أخبار

الجوع والمجاعات: قضاء وقدر أم بفعل فاعل؟ 

نشرت بتاريخ 17 يوليو 2023

يعاني مئات الملايين من البشر من الجوع بسبب تأثر الإمدادات الغذائية بالصراعات.. فيما تتواتر الشواهد على استغلال منتجي المواد الغذائية للأوضاع لمضاعفة أرباحهم. 

على المجتمع الدولي التصدي لاستخدام الغذاء سلاحًا في أيدي الأطراف
المتصارعة، كما
حدث في اليمن (في الصورة).

على المجتمع الدولي التصدي لاستخدام الغذاء سلاحًا في أيدي الأطراف المتصارعة، كما حدث في اليمن (في الصورة).


Credit: Ahmad Al-Basha/AFP/Getty

Enlarge image
يعاني حوالي 200 مليون شخص من الافتقار الشديد إلى الأمن الغذائي. بعض هؤلاء يعيشون في أفغانستان، وبعضهم يعيش في بوركينا فاسو، وإثيوبيا، ومالي، والسودان، وسوريا؛ وجميعها دول تمزقها الصراعات الدامية – ولا عجب، فالارتباط بين الجوع والصراعات وثيق.

في تقرير مقدم إلى الأمم المتحدة في مارس، قال مايكل فخري، مقرر المنظمة الخاص المعني بالحق في الغذاء، إن العنف والصراع هما في الواقع السببان الرئيسان وراء الجوع في أنحاء العالم كافة. كما أنهما من أهم مسبِّبات انحراف العالم عن مسار القضاء على الجوع وسوء التغذية بحلول عام 2030، وهو التعهد الذي قطعه قادة العالم في قمة الأمم المتحدة في عام 2015، ليكون واحدًا من أهداف التنمية المستدامة.

هذا الأمر يبعث على القلق لأسباب عدة. فهو، من ناحية، يشير إلى أنه ما لم تُتَّخذ خطوات لمواجهة هذه الظاهرة، فإننا سنتخلى عن مئات الملايين من البشر في مواجهة الجوع الشديد. كما أن اندلاع العنف يؤدي، من ناحيةٍ أخرى، إلى عرقلة الجهود الحاسمة الرامية إلى دراسة سياسات القضاء على الجوع، ووضعها موضع التنفيذ.

من المقرر أن يجتمع رؤساء الحكومات في مدينة نيويورك، في سبتمبر المقبل، ليتباحثوا الحلول. صحيحٌ أنَّ الاجتماع سوف ينعقد في وقتٍ يشهد توترًا كبيرًا بين القوى العالمية، إلا أن المشاركين عليهم أنْ يدركوا أنَّ أهداف التنمية المستدامة المرتبطة بالقضاء على الجوع لن تتحقق ما لم يتم الحد من العنف، أو على أقل تقدير، ما لم تتوقف أطراف الصراع عن استخدام الغذاء كسلاح.

يستند تقرير فخري إلى عقود من الدراسات، وكذا إلى بيانات حديثة من جهاتٍ أخرى، من بينها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ويصف التقرير العلاقة بين شتى أشكال العنف، بما في ذلك العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، من جهة، وغياب الأمن الغذائي من جهةٍ أخرى. وواقع الأمر أن الصراعات تهدد الأمن الغذائي بتدميرها المحاصيل، على سبيل المثال، أو قطع الإمدادات الغذائية؛ وهو ما حدث - وما زال يحدث – في الحروب، من مالي إلى ميانمار. زِد على ذلك أن التدابير القسرية، مثل العقوبات الاقتصادية الدولية بحق البلدان المتحاربة، تسهم في تفشي الجوع. والدليل على ذلك، وفقًا للتقرير، أن العقوبات "محددة الأهداف" تعطل النظم الغذائية أيضًا.

كما يوضح التقرير كيف أن الأزمات الاقتصادية العالمية تؤدي هي الأخرى إلى تفاقم الجوع وانعدام الأمن الغذائي. فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في معظم الدول، ولا سيما في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ففي الوقت الذي انخفض فيه معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية في البلدان الغنية المنضمة إلى عضوية منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إلى حوالي 12٪ في المتوسط في شهر أبريل المنصرم، لا تزال معدَّلات التضخم أعلى بكثير في عدد من البلدان منخفضة الدخل أو متوسِّطتِه، حيث يبلغ 81٪ في لبنان، و27٪ في مصر، و30.5٪ في زيمبابوي، وفقًا لبيانات البنك الدولي المنشورة الشهر الماضي. وهذا راجع إلى عوامل أبرزها جائحة «كوفيد-19» والغزو الروسي لأوكرانيا؛ حيث أثَّرت الحرب على الإمدادات العالمية للمحاصيل الأساسية. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن روسيا وأوكرانيا كانتا مسيطرتين معًا قبل الحرب على ثلث حجم محصول القمح العالمي. على صعيد أخر، يؤثر الارتفاع العالمي في أسعار الطاقة أيضًا على قدرة الأُسَر الفقيرة على استخدام الغاز وأنواع الوقود الأخرى للطهي.

أوضح الخبير الاقتصادي
أمارتيا سين في كتابه «الفقر والمجاعات» الصادر
عام 1981، كيف أن المجاعات ترتبط بسياسات الحكومات.

أوضح الخبير الاقتصادي أمارتيا سين في كتابه «الفقر والمجاعات» الصادر عام 1981، كيف أن المجاعات ترتبط بسياسات الحكومات.


Credit: Raj K Raj/Hindustan Times/Getty

Enlarge image

وعلى ذلك فإن الباحثين يشيرون إلى أن تضخم أسعار الغذاء يُعزى في جانبٍ منه إلى المنتجين، وخاصة الشركات الكبرى، التي ترفع الأسعار لزيادة أرباحها. هذا ما درج عليه التجار متى أدركوا أن المشتري ليس لديه من خيار سوى دفع المزيد للحصول على أشياء لا يمكنه الاستغناء عنها، مثل الطعام والوقود. يطلق الباحثون على هذه الظاهرة «التضخم الناتج عن سلوك البائعين» sellers’ inflation، وهي الظاهرة التي ربما تكون من بين الأسباب التي تقف وراء استمرار ارتفاع معدلات التضخم، خاصة بالنسبة لأسعار الغذاء، في ظل فشل الإجراءات، المتمثلة في رفع أسعار الفائدة، في خفضه.

هذا ما خلصت إليه ورقتا عمل أشرفت عليهما إيزابيلا ويبر، الباحثة الاقتصادية في جامعة ماساتشوستس في أمهيرست. ففي دراسة نمذجة نُشرت في نوفمبر الماضي، وجدت ويبر وفريقها أن أسعار الغذاء وأسعار الطاقة تشكلان المحركين الأكبر للتضخم (I. M. Weber et al. Economics Department Working Paper Series 340; 2022). وفي دراسة لاحقة، نُشرت في فبراير الماضي، درس الباحثون مجموعة من الشركات الأمريكية في القطاعين ووجدوا أنه في عام 2022، شكلت الأرباح تضخمًا يساوي التضخم المرتبط بالأجور، أو يتجاوزه (I. M. Weber and E. Wasner Economics Department Working Paper Series 343; 2023).

وها نحن نلحظ أن دراستَي ويبر تحُثَّان عددًا من الحكومات على إحداث تغيير، وتجذب اهتمام المؤسسات المالية. فقد وجد صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي، أن أرباح الشركات شكلت ما يقرب من نصف حجم التضخم في منطقة اليورو العام الماضي (N.-J.Hansen et al. IMF Working Paper No. 2023/131؛ 2023).

تقف ويبر في صفوف الداعين إلى وضع الحكومات حدًّا أقصى لبعض الأسعار التي يفرضها المنتجون. إلا أن العديد من الاقتصاديين في الحقل الأكاديمي، والحكومات التي يقدمون لها المشورة، يعارضون هذا التوجُّه، بحجة أن هذه الضوابط السعرية تشوه الأسواق. وفي خضم ذلك الجدل الدائر، يجد الفقراء أنفسهم عالقين في مواجهة ارتفاع الأسعار، وتأخر التدخلات الاقتصادية.

حريٌّ بالباحثين أن يواصلوا الكشف عن أسباب تفاقم الجوع، وكيفية القضاء عليه. ويمكن لمزيدٍ من الباحثين، مثلًا، دراسة كيفية تأثير الصراعات على تفشي الجوع بشكل أكثر تفصيلًا. كما يمكنهم تحليل عناصر التضخم، لا في أوروبا والولايات المتحدة فحسب، ولكن في البلدان ذات الدخل المنخفض الدخل والمتوسط أيضًا. في كتابه «الفقر والمجاعات» Poverty and Famines، الصادر عام 1981، أثبت الخبير الاقتصادي أمارتيا سين أن الجوع والمجاعات لا تنجم بالضرورة عن نقص الغذاء، بل هي نتاج أفعال البشر وخياراتهم. وعلى حد قول فخري، أصبح القادة أمام خيارين: إما الوفاء بتعهدهم بشأن تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتصلة بالقضاء على الجوع وسوء التغذية، أو الاستمرار في جعل الغذاء ضحيةً للصراعات.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.105