتتيح فحوصات تحليل النسخ -مثل تسلسل الحمض النووي- دراسة أنماط التعبير الجيني وفهم آليات تنظيم الجينات في الأنظمة البيولوجية.
ويقول "رشدي": إن دراسة التعبير الجيني للجينوم بأكمله أصبحت ميسورة التكلفة نسبيًّا، وبدلًا من إجراء تفاعل البوليميراز المتسلسل لعدد محدود من الجينات، يعمل الباحثون على دراسة النسخة الجينية بأكملها، وهي جميع الجينات الموجودة في الجينوم في وقت واحد، "وهذا يعني أنه في حالة المرجان الذي لديه أكثر من 20 ألف جين يمكننا دراسة استجاباتها كلها مرةً واحدةً في التجربة".
العالم العربي
لا يبدو العالم العربي بمنأى عن التغييرات التي تحدث في المرجان؛ فعلى الرغم من درجات ملوحة المياه العالية، يتمتع البحر الأحمر والخليج العربي ببيئات بحرية متميزة لها مرونة عالية في مقاومة ارتفاع درجات الحرارة، "لكن ارتفاع درجة حرارة البحر لفترة طويلة بمقدار درجة مئوية واحدة فقط فوق المتوسط الصيفي يمكن أن يسبب ابيضاض المرجان، كما هو الحال في معظم البحار".
ومع ذلك تبدو بعض الشعاب المرجانية محصنة، كما في شمال البحر الأحمر في مصر؛ إذ لم تشهد الشعاب المرجانية في المنطقة أي ابيضاض، وفق "رشدي"، الذي يؤكد أن درجات الإجهاد الحراري في البحر الأحمر عمومًا تصل إلى 32 درجة مئوية، "وهي الدرجة المميتة للمرجان في منطقة مثل الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا".
بذلك، يوفر البحر الأحمر فرصةً ثمينةً لكشف الأسرار الجينية والميكروبية لتكيُّف المرجان، ما يساعد على فهم كيفية مرونة الشعاب المرجانية لمساعدتها في مناطق أخرى مع ارتفاع درجة حرارة المحيطات.
وتشير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الحالية إلى أن المجتمع العالمي سوف يفشل في الحد من ارتفاع درجات الحرارة بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق درجات حرارة ما قبل الصناعة بحلول عام 2100، "وبالتالي تتوقع السيناريوهات الأكثر منطقيةً أن يتراوح الارتفاع بين درجتين و3 درجات مئوية، وهذا يعني أنه من دون خفض الانبعاثات بسرعة للحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى أقل من درجتين مئويتين، فإننا نواجه خطر فقدان 99% من الشعاب المرجانية على مستوى العالم".
من هنا تأتي أهمية دراسة علاقة المرجان بالميكروبيوم؛ إذ يحتاج العالم إلى تضافر جميع الجهود في كل الاتجاهات للحفاظ على النصف الآخر من المرجان.
ورغم التحديات والانتكاسات التي تواجهها الشعاب المرجانية، ترفض "أنزليم" فقدان الأمل، وتؤمن بمرونة الطبيعة وقوة العمل الجماعي، مضيفةً: أعلم أنه إذا اهتم عددٌ كافٍ من الناس واتخذوا الإجراءات اللازمة، فلا يزال من الممكن حماية الشعاب المرجانية واستعادتها لتتمتع بها الأجيال القادمة.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.124
تواصل معنا: