عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 21 أكتوبر 2023
التقنية وفرت لأول مرة رؤية قريبة لكيفية عمل الرئة في الوقت الفعلي وعلى المستوى الخلوي دون تعطيل وظائفها الفسيولوجية
في محاولة لرصد البنية المُعقّدة للرئة ووظائفها على المستوى الخلوي، طوّر باحثون في جامعة بوسطن الأمريكية -بمشاركة باحث مصري- تقنية تصوير جديدة، يُطلق عليها اسم "القفص الصدري البلوري" أو الشفاف (Crystal Ribcage) قالوا إنها قد تُحدث ثورة، ليس فقط في فهمنا لوظيفة الرئة، بل تحمل أيضًا إمكانيات هائلة للأعضاء الأخرى مثل القلب.
أوضح الباحثون في دراسة نشرتها دورية "نيتشر ميثودز" (Nature Methods) أن التقنية الجديدة، التي تمت تجربتها على رئة الفئران، تمنح العلماء رؤية قريبة لكيفية عمل الرئة في الوقت الفعلي، وعلى المستوى الخلوي، دون تعطيل عملياتها الطبيعية؛ إذ يستمر التنفس والدورة الدموية كالمعتاد في أثناء المُراقبة والرصد.
يقول هادي نيا، الباحث بقسم الهندسة الطبية الحيوية ومركز الرئة بجامعة بوسطن الأمريكية، وقائد فريق البحث: "إن طرق التصوير الحالية للرئة لا يمكنها رصد الأحداث الديناميكية للخلية المفردة في المراحل المُبكرة من تطور المرض، مثل تفاعلات الخلايا المناعية مع الخلايا السرطانية والبكتيريا".
يضيف "نيا" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": إنه باستخدام تقنية القفص الصدري البلوري، يمكننا لأول مرة تصوير رئة الفأر وصولًا إلى المستويات الخلوية بينما تحتفظ بوظائفها الفسيولوجية مثل التنفس ودورة الدم والنشاط المناعي، "نحن الآن قادرون على دراسة العديد من أمراض الرئة في الخطوات الأولى لبدء المرض".
وأوضح الباحث أن محدودية التصوير بالرنين المغناطيسي والتصوير المقطعي والتحليلات النسيجية جعلت من تصوير التنفس النشط والدورة الدموية تحدِّيًا، لكن باستخدام القفص الصدري البلوري، نقوم لأول مرة بتصوير المراحل الصلبة (الخلايا) والسائلة (تدفق الدم) والغازات في الرئة العاملة وصولًا إلى النطاق الخلوي في الوقت الفعلي.
القفص الصدري البلوري
من الناحية الجوهرية، يصعب تصوير أنسجة مثل القلب والرئتين في الجسم الحي بدقة خلوية، لكونها في حالة حركة مستمرة، وتقبع في عمق التجويف الصدري.
من أجل ذلك، طور الفريق تقنية "القفص الصدري البلوري"، وهي عبارة عن قفص صدري شفاف ومتوافق حيويًّا مع رئتي الفئران، تُغلَّف فيه الرئتان خارج الجسم بعد استئصالهما جراحيًّا، في حين استطاع الفريق توفير بيئة ملائمة للرئتين لممارسة الوظائف الفسيولوجية مثل التنفس ودورة الدم.
وفق "نيا" فإن الرئة يمكنها العمل من الناحية الفسيولوجية داخل القفص الصدري البلوري؛ إذ تتم تهوية الرئة بداخله إما بالضغط الإيجابي لمحاكاة التهوية الميكانيكية، أو بالضغط السلبي لمحاكاة التنفس التلقائي، ويتم أيضًا تدوير الرئة بالدم لتوفير العناصر الغذائية لخلايا الرئة، ثم يُوضع القفص الصدري البلوري على المجهر ويتم تصوير الرئة بالدقة المطلوبة.
بالإضافة إلى إمكانيات التصوير التي يوفرها القفص الصدري البلوري، فإنه يجعل الباحثين قادرين على التدخل بعدة طرق في التنفس أو الدورة الدموية، مثل إضافة الأدوية، أو تغيير المعلمات الفسيولوجية للرئة، مثل محاكاة التمارين الرياضية عن طريق زيادة معدل التنفس وعمقه، ودراسة التغيرات اللاحقة في بنية الرئة ووظيفتها.
استوحى الباحثون تصميم القفص الصدري البلوري من القفص الصدري الأصلي للفأر، ما يعني عدم وجود ضغط إضافي على أي جزء من الرئة، وهذا يتيح التصوير ثلاثي الأبعاد لسطح الرئة بالكامل، مع الجمع بشكل فريد بين فوائد نماذج الفئران الحية (التنوع الخلوي، وبنية الرئة ثلاثية الأبعاد، والتنفس والدورة الدموية) ونماذج الأعضاء في المختبر (مزايا التصوير والتحكم الشامل والدقيق في الفيزيولوجيا الدقيقة)، ولم يكن ذلك ممكنًا من قبل.
وتم تزويد القفص الصدري البلوري بذراع مخصصة يمكن ربطها به لوضع أي منطقة من سطح الرئة فوق المجهر أو تحته، لتصوير الفص بأكمله أو الحويصلات الهوائية المفردة، مما يتيح فحص الأمراض الرئوية الموضعية تشريحيًّا، مثل الالتهاب الرئوي الفصي، والتقاط سمات متفرقة مثل نقائل الورم، ومراقبة ديناميكيات التنفس والدورة الدموية، والاتصالات السريعة بين خلايا الرئة بطريقة فعالة.
اختلافات رئيسية
تختلف التقنية الجديدة عن الطرق التقليدية عند دراسة الرئتين؛ إذ كلٌّ من التصوير بالرنين المغناطيسي والأشعة المقطعية يتيح رؤية الرئة بأكملها، لكن دقتهما المكانية والزمانية منخفضة؛ إذ لا تسمح التقنيات الحالية برصد الأكياس الهوائية المفردة المعروفة باسم الحويصلات الهوائية، والشعيرات الدموية المفردة، والأحداث الخلوية مثل هجرة الخلايا المناعية والسرطانية.
وفي المقابل، تم تصميم القفص الصدري البلوري لتوفير بيئة القفص الصدري الأصلي للحفاظ على وظيفة الرئة الفسيولوجية بينما يعمل الباحثون على تصوير سطح الرئة بالكامل تقريبًا، ما يساعد على رصد سرطان الرئة الأولي والمنتشر، والعدوى البكتيرية، والتليف الرئوي، وانتفاخ الرئة، وإصابة الرئة الحادة.
يقول "نيا": "لقد حددنا المرحلة الأولى من تكوين الأورام عندما تتعرض بنية الحويصلات الهوائية ووظائفها للخطر، واختبرنا وظائف الدورة الدموية الديناميكية للشعيرات الدموية التي أعيد تشكيلها عن طريق نمو الورم والالتهاب الرئوي، ونحن متحمسون للتعاون مع مجتمع البحث لتعزيز معرفتنا الجماعية بتطور المرض، والتأثيرات العلاجية، وشيخوخة الرئة في أثناء عملها".
طفرة في التنبؤ بالأمراض
من جهته، يرى مصطفى هاشم -أستاذ الأشعة التشخيصية والتداخلية، بكلية الطب في جامعة أسيوط المصرية- (لم يشارك في الدراسة) أن التقنية التي طورها الباحثون تستطيع رصد الأحداث الخلوية وتتبُّعها في الوقت الفعلي داخل الرئة، بصورة تماثل دقة مَن يعزل خلايا من الرئة ويفحصها مثلًا تحت الميكروسكوب ليرصد ما فيها من تغيرات.
يضيف "هاشم" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": "دخول هذه التقنية حيز التطبيق قد يُمكِّننا من رصد التغيرات التي تحدث داخل الخلية قبل أن تتحول إلى خلايا سرطانية، واكتشاف الأورام الخبيثة في مراحلها المبكرة جدًّا، وإعطاء العلاجات اللازمة، وهذا سيقلل بشكل كبير من الإصابة بسرطان الرئة".
بدوره، أكد طه عبد الحميد -أستاذ أمراض الصدر والحساسية في كلية الطب بجامعة الأزهر- (لم يشارك في البحث) في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست" أن هذه التقنية يمكن أن تساعد على اكتشاف أمراض الرئة الناجمة عن الأمراض المناعية مثل الروماتويد والذئبة الحمراء، ويتطلع الباحثون في المستقبل إلى تطوير أفكار مماثلة تناسب الدماغ، عن طريق تصنيع "جمجمة بلورية" لتصور الدماغ بأكمله في أثناء عمله.
ويُبدي "هاشم" تحمسًا كبيرًا للدراسة، مؤكدًا أنه بنجاح هذه التقنية على الرئة، يمكنها أن تفيد في تتبُّع أعضاء أخرى في الجسم ورصدها، وفي مقدمتها القلب عبر رصد التغيرات التي تطرأ على الخلايا والشرايين.
ويقول": تظهر ترسبات الدهون والتكلسات في الشرايين أولًا على المستوى الخلوي، وتأخذ كثيرًا من الوقت قبل أن تتسبب في ضيق الشرايين، وبالتالي فإن رصدها في بدايتها قبل حدوث تضخم وضيق في الشرايين يساعد في الوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية المُهددة للحياة.
دور مستقبلي
يتطلع الباحثون إلى تطوير القفص الصدري البلوري للحيوانات الكبيرة -مثل الخنازير- والرئات البشرية لاستكشاف الأمراض والعلاجات في بيئة أكثر صلةً من الناحية السريرية.
ويقول أحمد رسلان، المدرس بكلية العلوم في جامعة أسيوط المصرية، وباحث ما بعد الدكتوراة بكلية الطب بجامعة بوسطن الأمريكية، والمشارك في الدراسة: "إذا دخلت التقنية حيز التطبيق على البشر، نتطلع أن يكون لها دور في مراقبة استجابة الرئة للأدوية، بالإضافة إلى دورها في عمليات زراعة الرئة، من خلال مراقبة وظائف العضو المزروع ومدى قدرة الجهاز المناعي على تقبُّله أو رفضه".
يضيف "رسلان" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": قد لا يقتصر دور التقنية الجديدة في المستقبل على مراقبة الرئة خارج الجسم فقط، لكن نطمح أن تتحول إلى تقنية لتصوير الرئة داخل الجسم الحي، كمثيلاتها من تقنيات التصوير الأخرى مثل الأشعة المقطعية.
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.207
تواصل معنا: