مقالات

قصة "الجيزة" غير المروية

نشرت بتاريخ 11 يوليو 2023

دلائل حفرية جديدة تكشف معلومات عن تاريخ محافظة الجيزة الموغل في القدم.. وتقدم دلائل حول الوجبات التي تناولها المصري القديم في عصر بناء الأهرامات

محمد منصور

Ancient Art and Architecture / Alamy Stock Photo Enlarge image

في العصر الذهبي لمصر القديمة، وقف العمال أمام البناء المهيب المرتفع صوب السماء، يتأملون ما صنعت أياديهم، لم يعرفوا على الإطلاق أن ذلك البناء الضخم سيصبح في يوم من الأيام إحدى العجائب التي يرنو إليها الجميع بإعجاب من كل حدب وصوب.

 

واليوم، يقف البناء المهيب شامخًا وسط الجيزة مُعبرًا عن العبقرية الاستثنائية للمصري القديم الذي تحدى الزمن بذلك التصميم المعروف اليوم باسم الاهرامات.. أهرامات الجيزة.

 

وطيلة مئات السنوات، شرع علماء الآثار في دراسة ذلك البناء، ونُشرت عشرات الدراسات، ونُسجت حوله الأوهام التي تختلط بنظريات البناء والتي سعت لفك تشابكات ذلك المبنى المهيب وألغازه.

 

غذاء غني

 

تجيب دراسة جديدة عن تساؤل لطالما نُسجت حوله الأساطير: مَن قام ببناء الأهرامات؟

 

تزعم بعض النظريات أن بناة الأهرامات كانوا من العبيد أو العاملين بالسخرة، غير أن الدراسة الجديدة، والتي اتبعت طريقًا غير تقليدية لكتابة تاريخ الماضي، تقول إن البناة كانوا من العمال المهرة الذين يتبعون نظامًا غذائيًّا عالي الجودة والوفرة، غنيًّا بالبروتين الحيواني والفواكه بشكل غير معتاد حتى بين الفلاحين العاديين في مصر القديمة.

 

تتحدى تلك الدراسة -بالدليل العلمي القائم على الحفريات- النغمات السائدة والنظريات السابقة التي تقول إن عمال الهرم عملوا بالسخرة أو كانوا مجرد عبيد؛ إذ كشفت أدلة حفرية جديدة مُستخرجة من باطن أرض مدينة الجيزة أن عمال الأهرامات تناولوا اللحوم والفواكه والشعير والقمح، وفق المؤلفة الأولى للدراسة "هدير شعيشع"، الباحثة في مركز "سيريج" لعلوم الأرض والبيئة التابع لجامعة "إيكس مرسيليا" الفرنسية.

 

تشير الدراسة إلى أن "القبائل التي تعود أصولها إلى الصحراء الشرقية استقرت على طول هضبة الجيزة منذ 5200 عام، وكانت تعمل بالرعي في المقام الأول، وبشكل متقطع في الزراعة، ومع تطور مساحات شاسعة من السهول الفيضية، تحولت الجيزة إلى منطقة رعوية، ما أتاح لتلك المجتمعات إمكانية الوصول الدائم إلى المنتجات الحيوانية مثل البروتينات والحليب واللحوم والصوف".

وتضيف الدراسة أن "بيانات علم الأحياء القديمة تكشف أن المجتمعات المعقدة الأولية في الجيزة كانت متجذرةً بعمق في الرعي وتربية الحيوانات، وأدت هذه الأنشطة دورًا أساسيًّا في إرساء أسس نظام غذائي قوي ومستدام، وكانت أيضًا بمنزلة دعم لوجستي حاسم للبناء اللاحق للهياكل الأثرية التي احتفلت بعظمة مصر الفرعونية".

تبدأ القصة قبل سنوات، حين انضمت "شعيشع" إلى مجموعة بحثية معنية بدراسة تاريخ الحضارة البشرية في السياق البيئي، وفي عام 2019، انضمت الباحثة إلى مشروع "جيزة بورت" للعمل على منطقة الأهرامات، ويستهدف ذلك المشروع سد فجوة معرفية كبيرة تتعلق بسياقات منطقة الجيزة المناخية وتطور ديناميات النشاط البشري فيها، وخاصةً في مجالَي الزراعة والملاحة.

 

خلال ذلك المشروع، عملت بعثتان منفصلتان في تلك المنطقة، تمكنت البعثة الأولى من جمع عينات من الرواسب على متوسط عمق 14 مترًا من منطقة ترعة "اللبيني"، التي افترض الباحثون أنها كانت مكانًا لقناة مائية قديمة.

 

أما البعثة الثانية فقد حصلت على عينات رسوبية من أعماق تصل إلى 20 مترًا داخل السهل الفيضي، بهدف معرفة تاريخ الاستعمار البشري لمنطقة الجيزة.

 

فرع خوفو

 

في العصر الذي سبق الأهرامات، كانت الجيزة ممتلئةً بالمستنقعات التي تجعل من استعمارها بشريًّا أمرًا غير ممكن، ثم تحولت الجيزة -بفعل فرع قديم من النيل أمد المنطقة بالحياة- إلى منطقة صالحة للسكن.

تقول "شعيشع" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": اكتشفت سابقًا الدليل القاطع على وجود مجرى ملاحي وفرع قديم من النيل سميته فرع خوفو من خلال الرواسب النهرية ومجمعات النباتات النيلية في المكان.

 

بعد ذلك الاكتشاف، ظلت الباحثة المصرية تبحث عن إجابة لسؤال هو: هل كانت الجيزة ميناءً وموقعًا لبناء الأهرامات فقط؟ أم ضجت تلك المنطقة بالحياة وعاش فيها أناس عاديون يُمارسون الزراعة، خاصةً وأن الدولة المصرية القديمة كانت قائمةً في هيكلها على النشاط الزراعي في وقت بناء الأهرامات، وفق "شعيشع".

 

هذا السؤال قادها إلى تساؤلٍ آخر هو: إذا كانت الجيزة منطقة سكنية، فماذا كان يأكل سُكانها؟

 

اختلاف كبير

 

كان المكان المعروف اليوم باسم محافظة الجيزة مختلفًا بدرجة كبيرة، ففي أثناء عصر الهولوسين المبكر -قبل نحو 8 آلاف عام- كانت الجيزة مكانًا مغمورًا بالماء؛ إذ كانت سرعة الترسيب النهري في المكان عاليةً جدًّا، وكانت هناك قنوات مائية متصلٌ بعضها ببعض.

تقول "شعيشع": إن بيئة الجيزة في ذلك التوقيت كانت بيئةً عدائيةً للاستقرار البشري، وقبل نحو 5500 عام، بدأت الجيزة في دخول مرحلة الجفاف التدريجي؛ إذ ظهرت الجزر وبدأ السكان في غزو المنطقة، وفي عصر توحيد الدولة والأسرات المبكرة كانت الجيزة أشبه بمرعى كبير غير جيد التصريف، فيه الكثير من المياه.

 

ومع بداية الدولة القديمة، جفت الجيزة بشكل جيد وبدأت في استيعاب حياة المجموعات البشرية التي مارست الرعي في المراعي المفتوحة، وبدأ ظهور الزراعة على الجزر جيدة التصريف.

 

نباتات محنطة

 

لكن، ماذا كان طعام السكان في الجيزة؟ تقول دراسات سابقة اعتمدت على بقايا النباتات المُحنطة في جرار المقابر ورسومات المعابد والنصوص: إن المكون الرئيسي لغذاء المصريين هو الشعير وحبوب القمح والفول والعدس والبقوليات والخضراوات، علاوةً على الأسماك ولحوم الخنازير، كما كان المصريون القدماء يأكلون الفواكه والعسل، لكن المطبخ المصري القديم لم يعرف الطيور -مثل الدجاج- أو الزيتون إلا بعد دخول الرومان والبطالمة إلى مصر.

 

في تلك الدراسة، أجرى الباحثون مجموعةً من التحليلات على بقايا مجموعة من الفطريات معروفة باسم "فطريات كوبروفيلوس" (Coprophilous fungi)، تنمو على المخلفات الحيوانية والجلود، كما درسوا مجموعة أخرى من الفطريات التي تنمو في التربة المجرفة والتي تُشير إلى وجود نشاط رعوي، ومجموعة من النباتات التي تنشط في الأماكن التي تطؤها قطعان الحيوانات.

 

تقول "شعيشع": إن وجود تلك النباتات وعدم إزالتها يعنى أن المكان يخضع لنشاط رعوي غير زراعي؛ فعلى الرغم من أن مجتمع الجيزة القديم كان يُمارس الرعي والزراعة إلا أن دلائل وجود الرعي بشكل مكثف متفوقة للغاية.

 

تطور الجيزة

 

لكن، كيف تتحدى نتائج الدراسة الجديدة النظريات أو الافتراضات القائمة حول تاريخ وتطور الجيزة والمناطق المحيطة بها؟

 

 تقول "شعيشع" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": مَن يدرس الجيزة في عصر بناء الأهرامات يركز على المجمع الجنائزي والدفائن باعتبارها كل شيء، ويظل التصور السائد هو أن الجيزة في أفضل الأحوال ستكون ميناء وقرية ملحقة، حيث مارس الناس فيها الزراعة، وبما أننا نعرف أن الدولة المصرية كانت قائمةً في هيكلها على النشاط الزراعي في أثناء المملكة القديمة وقت بناء الهرم، لكن المفاجأة أن كل هذا يبدو تصورًا بسيطًا لواقع أشد تعقيدًا، أثبت الدليل الحفري وجود حبوب لقاح لنباتات القمح والشعير والفول في أثناء مدة بناء الأهرامات، التي استغرقت حوالي 23 عامًا، لكن بنسبة صغيرة أقل من 10% (3٪ بالنسبة للقمح والشعير وحوالي ٦٪ لعائلة البقوليات المستأنسة مثل الفول)، أما باقي التكوين النباتي فقد كان لنباتات برية تنمو على حدود القنوات المائية للنيل (مثل البردي وديل القط)، وأكثر من 60% لأعشاب مراعٍ، ما يعني ببساطة أن المكان كان مرعىً في معظمه وليس مخصصًا للزراعة.

 

أدلة بيولوجية وكيميائية

 

يجمع البحث الجديد معلومات حول البيئات القديمة بهدف تقديم رؤية جديدة للتاريخ.

 

تقول "شعيشع": إن الأبحاث البيئية التاريخية التي تستخدم أدلة بيولوجية وكيميائية تعتبر حديثة جدًّا في مصر، وهذا المجال ما زال أمامه الكثير ليجيب عنه؛ فالحفريات تحتفظ بقصة أخرى لن ترويها لنا الوثائق، فمثلًا قد نرصد مجاعةً أو هجرةً جماعيةً في منطقة في حين لا توجد وثائق تاريخية على ذلك.

 

تقول "شعيشع" التي بدأت لتوها رحلة دراسات ما بعد الدكتوراة بمعهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو: سأطرح خلال رحلتي أسئلة جديدة تتعلق بمواقع ما قبل التاريخ والموانئ المبكرة، هذا قد يكشف الكثير عن نشأة الدولة المصرية، وتاريخ النيل في مصر الذي ما زال غامضًا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.101